(أصدق التاريخ ما كُتب في زمانه وصدق فيه كاتبه وصدّقه معاصروه فيما روى) … بهذه الكلمات المضيئة قدم شيخنا بابكر بدري لمذكراته. وقد كتبت من قبل داعياً أن تكون لنا في سيرة هذا الشيخ أسوة حسنة فهو قد سبق عصره حين راح يدون مذكراته وهو قد تجاوز الثمانين من عمره والذي إمتد لما يقارب القرن، ومن خلال هذه المذكرات إستطاع شيخنا الجليل أن يعرفنا على سمات المجتمع السوداني السياسية والاجتماعية بكل ما فيها من ثورات وكبوات، ومن جهاد بالسيف في عهد المهدية إلى جهاد العلم والتنوير فيما بعد المهدية. كتب بابكر بدري سيرة حياته بصدق وتجرد، وقسا على نفسه قبل أن يقسو على الآخرين. وأبرز جوانب ضعفه الإنساني ونزواته الصغيرة قبل أن يتسقط عثرات الآخرين، وأبان فيها تهاوي ألق الثورة المهدية التي آمن بها على أعتاب الممارسة الفعلية بعد إنقضاء مرحلة الثورة والدخول في مرحلة الدولة. حارب الشيخ بابكر بدري منذ صباه الباكر في جيوش الثورة المهدية وآمن بها بل نزر روحه من أجلها وبعد ما يقارب القرن على تلك الاحداث المجيدة فإن الشيخ حينما راح يكتب مذكراته كان لا ينسى أبداً أن يقرن اسم الإمام المهدي ب(عليه السلام)، لذلك لا عجب أن خرج مجاهداً في جيش ود النجومي المتجه شمالاً لفتح مصر. كانت معه أمه وأخواته وزوجته (البقيع بت عثمان) إذ هكذا كان شأن جيوش المهدية، يمضى فيها المجاهدون بسائر أهلهم من نساء وأطفال. وحينما إندحر جيش ود النجومي واستشهد قائده في توشكي، تفرقت الأسر والعوائل أيدي سبأ كما يقال، ومن بينهم أسرة بابكر بدري إذ أُسر الشيخ وأمضى سنوات صباه في سجون صعيد مصر بينما رأف القدر بأسرته التي لجأت إلى سراي الزبير باشا بالقاهرة والذي إحتضن في شهامة سودانية بالغة معظم هذا الكم من النساء والأطفال. البقيع بت عثمان كانت أولى زوجات بابكر بدري وقد أحبها حباً جماً على الرغم من أنها كانت مطلقته حينما خيره أهلها بينها وبين أسرته فأختار كفالة أسرته وأهله مضحياً بالمرأة التي أحب. عندما أنفك أسره من سجون صعيد مصر وعندما علم أن أمه وأخواته وزوجته (أو مطلقته) البقيع بت عثمان هم في كنف كريم في سرايا الزبير باشا أسرع صوب القاهرة وهو في شوق عظيم لأمه وأخواته وزوجته التي وطن نفسه لإرجاعها إلى عصمته، لكن آمال الشيخ تهاوت عندما وجد الزبير باشا قد تزوج من مطلقته (البقيع بت عثمان). كانت مقابلة الزبير باشا مع بابكر بدري في سرايا الزبير بالقاهرة من أشق اللحظات الإنسانية لكليهما، فالزبير تزوجها على أساس أنه ما كان يعلم أن زوجها حياً وأسيراً في صعيد مصر، لذلك خاطبه الباشا قائلاً: (إن كنت تجبر خاطري وتعتبرني كوالدك تقبل مني طلاقها ورجوعها لك لأتدارك غلطتي).. فيرد عليه بابكر بدري على الرغم من حبه لإمرأته قائلاً: (إذا كانت البقيع كأمنا حواء وكنت أنا كآدم يتوقف على اجتماعنا كزوجين حفظ النسل البشري فأنا محرمها عليّ وإن حلت لي)! وهكذا أصبحت البقيع بت عثمان زوجة للزبير باشا!!