لكل شعب من شعوب هذه الدنيا، عاداته وتقاليده وصفاته المميزة وطريقته في صنع الغذاء وتناوله واستخدام ما هو متاح من الموارد ، وطبيعة المناخ نفسها هي محدد لنوع الغذاء، المرأة السودانية امرأة مدبرة وتصنع من الفسيخ شربات حلو الطعم والمذاق والنكهة، المطبخ السوداني الذي يمثل منطقة عسكرية مغلقة للنساء رغم انف دعاة الجندرة ومساواة النوع الاجتماعي ، يزخر بمجموعة من تفاصيل الوجبات التي تعرف النساء لغتها جيدا ويستطعن تحريك الساكن ليتجاور الرجال حالة الصمت وتخرج الكلمات رغم سياج الصمت الذي يكبل العلاقات، لكن ملاحك ما مبالغة، الملاح الذي يصل طعمه لدرجة المبالغة لن يكون سوى ذلك المشدود على نار هادئة تشتعل في كل ارجاء الوطن لتمنحه طعما استثنائيا هو طعم التقلية، التي ستكون موضوعنا في هذا اليوم باعتبارها وجبة سودانية الطابع مميزة بطعمها، وتكاد تكون الاولى على نطاق البلاد، حيث يتفق عليها الناس باختلاف اتجاهاتهم شرقا وغربا جنوبا وشمالا ودون وضع لأس الفوارق.. ويتعدى وجود التقلية المنازل للأسواق وتكون هي رسول المحبة في فطور العريس.. النظرية القائلة بأن الفول زيت والحلة بصل تصدق تماما على واقع حلة التقلية، والتي تتعدد مكوناتها والتي تبدأ بالاساس من خلال وجود شرائح الشرموط (اللحم المجفف) والذي تحرص كل النساء على وجوده في المنزل، كترياق مضاد لحالة الظروف وهو اشبه بالقرش الابيض لليوم الاسود، الا ان مسألة وجود اللحم المجفف تراجعت حاليا بفضل العولمة والانفتاح والتي اصبحت توفر المفارم الجاهزة ليأتي اللحم طازجا خصوصا في المدن، ودائما ما يتم استخدام لحم (الفخدة) في هذه العملية والتي بجانب مرحلة تحضير اللحوم تأتي عملية تجهيز البصل كأحد المكونات الاساسية في التقلية والذي يجهز بكميات في المطابخ ويتم وضعه بعد عملية (تكشينه) وتجهيزه بصورة معينة ويتم حفظه كذلك بطريقة تختلف باختلاف شكل المطبخ، والادوات الموجودة في داخله وتستمر عملية جمع المكونات للحلة ليأتي الدور في هذه المرة على المحسنات مثل الصلصلة وتزداد المتعة ان وجدت بعض الطماطم التي يطلق عليها (طماطم ملاح) وهي نوع من الطماطم غير الصالح للاستخدام في تجهيز شرائح السلطة نتيجة لظروف التخزين ويتم جمع كل هذه المكونات مع بهاراتها في حلة حسب الحاجة تختلف حسب المناسبة، ولا تأخذ التقلية عادة زمنا كبيرا في عملية التحضير في ظل توافر المواد الخام، الا انه هنالك فرضية تقول: «ان طعم التقلية» دائما تلعب فيه الايادي دورا كبيرا وهو ما يعضد الفكرة التي يطلقها البعض بأن تقلية امي ما في زيها وهي عبارة يقولها الجميع وفي صيغة لا تخرج من التحدي. الجمعة والتقلية صديقان لا يفترقان هكذا في كل البيوت السودانية يستغل افراد الاسرة وجودهم معا في هذا الصباح بعد اسبوع من الجري خلف لقمة العيش لتطل التقلية وصحن العصيدة والجلسة الاسرية ، في آن واحد وذلك بعد ان وضعت خالتي عزيزة كل خبرة السنين في ذلك الطبق الشهي ، والذي تردد صداه من خلال تعليقاتهم : تسلم يديك يا حاجة. انتهزت الفرصة لأسألها عن مكونات التقلية والسر في اختلاف الطعم من امرأة لأخرى ، ابتسامتها منحت اجابتها طعما آخر، وهي تقول : يا ولدي المسألة هي تراكم خبرات يعني هسة التقلية العاجباك دي لا تساوي اي حاجة قدام تقلية المرحومة تقصد والدتها والانا اخذت الصنعة منها زمان يا ولدي الامهات كانن حريصات على تجهيز البنات لتحمل مسؤولية البيت الذي يقوم اساسه على تجهيز الاكل بصورة تليق بسيد البيت وضيوفه ، وكانت البنات حريصات على التعلم والصبر، وهسة حا اقوليك انو التقلية الجاية ما حتكون زي دي لأنو بنات الزمن ديل ما فاضيات مقضينها سندوتشات وفول ساكت، ثم اضافت انو نفس ست البيت بطلع في حلتها والنفسيات ذاتها بتلعب دورا اساسيا في تحديد طعم الحلة، عشان كدي تقلية الجمعة بتختلف عن تقلية الايام التانية لانو بتكون ضامنة انو الناس كلها بيأكلوها ويعلقوا عليها عكس الايام التانية ما بتلقى اي زول يقول ليك فيها اي تعليق، واستمرت عزيزة مضيفة انو التقلية حتظل هي الوجبة الاطعم رغم انف الجميع معاها الكسرة.. لانها اكلتنا السودانية. من جانبها، اكدت منى واحدة من النساء اللائي يعملن في مجال بيع المأكولات الشعبية والتي تأتي التقلية على رأسها بالطبع، بعد ان اكملت حوارها مع ذلك الزبون الذي ابدى ملاحظة ايجابية على طعم الملاح والكسرة ، وكان ذلك مدخل حواري ، انت التقلية دي بتأخذ طعما من شنو. ؟! اجابت : بسرعة من حب الناس ليها لأنها جزء من تكوينهم وبعداك بتمثل ذاكرة للأهل والاعزاء يعني اي زول بتذكر امو بيكون التعبير مباشرة الاتجاه نحو الوجبات البلدية الكسرة، والتقلية تحديدا ونحنا بنستفيد من الجانب ده. وقالت منى ان التقلية ستظل هي سيدة المائدة السودانية رغم انف الوافد خصوصا وان الناس بتأكلها شراكة ما زي السندوتشات والديلفري بتاع اليومين دي . وفيما يختص بالطعم تقول ان من اخذ الاجر حاسبه الله بالعمل وده عملي الانا بأكل منو عيش عشان كدي بجتهد انو الطعم بيكون مختلف عشان البيأكل يجئ راجع ،واضافت ان الفول وتوابعه لا يشكلون اي هاجس ، وان التقلية والكسرة هي وجبة كل الناس وعاين بتلقي الشباب اكثر من الناس الكبار عشان ما تقولوا دي اكلة عجائز، وقبل ان تكتمل الضحكة التي رسمتها على محياها اتجه حوارها الي جانب آخر وهي تنادي على احد العاملين ها ها يا ولد زيد للناس ديل الملاح واديهم موية.. واتجهت انا نحو الجالسين في حضرة صحن الكسرة الذي يعلوه احمرار التقلية لأتجاذب اطراف الحديث مع الذين اصروا على ان اشاركهم الفطور كشرط للحديث، امتثلت لاوامرهم يدفعني الحرص على التذوق اكثر من الحرص على الحديث، اتفقوا على ان التقلية هي الوجبة التي لا تقاوم بطعمها الذي تأخذه من بيئتنا وجلستها التي تعيدهم نحو مدن الشوق للأسرة واللمة لذلك ستظل هي الوجبة الرئيسية والتي تستمر وسيواصلون مسيرتهم في التهامها دون توقف بحثا عن متعة المذاق السودني..