دارفور: عبد الرحمن إبراهيم : يدفع الاطفال في دارفور فاتورة الاقتتال القبلي وازمة الاقليم التي تطاول امدها، ومن يسجل زيارة لمعسكرات النازحين يتوقف على هذه الحقيقية التي تبدو واضحة في وجوه وسلوكيات من يطلق عليهم نصف الحاضر وكل المستقبل.. «الصحافة» سبرت غور عالم الأطفال بمعسكرات النازحين وبالمدن وخرجت بحقائق تبدو مؤلمة وصادمة، الا انها واقع يحتاج للعلاج حتى لا تستفحل القضايا التي تحيط بالصغار وتهدد مستقبلهم. وأسهمت الحرب والاقتتال القبلي في نزوح ولجوء الآلاف من الأسر بأطفالهم صوب معسكرات النازحين بحثاً عن الامان الذي افتقدوه في موطن اجداداهم، ولم تتوقف الهجرة نحو المعسكرات التي ما ان يندلع احتراب قبلي الا وتفيض بما رحبت، وكان آخر اسباب النزوح الاحداث التى وقعت بمناطق جنوبنيالا ومنطقة السريف بشمال دارفور فى مطلع فبراير من عام 2013م ومنطقة جكمة بجنوب دارفور، وكذلك الاحداث التي جرت بين المعاليا والرزيقات والمسيرية والسلامات وغيرها من حروب قبلية شهدها الاقليم أخيراً، مما يؤكد استمرار معاناة اطفال دارفور الذين يقطنون المعسكرات او أولئك الذين يواجهون الخطر في اية لحظة بالمدن والقرى، فالصراع القبلي بات من ابرز الأسباب التي تدفع الاطفال للهروب مع اسرهم صوب معسكرات النزوح التي تجاوز عددها المئة. النشأة والمولد هنالك اطفال ولدوا بمناطقهم ولم تتجاوز اعمارهم «السنة والسنتين او الثلاث سنوات» نزحوا ولم يمهلوا قسطاً من الزمن للتعرف على اهم معالم قراهم واريافهم، ولكن يد القدر أرادت ان تسوقهم الى ديار لم يتوقعها آباؤهم وامهاتهم ان تكون موطناً قسرياً لهم، وجاءوا الى المعسكرات فى سن الحضانة برفقة اسرهم الذين لاقوا ما لاقوا من معاناة حينما افتقدوا الامن والحماية، ولم يجدوا ما يسد رمقهم من جوع وعطش، فاحتضنتهم منظمات اجنبية بالمعسكرات، فهؤلاء تربوا وترعرعوا فى احضان معسكرات معظمها كانت مغلقة ولا يستطيع اى كائن حتى ولو تربطهم به صلات رحم ان يدخلها.. اطفال يتفاعلون دائما مع كل اجنبى ويحذرون التعامل مع بنى جلدتهم.. يلقون التحية «للخواجات» ولا يردونها للمواطن العادى «لشيء فى نفس يعقوب»، ولكن عندما تقترب منهم قد تتعرف الى بعض «الشيء» الذي في نفوسهم.. اطفال تجاوزوا سن الطفولة وهم على مشارف الدخول فى طور المراهقة، ثم يعقبهم اطفال ولدوا بالمعسكرات اعمارهم بين «تسعة إلى عشر سنوات» اصبحوا يبحثون عن فردوسهم المفقود اى «ديارهم»، ويتساءلون من أين نحن؟ ومن أين ينحدر آباؤنا وأمهاتتنا، ولماذا نقطن فى هذه العشش وغيرنا يسكن في منازل وعمائر. أسئلة حائرة حدثنى العم أبكر عيسى نازح من منطقة شطاية بغرب دارفور بأن طفله الذى اصبح صبياً بات يغوص فى عمق الاشياء ومسبباتها، وأن الآباء مثله دائماً يتحاشون الاجابة عن الاسئلة خوفاً من تأثيرات الحقيقة داخل نفوس الصغار، ولكن معظم الاطفال يتقلون اجابات صريحة لاسئلتهم الحائرة فى الشارع العام بالمعسكرات، واحيانا بطريقة غير مباشرة عبر جلسات السمر التى يعقدها آباؤهم من خلال الرجوع بذاكرتهم إلى ما حملته لهم سوالف الايام من معاناة وقتل ونزوح، بعض منها تأتى فى شكل دعابات ونكات والأخرى تأتي عندما يتذكرون شخصاً كان عزيزاً عليهم افتقدوه، وغالباً جلسات السمر يحضرها اطفال يحاطون علماً من خلال انصاتهم الى ما يسرده الكبار في سمرهم بحقيقة ما حدث لهم، ويجدون اجابة عن تساؤلاتهم الحائرة. مفردة «جنجويد» كلمة «جنجويد» تستخدم فى دارفور منذ زمن بعيد، وهنالك روايتان بشأن الكلمة، الأولى مفادها أنها تطلق على الأشخاص او الناس كثيري العدد غير المنظمين والهمجيين فى تصرفاتهم، اما الرواية الثانية فهي ان الكلمة اطلقت على المحاربين والمتفلتين من ابناء القبائل إبان الحروب الاهلية التى اجتاحت العديد من المناطق بدارفور فى القرون السابقة، ليتم تداول هذه المفردة بصورة طبيعية خلال زمن مضي، ولم تكن تحمل دلالات وابعاداً كثيرة، الا انها وخلال الفترة الاخيرة باتت شائعة، وارتبطت لدى اطفال المعسكرات بانطباع أن الجنجويد هم من يخالفون القانون وانهم السبب في نزوحهم وتشردهم، الا انه وخارج المعسكرات يتم تداول المفردة بشكل طبيعي ومختلف عن الانطباع السائد في المعسكرات. انحراف ورفض كل ما هو سوداني ودون مواربة تحدث لنا بعض كبار السن بالمعسكرات بأسى وحسرة على حال الشباب والاطفال الذين يقطنون المعسكرات، ويكشفون عن انتشار تعاطي الخمور والمخدرات وسط هذه الشريحة، والشباب والاطفال يفضلون قضاء اوقات الفراغ المملة بالمعسكرات بالتوجه صوب اندية المشاهدة للتعرف علي اخبار البلاد السياسية وتلك التي تتعلق بدارفور، وذلك عبر القنوات الاخبارية العالمية، ويرفض الشباب والاطفال مشاهدة القنوات السودانية، كما يفضل الشباب والاطفال مشاهدة المسلسلات المكسيكية والتركية والصينية، ويرفضون كل ما هو سوداني في ظاهرة غريبة توضح عمق الازمة التي يعيشها قاطنو المعسكرات، ومسلسلات مثل حريم السلطان وملكة جانسي ووادي الذئاب وجنفما تحظي بنسبة مشاهدة عالية وتفاعل منقطع النظير، ويفضل الشباب والاطفال كل ما هو مرتبط بالعنف مثل افلام «الآكشن» الامريكية والمصارعة الحرة التي لها رواج كبير، ويحفظ الاطفال اسماء نجومها مثل جون سينا والروك وسي ام بانك اكثر من حفظهم أسماء وشخصيات سودانية معروفة، وكل واحد منهم يتمنى ان يصبح بطلاً في المصارعة ليس حباً في الرياضة ولكن من اجل حماية نفسه، كما اشار الى ذلك طفل يدعي حسن بأحد المعسكرات. مرارات وهنالك تخوف ينتاب الجميع بدارفور من ان الاطفال الذى اكملوا سن المراهقة والذين خرجوا الى الدنيا بالمعسكرات، يمكن ان تنمو في دواخلهم روح الانتقام والكراهية تجاه الآخرين لاحساسهم بالغبن والظلم الذى حاق بهم وتسبب فى بقائهم بالمعسكرات دون التوصل الى حل بشكل نهائى ينهى معاناتهم، وهنا يقول طفل فى التاسع من عمره بمعسكر كلمة انه لا يحب الدراسة وينتظر متى يكبر ليأخذ «حقه» من الذين تسببوا فى نزوح أسرته وأهله، ويتمنى ان يصبح قائداً عسكرياً، وفى نفس السياق يقول صبي آخر إن الحرب زجت بهم فى المعسكرات وحطمت كل آمالهم وطموحاتهم وانهم لم ينعموا بحياة كريمة مثل الاطفال الذين يرونهم فى التلفزيونات الذين تهتم الحكومة بمدارسهم ولبسهم واكلهم، وهم لا يجدون من يقدم لهم يد العون غير المنظمات الأجنبية التي قال إنهم يثقون فيها اكثر من الحكومة. أزمة شاملة فى المقابل بالرغم من ان تفكير اطفال المعسكرات جله ينصب حول المأساة التى يعيشونها بالمعسكرات والبحث عن واقع افضل، بالمقابل يعيش اطفال المدن حياة بلا معنى ولا يهتمون بمستقبلهم الاكاديمي ولا يشعرون بمعاناة اخوانهم بالمعسكرات، وعزا مراقبون ومنهم الباحث حامد آدم الأمر الى ان ازمة دارفور القت ظلالها السالبة على الاطفال والمراهقين بل والشباب، وقال إن هذه الشريحة بات جل اهتمامها ينحصر في «اللبس وتصفيف الشعر والذهاب الى الحفلات وعدم الاهتمام بالدراسة»، ويقول ان هنالك ظواهر سالبة وسط اطفال المدن مثل انتشار تعاطي المخدرات بصورة كبيرة، بجانب شرب بعض الكحول المسكرة مثل مشروب «الظرف» الذى اصبح متوفراً بصورة خيالية، وهو مشروب قادم من دولة تشاد ولا يوجد بمعسكرات النزوح. والتقيت عدد من الطلاب بنيالا وكانوا يجلسون تحت احدى اشجار الطريق فى شكل دوائر بالقرب من مدارسهم وهم يلعبون لعبة قريبة من القمار تسمى «الخريط» وذلك اثناء اليوم الدارسى، وكما علمت لا يمكن للمعلم ان يتدخل لمنعهم وتوبيخهم لأنه بحسب طالب يدعي عثمان من الممكن ان يتعرض الى الاهانة او السب من قبل التلاميذ وربما اسرهم، وفي صورة متناقضة يقضي محمد وهو طالب بمدارس بليل يوميا ثلاث ساعات ذهاباً واياباً من معسكر السلام جنوبنيالا الى مدينة بليل من اجل التعليم، وسألته عن ارهاق ومشقة المشى. فرد بأنه لا يشعر بأي تعب مادام انه يقصد العلم واكتفى بهذه العبارة. اسماعيل تلميذ باحدى المدارس الخاصة بمدينة نيالا نفى علمه بوجود معسكرات بالمدينة، وقال انه يعلم ان هناك مواطنين تم طردهم من قراهم. زواج مبكر وظاهرة الزواج المبكر منتشرة في معسكرات النازحين بصورة تدعو للدهشة، فاثناء تجوالي بمعسكر كلمة حضرت مناسبة زواج شاب لم يتعد عمره السابعة عشرة من طفلة لم يتجاوز عمرها خمسة عشر عاماً، وعلمت ان الزواج المبكر شائع في المعسكرات، ويلجأ اليها الآباء خوفاً من انحراف ابنائهم، وفي هذا الصدد يقول حسن كودي وهو يقطن معسكر الحميدية إن للنزوح وحياة المعسكرات الكثير من السلبيات التي تنعكس على حياة الأطفال والشباب، لذلك يفضلون عقد قران الشباب حتى لا ينحرفوا عن طريق الفضيلة.