الواثق كمير ودور المثقف الوطني ٭ الاستاذ هاني رسلان الكاتب المصري المهتم بالشأن السوداني، كتب الاسبوع الماضي في «الأهرام الاقتصادي» مقالاً علق فيه على مقالات كتبها بالصحف السودانية الكاتب الاكاديمي الدكتور الواثق كمير.. ولما كان الموضوع الذي تناوله دكتور الواثق في غاية الاهمية، لا سيما في الظرف الراهن، رأيت ان اوسع دائروة قراءة ما كتبه الاستاذ هاني لاهميته أيضاً.. فموضوع المثقف ودوره الوطني يفرض نفسه بالحاح في هذه المرحلة من عمر الحراك السياسي.. رأيت أن اوسع الدائرة وادعو قراء «من العمق العاشر» لقراءة ما كتبه الاستاذ هاني رسلان في «الأهرام الاقتصادي». «في النصف الأول من الثمانينيات كانت الثورة الايرانية في قمة توهجها اثر الانتصار الباهر الذي حققته باسقاط نظام الشاه، وكانت افكار هذه الثورة وقادتها ومفكروها محل اهتمام بالغ لدى النخبة والرأى العام على امتداد العالمين العربي والاسلامي.. وازدهرت الكتابات والبحوث والترجمات عن الفكر السياسي الشيعي والحوزات ونظرية ولاية الفقيه، وكان من بين الكتب التي ذاعت وانتشرت في تلك الفترة «العودة إلى الذات» للكاتب والاستاذ الجامعي علي شريعتي باعتباره مفكر الثورة الايرانية، غير أن علي شريعتي كان له مقال آخر مهم لم يأخذ حظه من الذيوع والانتشار كان عنوانه على ما اذكر (مسؤولية المثقف تجاه المجتمع) وكان يدور حول أهمية دور المثقفين في تنبيه مجتمعاتهم وإدراك الملامح العامة لحركة المجتمع وقضاياه، والتحديات التي تواجهه وإمعان النظر في ضبط مساره من خلال استشراف المستقبل. وفي خلاصة المعنى يقول شريعتي ودون الوقوع في التشبيهات الحرفية إن دور المثقف أن يقوم بدور النبي حيث لا نبوة. ٭ توارد إلى ذهني المعنى المتعلق بدور المثقف الوطني الذي يستبصر المستقبل وينبه قومه، وأنا اقرأ بتمعن المقال المطول للدكتور الواثق كمير المعنون (طلقة اخيرة في الظلام: كيف يرضى الرئيسان المنتخبان شعبيهما؟) والذي نشر في ثلاث حلقات في اكثر من صحيفة سودانية، كما نشرت نسخة مختصرة منه بالتوازي في مجلة «المصور» المصرية. ٭ الواثق كمير هو احد الوجوه الشمالية البارزة التي احتلت موقعاً بارزاً في الحركة الشعبية لتحرير السودان، وهو احد اهم من قدموا جهداً توثيقياً وتحليلياً لمشروع السودان الجديد، وكان مقرباً من القائد الراحل جون قرنق.. الواثق كمير الاستاذ الجامعي الذي بقي وفياً لقناعاته ودفع ثمن مواقفه.. لم يكن سياسياً باحثاً عن السلطة او الجاه او شخصاً طامحاً للكسب او النفوذ، بل هو مثقف صاحب رؤية سعى إلى تقديمها الى بني وطنه ما وسعه الجهد.. وقد دفع ثمن مواقفه تلك بقدر كبير من الرضاء والتعفف في آن واحد. ٭ التقيت به أخيراً في احدى زياراته للقاهرة، بعد تواصل متقطع عبر الهاتف. ويتمتع الرجل بشخصية آسرة، وبه عفوية وبساطة وتلقائية محببة تنبع من صدقه الداخلي ونقائه الناصع وحماسه لافكاره، ويمتزج ذلك مع عقله المتوهج وتوثبه الدائم للاشتباك، وتشعر كأنه صديقك منذ سنين. ٭ ورغم اقامته في منفاه الاختياري في تونس، فقد ظل متابعاً ومتواصلاً مع التطورات الجارية.. ومن موقعه هذا كتب هذا المقال الذي ضمنه برنامجاً قد يمثل طوقاً للنجاة للسودان من الانقسام والتشرذم والفوضى، يدعو فيه إلى مجموعة من الأفكار المحورية يكمن ايجازها في المطالبة بحوار جاد ومباشر بين المؤتمر الوطني وشريكه في الحكم من جهة، والقوى السياسية المعارضة من جهة اخرى، للتوصل الى توافق وطني واتفاق سياسي على العناصر الاساسية لبرنامج قومي لمقابلة التحديات التي تواجه البلاد عبر توسيع قاعدة الحكم من خلال حكومة مشاركة وطنية لتنفيذ برنامج متفق عليه سياسياً دون الانشغال بالمسميات من عينة (قومية) أو حكومة ذات قاعدة عريضة، ويدعو ايضاً الى الاتفاق على انشاء منبر قومي اهلي (منبر مستقبل السودان تشترك فيه كل القوى السياسية والشخصيات ذات المصداقية والمعروفة بميولها الوحدوية الصادقة ومنظمات المجتمع المدني الحديث والتقليدي كآلية لمراجعة التحديات وتحديد العقبات، والمساهمة في اقتراح البرامج التي قد تغري الجنوبيين بالتصويت لصالح خيار الوحدة. وقد حدد البرنامج الوطني في بذل كل الجهود من أجل الوحدة، مع السعي لإكمال مطلوبات التحول الديمقراطي.. وحل أزمة دارفور وترشيد المناخ الإعلامي». ٭ ويتطرق الواثق في مقاله أيضاً وباسهاب الى قضية بالغة الاهمية والحساسية، وهى موقف الحركة الشعبية من وحدة السودان، ويؤكد على ما ورد في مقال سابق له عن الحركة الشعبية والعودة لمنصة التأسيس.. ويقول بأن اجابات قادة الحركة عن موقفهم من الوحدة ليست بمقنعة وناقصة ومبتورة ولا تشفي غليلاً، وان القيادة السياسية هى التي تشكل عقول الافراد العاديين وتؤثر على وجهات نظرهم وسلوكهم، وعلى عاتقها تقع مسؤولية التوعية بالخيارات التي يرونها في صالح ومنفعة المواطن.. ويظل الانفصاليون أنفسهم مطالبين أمام شعبهم بتوضيح رؤيتهم عن دولة الجنوب المستقلة، وكيف ان الانفصال سيخدم مصالحهم ويرضي توقعاتهم.. ويستطرد ايضاً فيقول لا شك أن اداء الحركة في هذا المجال يعرضها للتشكيك كون وقوفها المعلن ودعمها لوحدة البلاد فاتر وتعوذه الحماسة، بينما تعمل في الخفاء لتمكين الانفصاليين. وهكذا يبدو لعضوية وجماهير الحركة الشعبية خاصة في شمال السودان، وكأن الحركة قد استبدلت رؤية السودان الجديد باتفاقية السلام الشامل وتنفيذ بنودها المتصلة بمستحقات الاستفتاء فحسب، وبالتالي اختارت التقوقع والتقهقر نحو الجنوب في انتظار انفصاله الحتمي بدلاً من استخدام الاتفاقية كمنصة انطلاق لتحقيق السودان الجديد الموحد. ٭ ويستمر الواثق في طرح تساؤلاته المتشككة عن الاستراتيجية التي يتحدث عنها بعض قادة الحركة، والتي تدعو لاعطاء الحرية لكل من المكونات القومية للحركة للاستجابة لتطلعات شعوبها حسب أولوياتها، مع التنسيق أو التحالف بين بعضها البعض في سياق السعي لتحقيق هدف كبير مشترك هو هزيمة الحزب الحاكم، وتحقيق السودان الجديد وحتى بعد انفصال الجنوب. ٭ ثم ينتهي إلى القول بأن تقسيم الادوار هذا سيفضي الى ترغيب الكيانات الاخرى في اغتنام اية فرصة للاستقلال من مركز الدولة السودانية، مما ينهك الدولة وينذر بتشظيها وتمزقها، وان هذا الوضع سينعكس سلباً على دولة الجنوب التي بدورها لن تسلم من الانهيار، ثم كيف ستتفاعل الحركة الشعبية في دولة الجنوب المستقلة مع مكوناتها (بقاياها) في دولة الشمال، مما سيعد تدخلاً سافراً في شؤونها السياسية؟ والشاهد أن مد هذا الخيط الى آخره سوف يقودنا الى معانٍ كثيرة كامنة لم يقلها كمير، وان كانت واضحة تقفز بين السطور عن الاعداد المبكر لحرب باردة وحروب بالوكالة عبر مثل هذا الحديث المفخخ.. ومن المثير للاسى أن نقول إنه طبقاً لآلية التفاعل السياسي في الوقت الحالي في السودان، فإنه من المشكوك فيه الى حد كبير أن يجد صوت الواثق كمير اذاناً صاغية من الحزبين الحاكمين اللذين استهدفهما الخطاب بشكل اساسي، سواء في ما يتعلق بحكومة المشاركة الوطنية او في ما يتعلق باندفاع الحركة الشعبية نحو الانفصال. ٭ لقد أُجهض مشروع الحركة الإسلامية بخروج الترابي، وبقيت الشعارات مطروحة، ومات مشروع السودان الجديد مع غياب قرنق، ولكن مراسم الدفن لم تكن معلنة، ولم يقيض للمشروع الآخر الطبيعي في مثل هذه الظروف أن ينهض، وهو مشروع (الدولة الوطنية السودانية) القائمة على حقوق المواطنة والتحول الديمقراطي والاعتراف بالتعددية.. بلا نعرات ولا تحزبات ولا جدالات عقيمة. ٭ الواثق كمير كانت لديه الشجاعة الكافية لكي يخلع رداء تحزبه السياسي، ولكي يقف من أجل التأمل في المشهد العام لما يحدث في وطنه، والتحذير من مآلات المستقبل، بعد أن حرره صدقه وتجرده من عبء ثقيل تنوء به كواهل كثيرين، ويتداخل فيه ما هو ذاتي وشخصي بما هو عام، وتسقط فيه الحدود بين الاجتماعي والسياسي، وتختلط فيه الاجندات الحزبية او الاثنية او الجهوية بما هو وطني وقومي.. وتتضخم وتتكثف الادوات والوسائل على حساب الأهداف والغايات، فتختلط الاشياء وتسود الضبابية وتهتز البوصلة. ٭ إنه ينبه الى انه اذا كان الانفصال قد اصبح واقعاً فإن الاستمرار في هذا الخطاب المخادع عن سودان جديد لن يجر إلا المزيد من التشظي للشمال وللجنوب.