في أحد صباحات مدينة الخرطوم وبينما انعطف بسيارتي شرقاً من دوّار كوبري القوات المسلحة متجهاً نحو طريق بُرِّي عبر امتداد شارع القيادة حيث الاعتصام، طلب بعض الشباب أن أوصِّلهم في طريقي وحسناً فعلوا، فقد كُنت بحاجةٍ لبعض الحديث الهادئ مع بعضهم بعيداً عن صخب المُخاطبات الجَماهيريّة، وعندما استقلّت إحدى الفتيات المقعد الخلفي ورائي مُباشرةً شكرتني وقالت: "يا شيخنا أدعو الله أن تكون حكومة مدنية" فقلت لها سأدعو الله أن تكون حكومة مُنتخبة. وأيقظ حوارنا حول هذه النقطة مَكامن سِياسيّة تَاريخيّة مُهمّة في وجداني السِّياسي المُرتبط بالعمليّة السِّياسيَّة في السُّودان والتي طَالَهَا الكَثير من التّشويه بسبب تشوُّهات الهيكلة السِّياسيَّة في السُّودان، ليس ابتداءً بأصل كينونة وتكوين الأحزاب السِّياسيَّة، وليس انتهاءً بالصراعات الأيديولوجية بين الأحزاب بدعوى اليمين واليسار أو الاتّحاد والانفصال أو نحو ذلك، وقد أشرت لهذا في المقالات الثلاثة السابقة من هذه السلسلة. إنّ مُشكلتنا السِّياسيَّة الحقيقيّة الآن لا تتمثل في التوافُق على حكومةٍ مدنيّةٍ بقدر ما أنّها مُتمثلة في الوصول لحكومةٍ مُنتخبةٍ من خلال مُمارسة عمليّة ديمقراطيّة سَليمة، وبُوّابة الوصول لهذا المراد هو الحكومة الانتقاليّة، فمن أين جَاءَ الصِّراع المُفتعل تحت مُسَمّى الحكومة المدنيّة؟! إنّها آفة الغَرق في ردّات الفعل! فحين كَانت المُعارضة الثّوريّة تُخَطِّط وتَسْعَى لِتَنَحِّي البشير بسلميّة، ثُمّ تكوين حُكومة انتقاليّة على غرار الحكومات التي تَمّ تكوينها قبيل سُقُوط النظام؛ كانت المُفاجأة مُستبعدةَ الحدوث هو قيام انقلاب عسكري ليُطيح بالنظام ويدفع العساكر إلى سدّة الحكم والحدث، بَل ويَجعل منهم رقماً جديداً مُهمّاً ومُؤثِّراً لا يُمكن تَجَاوُزه، والأخطر مِن ذلك هو أنّ هذا الحَدَث يُمكن أن يُمَهِّد لِمنح العَسكر مَقعد المُعارضة وحِرمانها من هذا المَقعد وذلك بعد التقاط العَسكر لزمام مُبادرة الثّورة وإكمال المَسير، ما يُمكن أن يكون إعلان انتهاء الدور المدني في الثورة، ولهذا كَانت المُطالبة بالحكومة المَدنيّة هي ردّة فعل لهذا الحدث ليس إلا. إذ الحَكومة المدنيّة ليس إلا وَصفاً زائداً للحكومة الانتقاليّة، ولكنه يشتمل على ثلاثة مَعَانٍ مُتَستِّرة وخطيرة يجب إدراكهما بوضوحٍ، أولها هو أنّ وصف الحكومة بكونها مدنيّة فحواه في علم المنطق اللا صوري هو التسليم القسري دُون تفسيرٍ أو مُعارضةٍ، ويُبرهن على هذا أنّه لا أحدٌ الآن يَتَحَدّث عَن مَدَى احتمال تشكيل حكومة انتقاليّة عسكريّة! فقد حُسم الأمر حتى دُون عَرضه على نِقَاشٍ! مع أنّ فُرص نجاح الحكومة العسكريّة على الصعيد الوطني التّجريدي لا تقل عن فرص نجاح أيِّ حكومة مدنيّة أخرى. والمعنى الثاني المُستتر هو أنّ المراد بالحكومة المدنية ليس هو تشكيلها من مدنيين، بل المراد تسليمها لمدنيين ليُشكِّلوها بأنفسهم!! فالقضيّة في مُلخّصها هي إقصاء العسكر وإخراجهم من المَشهد السِّياسي كَمَا تَلاحظ وهي ردّة الفعل ذاتها التي تحدثت عنها قَبل قليلٍ. المعنى الثالث المُستتر والأخطر هو أنّ القَفز فَوق تَراتبية الحَدث السِّياسي ووصف الحكومة بأنّها مدنية دُون الإشارة لكونها انتقاليّة يشف عن مُحاولة لجعل الحكومة المدنية حُكومة ذَات سُلطات واسعة تشبه سُلطات الحكومة المُنتخبة غير انتقالية سواءٌ كان ذلك في مُدّتها أو في الصلاحيات المَسنودة إليها. وفي المُقابل، يلوِّح بوضوح سبب هذا النهج من قِبل المُعارضة والذي يتمثل في النسب التاريخيّة العالية في نجاح الثورات المُضَادة والتي تُديرها الأنظمة السابقة ضد الثورات التي قامت عليها، كَمَا يتمثل في عدم ثقة المُعارضة في المُؤسّسة العَسكريّة أو في جُزئها والذي يمثل التّغيير السِّياسي ضد النظام السَّابق لاعتقادها بمتانة العلاقات بين المجلس العسكري والنظام السَّابق.. وهذان سببان يتمتّعان بالوجاهة بلا شك. يُضاف لهما بأنّ المُعَارَضَة لا تَرَى في الأحزاب السِّياسيَّة الطائفية والتّقليديّة والصّغيرة ملاذاً آمناً لها تستودعها ثورتها التي أطاحت بالنظام، بل ترى فيها خَصمها الذي سَيظفر بالسُّلطة عند أول عمليّة انتخابيّة. هذا هو مُلخص المُشكل السِّياسي الراهن في السُّودان المُرتبط بالفترة الانتقاليّة والجاري التّحاوُر بشأنه بين المجلس العسكري الانتقالي من جهة، وبين قُوى إعلان الحُرية والتّغيير وباقي الأحزاب والمُكوِّنات السِّياسيَّة من جهةٍ أخرى. وبعيداً عن الألاعيب السِّياسيَّة التي يرمي أصحابها لحرق الآخر وإحراجه أو إخراجه من المشهد السِّياسي، فإنّ المَخرج في نَظري من هذا الحَال هو بالتّحاوُر مُباشرةً حول الأسماء، لا سيّما مُسمّى شخص رئيس الوزراء باعتباره الشّخصيَّة المحوريّة للمرحلة الانتقاليّة، ثُمّ تسمية باقي الوزراء للوزارات التي سَوف تَكُون في أقل عددٍ مُمكنٍ لها، وعند التّوافُق على هذا القَدر من الحكم الانتقالي سيكون الطريق مُعَبّداً للحديث عن شكل السُّلطة التّشريعيّة والتي لا يصح بحالٍ إلا أن تَكُون مُمثلةً للشعب، وحَيث إنّ الانتخاب لها لا يتوفّر له الزمن والإمكان الآن فلا أقل من تكوين هذه السُّلطة بشكلٍ تمثيلي لمُكوِّنات المُجتمع السوداني السِّياسي والاجتماعي والثقافي، فيتكوّن المَجلس التّشريعي من مُمثلي الأحزاب والقبائل والتّكتُّلات الاجتماعيّة ومن الأكاديميين والمُتخصِّصين في الشّأن التّشريعي من المُستقلين أو غير المُستقلين، إذ هذا هو الشكل الوحيد الذي يُمكن أن يتوافق عليه أهل السُّودان، وهو الشكل الوحيد الذي سيضمن عدم قيام ثورات مُضادة أو استمرار الاحتجاج. فِي تَقديري، إنّه لا فَكاك في الفِترة الانتقاليّة عن وُجود ورعاية المُؤسّسة العسكريّة صَاحبة السَّهم الكَبير في التّغيير السِّياسي المَاثل وصاحبة السُّمعة والقُبول لدى أبناء الشعب السُّوداني، وذلك لعَدَدٍ من الأسباب التي من أهمّها التّشوُّهات البنيويّة الكَبيرة في الكيانات الحزبيّة وفي المُنظّمات والهيئات المَدنيّة التي يُمكن أن يلجأ لها الشارع السوداني. مَرّةً أخرى، وفي ختام هذا المقال أكرِّر بأنّه لا بُدّ من تحقيق أمرين مُهمّين حتى نصل إلى التجربة السِّياسيَّة الراشدة في السُّودان، لا بُدّ من دستورٍ يعلو فوق الجميع ويتأصّل في ثقافتنا جريمة المَسَاس به أو تعديله، مع تأهيل مُؤسّسات قوميّة لرعايته لا تخضع لسُلطة رئيسٍ أو توجيه حزبٍ، بل لإرادة الشعب الحرّة. كما لا بُدّ أن تُعاد صياغة الأحزاب السِّياسيَّة لتُعبِّر عن الأفكار والوسائل السِّياسيَّة وليس عن الأيديولوجيا أو القبائل أو الأُسر.