بالصور.. الفريق أول ركن ياسر العطا يستقبل الأستاذ أبو عركي البخيت    عبر تسجيل صوتي.. شاهد عيان بالدعم السريع يكشف التفاصيل الكاملة للحظة مقتل الشهيد محمد صديق بمصفاة الجيلي ويؤكد: (هذا ما حدث للشهيد بعد ضربه بالكف على يد أحد الجنود)    شاهد بالفيديو.. لاعب سوداني يستعرض مهاراته العالية في كرة القدم أمام إحدى إشارات المرور بالقاهرة ويجذب أنظار المارة وأصحاب السيارات    قال ديمقراطية قال!!!    اعلامي تونسي يرشح الترجي للتتويج بالأميرة السمراء    عبر تسجيل صوتي.. شاهد عيان بالدعم السريع يكشف التفاصيل الكاملة للحظة مقتل الشهيد محمد صديق بمصفاة الجيلي ويؤكد: (هذا ما حدث للشهيد بعد ضربه بالكف على يد أحد الجنود)    البرهان يطلع على آداء السلطة القضائية    بالفيديو.. شاهد الفرحة العارمة لسكان حي الحاج يوسف بمدينة بحري بعودة التيار الكهربائي بعد فترة طويلة من الانقطاع    سعر الدولار في السودان اليوم الإثنين 20 مايو 2024 .. السوق الموازي    سعر الجنيه المصري مقابل الجنيه السوداني ليوم الإثنين    والى ولاية الجزيرة يتفقد قسم شرطة الكريمت    الحقيقة تُحزن    علي باقري يتولى مهام وزير الخارجية في إيران    موعد تشييع الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ومرافقيه    البرهان ينعي وفاة الرئيس الإيراني إبراهيم رئيسي ووزير خارجيته ومرافقيه إثر تحطم مروحية    شاهد بالفيديو هدف الزمالك المصري "بطل الكونفدرالية" في مرمى نهضة بركان المغربي    مانشستر سيتي يدخل التاريخ بإحرازه لقب البريميرليغ للمرة الرابعة تواليا    إنطلاق العام الدراسي بغرب كردفان وإلتزام الوالي بدفع إستحقاقات المعلمين    (باي .. باي… ياترجاوية والاهلي بطل متوج)    الجنرال في ورطة    الإمام الطيب: الأزهر متضامن مع طهران.. وأدعو الله أن يحيط الرئيس الإيراني ومرافقيه بحفظه    "علامة استفهام".. تعليق مهم ل أديب على سقوط مروحية الرئيس الإيراني    إخضاع الملك سلمان ل"برنامج علاجي"    السودان ولبنان وسوريا.. صراعات وأزمات إنسانية مُهملة بسبب الحرب فى غزة    الطيب علي فرح يكتب: *كيف خاضت المليشيا حربها اسفيرياً*    عبد الواحد، سافر إلى نيروبي عشان يصرف شيك من مليشيا حميدتي    هنري يكشف عن توقعاته لسباق البريميرليج    كباشي يكشف تفاصيل بشأن ورقة الحكومة للتفاوض    متغيرات جديدة تهدد ب"موجة كورونا صيفية"    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تجارب الانتفاضات الشعبية في السُّودان: التحديات والدروس المُستفادة
نشر في السوداني يوم 04 - 05 - 2019

يُقدِّم هذا المقال مُقاربةً تاريخيةً عن تجارب الانتفاضات الشعبية في السُّودان، وطبيعة التحديات التي أعاقت خط سيرها لإحداث تحوُّلٍ ديمقراطي مُستدامٍ، وكيف يُمكن استثمارها لصالح انتفاضة ديسمبر 2018م، التي أسقطت رأس النظام الحاكم، وبدأت مرحلة التأسيس لنظام حكم انتقالي، يهدف إلى قيام نظام حكم ديمقراطي، يُسهم في إعادة هيكل دولة ما بعد الاستعمار ومُؤسّساتها المَوروثة. وتَقتضي هذه النقلة المنشودة طرح مَجموعة من الأسئلة المحورية: يأتي في مُقدِّمتها سؤال ما الحاجة إلى التّغيير في بنية الدولة ومُؤسّساتها؟ وما المُشتركات والمعوقات التي شكّلت التركيبة البنيوية للانتفاضات الشعبية في السُّودان؟ وما الشعارات التي رفعتها تلك الانتفاضات للتّغيير؟ وما البنيات السياسية والاجتماعية التي كانت، ولا تزال، مستهدفة بالتغيير؟ ولماذا فشلت أطروحات التغيير؟ وكيف يكون الانتقال في الظرف الراهن من مؤسسات دولة شمولية عميقة، حكمت لمدة ثلاثة عُقُودٍ (1989 – 2019م)، إلى نظام ديمقراطي، يفي باستحقاقات انتفاضة ديسمبر 2018م؟ نُحاول في هذا المقال الإجابة عن هذه الأسئلة ونظيراتها وفق أربعة محاور رئيسة، تبدأ بسؤال التغيير لماذا؟ وإبراز المشتركات والمعوقات في تجارب الانتفاضات السُّودانية، والدروس والعِبر المُستفادة منها، وعناصر الجذب والطرد، الإقليمية والعالمية، التي ربما تُؤثِّر إيجاباً وسلباً في مخرجات انتفاضة الحرية والسلام والعدالة.
التغيير لماذا؟
يرى بعض الباحثين والمحللين السِّياسيين أنَّ التغيير في أنماط التفكير السياسي والبناء الهيكلي لمُؤسّسات الدولة السُّودانية قد أضحى ضرورة مُلحّة؛ للخروج من دائرة الفشل السياسي المُتكرِّر إلى رحاب ديمقراطية مُستدامة. آخذين في الحسبان أنّ السُّودانيين قد بدأوا تجربة المُشاركة الوطنية في الحكم بانتخابات عام 1948م لاختيار أعضاء الجمعية التشريعية، باعتبارها خطوةً تأسيسية تجاه الحكم الذاتي في ظل الاستعمار الإنجليزي – المصري (1898 – 1956م)، وأعقبتها انتخابات مجلس النُّوّاب والشيوخ عام 1953م، التي مثلت الانطلاقة الديمقراطية لقيام أول حكومة وطنية منتخبة، كان لها شرف إعلان الاستقلال من داخل البرلمان في 19 ديسمبر 1955م. وجاءت بعدها انتخابات عام 1958م بوصفها خطوةً تجاه تمكين الممارسة الديمقراطية الوليدة؛ إلا أنّ الصراع الحزبي على السُّلطة أفضى إلى انهيار تلك التجربة، عندما سلَّمت قيادة حزب الأمة دَفّة الحكم إلى قيادة القوات المسلحة التي حكمت السُّودان لمدة ست سنوات (1958 – 1964م)، شهد السُّودان خلالها انتخابات المجلس المركزي لعام 1962م؛ لإضفاء نوعٍ من الشرعية على الحكم العسكري الذي عارضته مُعظم القطاعات السياسية والحزبية. وبعد إزاحة الحكم العسكري عن طريق انتفاضة شعبية في أكتوبر عام 1964م، حُكم السُّودان بواسطة حُكومة مدنية انتقالية لمدة عامٍ واحدٍ، مهّدت الطريق لانتخابات عام 1965م، التي أفرزت عدداً من الحكومات المُؤتلفة بين أجنحة حزبي الأمة والوطني الاتحادي المُتصارعة مع بعضها. وفي عهد تلك الحكومة المُتعاقبة تمَّ طرد نُوّاب الحزب الشيوعي السوداني من البرلمان، تعللاً بأنّهم ينتمون إلى حزب يُروِّج للأفكار الإلحادية، كما تصاعدت وتيرة الحرب الأهلية في جنوب السُّودان. وفي ظل تلك الظروف، أُجريت انتخابات عام 1968م، بوصفها خطوةً ثانيةً لتمكين المُمارسة الديمقراطية؛ إلا أنَّ الحكومة المُنتخبة من ائتلاف حزبي الأمة والاتحادي الديمقراطي لم تدم طويلاً؛ بفعل الصراعات السياسية والحزبية التي أفضت إلى إجهاضها بانقلابٍ عسكري، مدعومٍ من بعض فصائل الحزب الشيوعي السُّوداني والقوى اليسارية. وقد حكم ذلك الانقلاب العسكري السُّودان لمدة ستة عشر عاماً (1969 – 1985م)، تبنى خلالها أيديولوجيات مُتناقضة؛ لضمان استمراريته في الحكم، كما سعى جاهداً إلى شرعنة وضعه السياسي بإجراء العديد من الانتخابات التشريعية والتنفيذية في ظل مناخٍ غير ديمقراطي؛ إلا أن هذه المُعالجات الشكلية لم تُكسب النظام شرعية سياسية؛ بل قادت إلى إسقاطه عبر انتفاضة شعبية في أبريل عام 1985م. وبعد إسقاط النظام قامت حكومة (عسكرية – مدنية) انتقالية لمدة عامٍ واحدٍ، كسابقتها، أشرفت خلالها على إجراءات الانتخابات البرلمانية لعام 1985م، والتي انبثقت عنها عددٌ من الحكومات الائتلافية المُتعاقبة؛ لكنها كانت عُرضةً لسلسلة من المُشاكسات الحزبية ومُعارضة الحركة الشعبية لتحرير جنوب السُّودان. وأخيراً قاد ذلك الواقع إلى سقوط الحكومة المُنتخبة في 30 يونيو 1989م عن طريق انقلاب عسكري، خَطّطَ له ونفّذه حزب الجبهة الإسلامية القومية. وفي عهد حكومة الإنقاذ الإسلامية (1989 – 2019م) حدثت تحوُّلات سياسية كثيرة في بنية الأحزاب السياسية، إذ ارتفع عَددها من 16 حزباً حسب سِجِلات انتخابات 1986م إلى 83 حزباً مُسجّلاً، كما تصاعدت حدَّة الصراع بين النظام الحاكم في الخرطوم والحركة الشعبية لتحرير السُّودان وفصائل المُعارضة الأخرى. وفي ظل ذلك الواقع الصدامي سعت حكومة الإنقاذ إلى شرعنة نفسها بإجراء عدد من الانتخابات التشريعية والرئاسية؛ إلا أنها لم تحدث تحولاً ديمقراطياً، أو تلبي أدنى طموحات الأحزاب السياسية المعارضة والفصائل المسلحة. واستمر الحال كما كان عليه إلى أن جاءت اتفاقية السلام الشامل لعام 2005م، مُمهّدة الطريق لانتخابات أبريل 2010م على مستوى الرئاسة والمجالس التشريعية المركزية والإقليمية في شمال وجنوب السُّودان؛ إلا أنّها أفرزت حكومات فدرالية ضعيفة تحت مظلمة حزب المؤتمر الوطني الحاكم والأحزاب التابعة له. وفي عهد تلك الحكومات المُؤتلفة زاد استشراء فساد الدولة المنظم، وتمكين عُضوية الحزب في مفاصل الحكم، كما استقل (أو انفصل) جنوب السُّودان عن شمالها عام 2011م. وبمُوجب ذلك الانفصال فقدت حكومة الخرطوم أكثر من 60% من مصادر دخلها القوي، المتحصلة من عائدات البترول التي أضحت من نصيب حكومة جنوب السُّودان. وتفاقمت الأزمة في العام 2018م، عندما عجزت حكومة الإنقاذ عن توفير متطلبات الحياة الأساسية (الخبز والوقود والنقود)، الأمر الذي أفضى إلى اندلاع انتفاضة 19 ديسمبر 2018م، التي انتظمت مُعظم مُدن السُّودان وقطاعاته الاجتماعية، وأخيراً بلغت ذروتها في اعتصام 6 أبريل 2019م أمام القيادة العامة لقوات الشعب المسلحة، مُجبرةً القوات المسلحة على الإطاحة بنظام الرئيس البشير في 11 أبريل 2019م.
ويُمكن إجمال هذه التجارب الفاشلة في ثلاث ديمقراطيات مُنتخبة وغير مُتعاقبة، تُقدّر فترة حكمها إحدى عشرة سنة؛ تخلّلتها فترتان انتقاليتان لمدة عامين؛ وثلاث حكومات عسكريَّة (1958 – 1964؛ 1969 – 1986؛ 1989 – 2019) اغتصبت السُّلطة لاثنين وخمسين عاماً. والآن يشهد السُّودان مخاض انتفاضة شعبية ثالثة، استطاعت أن تُسقط قيادة حكومة الإنقاذ الوطني العسكرية (1989 – 2019م)، بعد ثلاثين عاماً من التّسلُّط، والإقصاء السياسي، والفساد المالي، والفشل المُتراكم في إدارة الدولة ومُؤسّساتها السيادية والخدمية. ونتيجة لذلك أضحت النخبة السياسية أمام خيارين لا ثالث لهما. إما أن تمضي في تكرار التجارب الفاشلة، أو أن تسعى إلى تغيير طرائق تفكيرها السياسية لخدمة قضايا السودان الأساسية، ثم تتبع ذلك بتحديث في منظومات أحزابها السياسية وآليات حراكها وتدافُعها الديمقراطي. ويبدو أنَّ قوى الحرية والتّغيير قد انطلقت من هذا الخيار الثاني، عندما دَعَت إلى تشكيل حكومة انتقاليَّة مدنية، مُكوّنة من ثلاثة مجالس (مجلس سيادي ومجلس وزراء ومجلس تشريعي)، تتولى سدّة الحكم لمدة أربع سنوات، بهدف مُعالجة المُشكلات السِّياسيَّة والاقتصاديَّة الآنية، وتهيئة المناخ السِّياسي لإجراءات انتخابات عامة بعد نهاية الفترة الانتقالية. ويُرجَّح الظن بأنّ هذا الاقتراح ربما يُجنِّب البلاد سلبيات ثنائية المجلسين (العسكري والمدني)، التي أقعدت الحكومة الانتقالية الثانية (1985 – 1986م) عن أداء الدور المنوط بها. أما طول مدة المقترحة للفترة الانتقالية (أربع سنوات) فسيسهم في تأسيس آليات تحوُّل ديمقراطي، قادرة على تلبية شعار المُعتصمين الذي يُنادي "بالحُرية، والسَّلام والعَدَالة"؟
المُشتركات والمُفارقات
القاسم المُشترك بين انتفاضات السُّودان الثلاث (1964، 1985، 2019م)، أنّها لم تُسهم في ميلاد قائدٍ سياسي، مُلْهِمٍ للجماهير الثائرة، مثل المهاتما غاندي (1869 – 1948م) في الهند، أو أحمد سوكارنو (1901 – 1970م) في إندونيسيا، أو نيلسون مانديلا (1918 – 2013م) في جنوب أفريقيا. لكنها أفرزت قيادات جماعية، نشأت أثناء اندلاع هذه الانتفاضات، مثل جبهة الهيئات (النقابات المهنية) التي قادت الحِراك السِّياسي بعد استشهاد طالب جامعة الخرطوم أحمد القرشي طه في مساء 21 أكتوبر 1964م، ثم واصلت النضال إلى أن أسقطت حكومة الفريق إبراهيم عبود، وكوّنت حكومة انتقالية لتهيئة البيئة السياسية لإعادة النظام الديمقراطي، الذي تشكّل بعد انتخابات عام 1965م. وبعد اندلاع انتفاضة مارس 1985م ظهر التجمُّع النقابي، الذي تولّى زمام النضال ضد حكومة جعفر نميري إلى أن انحازت قوات الشعب المسلحة إلى جانب الجماهير في 6 أبريل 1985م. وبمُوجب ذلك الانقلاب خُضعت البلاد لحكم مجلس عسكري من قيادة القوات المسلحة وحكومة مدنية لإدارة فترة انتقالية لمدة عامٍ واحدٍ، تعقبها انتخابات عامة لاختيار الجمعية التأسيسية. وبالفعل تمَّ إجراء الانتخابات البرلمانية تحت إشراف الحكومة الانتقالية عام 1986م. أمّا انتفاضة ديسمبر 2018م، فقد قادها تجمُّع المهنيين السُّودانيين بكفاءة عالية، إذ التفّت حول قيادته للتظاهرات، قُوى الإجماع الوطني، ونداء السُّودان، والتجمُّع الاتحادي الديمقراطي المعارض. والذي ماز انتفاضة ديسمبر 2018م عن سابقتيها، أنها شملت قطاعات واسعة من الشباب (ذكوراً وإناثاً)، الذين لا ينتمون إلى أحزاب سياسية، أو قطاعات مهنية. كما أنها كانت أطول عُمراً من نظيرتيها، وأوسع انتشار في مُعظم مُدن السُّودان وأريافه، فضلاً عن السلمية التي رفعتها شعاراً (سلمية.. سلمية.. ضد الحرامية).. لكن بالرغم من سلميتها فقد قدّمت عدداً من الشهداء، قُرباناً لشعاراتها التي تنادي بالحرية والسلام والعدالة. إذن ما المعوقات التي وقفت في سبيل تحقيق طموحات انتفاضتي أكتوبر وأبريل. تتمثل تلك المعوقات في عدم تجانُس خطاب قوى التغيير (جبهة الهيئات والتجمُّع النقابي)، وفشل الحكومات الانتقالية في إقناع المُتمرِّدين في جنوب السُّودان بالانضمام إلى حكومة الخرطوم، وإيقاف الحَرب الدائرة في الجنوب آنذاك. ويُضاف إلى ذلك غياب ثقافة المُمارسة الديمقراطية على مستوى الأحزاب السياسية ومُؤسّسات الدولة، وكذلك غياب الرؤية الاستراتيجية، المعُززة لاستدامة التّحوُّل الديمقراطي. والدليل على ذلك، أنَّ الأحزاب السياسية نفسها قد سَاهمت في تقويض المُمارسة الديمقراطية؛ لأنّها ساعدت المؤسسة العسكرية في إجهاض التجارب المُتعاقبة، كما فعلت قيادة حزب الأمة في نوفمبر 1964م، وقيادة الأحزاب اليسارية في مايو 1969م، وقيادة الجبهة الإسلامية القومية في يونيو 1989م.
الدُّروس والعِبَر المُستفادة
تتبلور الدُّروس والعِبر المُستفادة من تجارُب الانتفاضات السابقة في التّصوُّر المُبتكر الذي اقترحته قوى إعلان الحرية لإدارة الفترة الانتقالية، بحيث أن تكون أطول من الناحية الزمنية (أربع سنوات)، وقائمة على حكومة مدنية، مُكوّنة من ثلاثة مجالس (مجلس سيادة ومجلس وزراء ومجلس تشريعي). يتكوّن مجلس السيادة المدني من مُمثلين لقُوى الحُرية والتّغيير، وقوات الشعب المسلحة عبر وزارة الدفاع، وتتبلور مهام المجلس الأساسية في إدارة الشؤون السيادية والتشريفية للدولة. ويتكوّن مجلس الوزراء من سبعة عشر وزيراً من الكفاءات الوطنية المشهود لها بالخبرة المهنية والنزاهة والاستقامة، لتنفيذ البرنامج الإسعافي للفترة الانتقالية. وتُشكَّل عضوية المجلس التشريعي المدني من 120 عضواً، بشرط أن تُمثل المرأة فيه بنسبة لا تقل عن 40%، مع تمثيل للشباب والمُكوِّنات الإثنية والدينية والثقافية في السُّودان. وتتبلور مهام المجلس التشريعي في إصدار التشريعات والقوانين في إطار الدستور الانتقالي لسنة 2005م، ومراقبة أداء السُّلطة التنفيذية، ووضع أُسس الاستفتاء على الدستور الدائم وإجازتها، وتشكيل لجنة الانتخابات القومية وإجازة النظام الانتخابي وقانون الانتخابات. ويبدو من الناحية الشكلية أنَّ قُوى الحُرية والتّغيير قد قدّمت طرحاً مُتجاوزاً لسلبيات البناء الهيكلي للحكومات الانتقالية السَّابقة، التي أخفت في تحقيق مُتطلبات تجربتي أكتوبر 1964م وأبريل 1985م.
لكن التحديات الحقيقيّة التي تُواجه الحكومة الانتقالية المُقترحة بمجالسها الثلاثة، تتمثل في القُدرة الإبداعية في وضع رؤية استراتيجية متكاملة للأربعة أعوام المُقترحة للانتقال. ويقصد بالرؤية الاستراتيجية إعداد دراسة شاملة للوضع السياسي والاقتصادي والاجتماعي الراهن، لمعرفة عناصر القُوى التي يمتلكها، وعناصر الضعف التي تقف عائقاً أمام تحقيق مُتطلبات الفترة الانتقالية، والمُهدِّدات التي ربما تَعصف بالتجربة الوليدة إذا لم يكن هناك احترازٌ فطنٌ، والفُرص المُواتية لتحقيق مُتطلبات الفترة الانتقالية. وتقود الدراسة الحصيفة للوضع الراهن إلى إعداد رؤية استراتيجية مُتكاملة، تقوم على شعار "الحُرية والسلام والعدالة"، ثم تحدّد الهدف المُشترك الذي يجمع كل القُوى السِّياسيَّة ومُؤسّسات المُجتمع المدني الحريصة على تحقيق التّغيير الفعلي في مُؤسّسات الدولة الموروثة من عهد الاستعمار. وهُنَا يجب اختيار الفاعلين الأساسيين بعنايةٍ دُون الانصياع إلى الترضيات الحزبية والسياسية؛ لأنّ القضية في مُجملها قضية وطن يجب أن يتجاوز إخفاقات تجارب الماضي المُتكرِّرة، ويعبر إلى المُستقبل بثباتٍ وطُمُوحاتٍ جديدةٍ. فإذا كانت استجابة دعاة التغيير أكثر مَتَانَةً من حجم التّحدي الذي يُواجههم، فإنَّ التغيير إلى الأفضل سيكون حَتمياً؛ أما إذا كان التحدي (الثورة المُضادة) أكثر منهم صلابةً، فالانتكاس سيكون مصير الانتفاضة الشعبية بالرغم من النجاح الباهر الذي حققته في إسقاط رأس النظام. ولذلك يجب أن يستأنس دعاة الحرية والتغيير بمأثورة المناضل نيلسون مانديلا: "إننا لا نخاف من تجربة أيِّ شيءٍ جديدٍ، لكننا في الواقع نخشى أن نعرف مدى قُوتنا لتحقيق المُستحيل". وتحقيق المستحيل يحتاج إلى أدوات مُبتكرة، تستوعب مُعطيات الواقع الحَقيقيّة، وتُلبِّي طُموحات الشباب (الذكور والإناث) الذين شكّلوا عصب انتفاضة ديسمبر 2018م بشعاراتهم المُلهمة وصُمُودهم الذي لم يَتَبَدّل أمام أجهزة النظام الأمنية الباطشة وكتائب ظله، وكما يجب الاسترشاد بتجارُب أهل السياسة الذين يقفون معهم في خندق التغيير والبحث عن غَدٍ مُشرقٍ.
عناصر الجذب والطرد الإقليمية والعالمية
بعد نجاح انتفاضة 19 ديسمبر 2018م في إسقاط رأس دولة الإنقاذ، الرئيس عمر البشير، برزت في الساحة السياسية عناصر جذب عالمية وإقليمية، تُنادي بانتقال السُّلطة من المجلس العسكري إلى حكومة مدنيَّة، تُلبي تطلُّعات الشعب السُّودان المُنتفض، كما ظهرت عناصر طرد إقليمية، تسعى لخدمة أجندتها السياسية على حساب التحوُّل الديمقراطي في السُّودان. وتتجسّد عناصر الجذب العالمية والإقليمية في موقف مجلس الأمن الداعم لإحداث تغيير ديمقراطي في السُّودان، وتأكيداً لذلك أرسل الأمين العام لهيئة الأمم المتحدة، أنطونيو قوتيرش، مبعوثاً خاصاً إلى السُّودان، للعمل من الاتحاد الأفريقي لتسهيل عملية الانتقال الديمقراطي. كما حثت دول الترويكا (الولايات المتحدة الأمريكية والمملكة المتحدة والنرويج) قيادة المجلس العسكري على تسليم السُّلطة إلى حكومة مدنية. أما مجلس الأمن والسلام التابع للاتحاد الأفريقي فقد مَنَحَ المجلس العسكري مدة خمسة عشر يوماً لنقل السُّلطة إلى حكومة مدنية، وفي حالة عدم الانصياع لهذا المطلب ستُجمَّد عضوية السُّودان في الاتحاد الأفريقي. فلا غرو في أنّ هذه المواقف السِّياسيَّة قد عضدت موقف قُوى إعلان الحُرية والتّغيير في الشارع السَّوداني والمُفاوضات مع قيادة المجلس العسكري. وبالفعل قد أفضت هذه المواقف الإيجابية إلى تنحي الفريق عوض ابن عوف ونائبه الفريق كمال عبد المعروف من قيادة المجلس العسكري، وتعيين الفريق عبد الفتاح البرهان والفريق محمد حمدان دقلو (حميدتي) بدلاً منهما. لكن هذه التعديلات على مُستوى القيادة لم تكن مُقنعة لقُوى إعلان الحُرية والتّغيير، بل دفعتها للمطالبة بتأسيس حكومة انتقالية مُكوّنة من ثلاثلة مجالس مدنية، كما أوضحنا أعلاه. ولا تزال عملية المُفاوضات جارية بين الطرفين. وإلى جانب العناصر الجاذبة، برزت العناصر الطاردة لتحقيق التّحوُّل الدِّيمقراطي، والساعية إلى خدمة مصالحها القومية والإقليمية في السُّودان. ويمثل هذا المحور المملكة العربية السعودية ودولة الإمارات العربية المتحدة ومملكة البحرين وجمهورية مصر العربية؛ التي لا ترغب في تحقيق انتقال ديمقراطي، ربما يُؤثِّر سالباً في تماسُك منظومات حُكمها الشمولية. ويُضاف إلى ذلك حرصها على إبعاد الإخوان المُسلمين من دائرة الحكم في السُّودان؛ وسعيها لاستبقاء القوات السُّودانية المُقاتلة في اليمن؛ ومُحاولاتها لإبعاد حكومة الخرطوم من المحور التركي -القطري. وإلى جانب ذلك، نلحظ أنّ لجمهورية مصر العربية أجندتها الخاصة، والمُتعلِّقة بتخوُّفها من قيام حكومة ديمقراطية قوية في السُّودان، يكون لها رأيٌ مُعارضٌ للوجود المصري في مثلث حلايب، ولها مواقف مُساندة لأثيوبيا في مُفاوضات سد النهضة. أما دول المحور التركي – القطري فلم تتّخذ خطوات واضحة تجاه تأييد التطوُّرات السِّياسيَّة في السُّودان، بالرغم من أنها متهمة بمُساعدة التحوُّلات الديمقراطية في دول الربيع العربي، وكذلك بالتعاطُف مع توجُّهات الإخوان المسلمين. إذن يجب على قُوى الحُرية والتّغيير أن تستثمر مواقف الدول الغربية والاتحاد الأفريقي لانتقال السُّلطة إلى حكومةٍ مدنيةٍ، كما يجب عليها أن تتعامل مع الدول الإقليمية بحذرٍ ويقظةٍ شديدين؛ لأنّ الاصطفاف غير المدروس إلى أيٍّ منها رُبّما يعرقل مسار هذه الانتفاضة في تحقيق طُموحاتها السياسية.
خاتمة
يُؤكِّد هذا العرض أنَّ الأساس الهيكلي لدولة سودان ما بعد الاستعمار يحتاج إلى إعادة بناء جذرية، يصحبها تَطوُّرٌ في أنماط التفكير السياسي، بعيداً عن سياسات المحاور ذات الحمولات الأيديولوجية (يسارية أو يمينية). كما يفضّل أن تمر عملية الانتقال الفكري السياسي عبر ثلاث مراحل رئيسة، تتمثل في "الانفتاح والاختراق وإعادة التركيز". ويقصد بالانفتاح تعزيز التّواصُل بين المجموعات الفكرية والسياسية الناشطة، بعد أن تقوم هذه المجموعات بإجراء مُقاربات نقدية – فردية في بنياتها الفكرية والسياسية، وتُطوّر مخرجات تلك المُقاربات في شكل منظومات سياسية وفكرية تُلبِّي الحد الأني من مُتطلبات الواقع المعيش في السُّودان، بعيداً عن المنطلقات الأيديولوجية المُغلقة. ويقصد بالاختراق البحث عن المُشتركات الوطنية والتقاطُعات الفكريّة التي تُشكِّل خطاً ناظماً لحركة القوى القطاعية المؤمن بضرورة التغيير. ويقصد بإعادة التركيز "العمل على عزل وتحييد القوى المتصلبة فكراً، والمُتطرِّفة سُلُوكاً، وتجميع وتكتل قوى الانفتاح والاعتدال، ثم التوافق على آليات التحوُّل الديموقراطي الجديدة". ويُمكن أن تشكّل هذه المراحل الثلاث الضامن الأساس لنجاح التّحوُّل الديمقراطي، وإعادة بناء دولة القانون والمُؤسّسات في السُّودان. لكن يجب ألا نغفل التحديات الجِسَام التي تُواجه عملية التّحوُّل الديمقراطي، والتي تتطلب وعياً سياسياً جمعياً حصيفاً من الحاكمين والمحكومين، وأهدافاً استراتيجيةٍ واضحةٍ وخاليةٍ من شوائب الحمولات الأيديولوجية، ليلتف الناس حولها، كما ينبغي أن يكون أداء الحكومة الانتقالية المدنية منضبطاً وشَفّافَاً على مُستوى مُؤسّساتها السيادية العليا، وأجهزتها التنفيذية الدنيا.
المراجع:
أحمد إبراهيم أبو شوك، الانتخابات القومية في السُّودان: مقاربة تاريخية في مقدماتها ونتائجها، الدوحة مركز الجزيرة للدراسات، 2012م.
أحمد إبراهيم أبو شوك، والفاتح عبد الله عبد السلام، الانتخابات البرلمانية في السُّودان: مُقاربة تحليلية – تاريخية، أم درمان مركز عبد الكريم ميرغني، 2008م.
تيم بلوك، صراع السُّلطة والثروة في السُّودان، منذ الاستقلال وحتى الانتفاضة، (ترجمة الفاتح التيجاني ومحمد علي جادين)، الخرطوم: دار عزة للنشر والتوزيع، 2006م.
حيدر إبراهيم علي، الديمقراطية السُّودانية: المفهوم. التاريخ. الممارسة، القاهرة: الحضارة للنشر، 2013م.
عبد الرحمن خوجلي، الجيش والسياسة، أم درمان: مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، 2012م.
قُوى الحُرية والتّغيير، "إعلان الحُرية والتّغيير"، الخرطوم، 1 يناير 2019م.
قُوى الحُرية والتّغيير، "آليات ترتيب الانتقال للسلطة الانتقالية المدنية"، الخرطوم، 17 أبريل 2019م.
محمود قلندر، السُّودان ونظام الفريق عبود، 17 نوفمبر 58 – 21 أكتوبر 64، الخرطوم: دار عزة للنشر، 2012م.
محمود قلندر، سنوات النميري: توثيق وتحليل لأحداث ووقائع سنوات حكم 25 مايو في السُّودان، أم درمان: مركز عبد الكريم ميرغني الثقافي، 2005م.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.