ونحن نقلب وننتقي الهوامش من مذكرات الشيخ الجليل، لا بد أن نتوقف عند تلك الأم القوية الشكيمة والمجاهدة التي وصف ابنها عقيدتها في المهدية بالعقيدة الصماء من فرط صلابة إيمانها بقضية الثورة، ولا شك أن شيخنا قد ورث ذاك الجلد وتلك الصلابة من هذه الأم. مدينة بت محمد دياب صريرابي هكذا كان اسمها، وكما ذكرنا بالأمس فقد رافقت هي وبناتها الابن بابكر في معظم غزواته المهدوية، ومن بينها رحلة البؤس والشقاء والجوع والعطش ومخاطر الأسر والسبي في جيش ود النجومي وهو يمضي نحو مصيره المحتوم على رمال توشكي. وفي هذا الشأن يحكي الشيخ أنهم بعد ان بارحوا «أرقين» قاصدين «فرص» وكان في معيتهم من نساء بيته والدته وزوجة والده إلى جانب أخواته «السهوة» و«أم طبول» و«البتول» والصغيرة «الحسنى» كذلك بنات «السهوة» وأخيه موسى. يحكي بابكر بدري عن ضراوة الجوع والعطش في تلك المحنة، إذ راحوا ينتزعون عروق البامية والملوخية من باطن الجروف ليمضغوها، بينما كان يغامر هو بالنزول إلى «البحر» وسط وابل رصاص الأعداء ليملأ «قربتي» الماء حتى يعود بهما إلى أمه وأخواته بعد أن يربطهم في ظلام النيل على «تكة» سرواله! في ظروف تلك المحنة تسقط عليهم دانة مدفع من البوارج الحربية لتخطف رأس الصغيرة زينب التي ماتت في الحال ومات معها أخاه موسى. وهنا تتماسك الأم المجاهدة ولا تهتز نفسها، بل تمسك بحربتها وتهزها وهي تقول «موسى ولدي وهبته لله تعالى»، ثم تعود إلى مجلسها وحينما تعثرت بحجر إذ كانت ضعيفة البصر قالت «في شأن الله والرسول»..!! ومن الطرائف التي أضحكتني وأنا أتقصى عبر هذه الهوامش عن والدة الشيخ والتي قلنا انها كانت أنصارية باسلة.. استوقفني والد الشيخ بابكر بدري وكان اسمه محمد بدري الصادق الطيب محمد الفكي مالك، وهو من قبيلة الرباطاب، وعلى عكس والدة الشيخ كان والده رجلاً واقعياً في التفكير أو «براغماتياً» بلغة هذا العصر، إذ أدرك بواقعيته تلك أن حملة ود النجومي تمضي لمحرقة محتومة.. لذلك خاطب أسرته وهم في منطقة دنقلا العرضي قائلاً لهم: «الأحسن أن تعطوني العائلات من نساء وأطفال أسكن بهم في ديار المحس وأنتم سافرون مع ود النجومي، فإذا انتصرتم على التُرك فأرسلوا لنا الوابورات لنصلكم، وإن هُزمتم تكونوا خفافاً ترجعون لنا فيجتمع الشمل».. كان ذاك منطقه وهو منطق لا ينكره العقل والتبصر، إلا أن زوجته أم بابكر ذات العقيدة الأنصارية الصماء تهجم عليه وتكاد «تخمش» وجهه وهي تصيح فيه «هوى يا دا الراجل الكافر.. صُد براك.. من الله نحنا ما صادين».. أي أنك إذا أردت الرجوع فأرجع لوحدك أما نحن فلن نرجع عن سبيل الله..!! في هذا الشأن مضى بابكر بدري يقول: «كان والدي يقول ذلك وهو على يقين أن جيشنا سيهُزم، وأن ود النجومي يغامر بلا تبصر في جيش بلا مؤونة.. فكانت والدتي تسكته وهي تقول «لا تتكلم في ود النجومي رابع الخلفاء» واستمرت مؤمنة إلى أن توفيت بأم درمان وهي تقول «أحّيَّ يا رقيدة في ضل القبة»..!!