احتفالا بالذكرى الأولى لزواج الامير الحسين والاميرة رجوة.. نشر أول صور رسمية للأميرة تظهر حملها الاول    ريال مدريد يصطدم بأتالانتا في السوبر الأوروبي    ما شروط التقديم؟ السودان بين الاكثر طلبا.. الجنسية المصرية تجذب الأجانب وتسجيل طلبات من 7 دول مختلفة    أمير قطر في الإمارات    والي الخرطوم يدعو الدفاع المدني لمراجعة جميع المباني المتأثرة بالقصف للتأكد من سلامتها    بيلينجهام لمورينيو: ماما معجبة جداً بك منذ سنوات وتريد أن تلتقط بعض الصور معك    شاهد بالفيديو.. ياسر العطا يقطع بعدم العودة للتفاوض إلا بالالتزام بمخرجات منبر جدة ويقول لعقار "تمام سيادة نائب الرئيس جيشك جاهز"    عقار يشدد على ضرورة توفير إحتياطي البترول والكهرباء    ريال مدريد الإسباني بطل أوروبا    (زعيم آسيا يغرد خارج السرب)    القبض على بلوغر مصرية بتهمة بث فيديوهات خادشة للحياء    القبض على بلوغر مصرية بتهمة بث فيديوهات خادشة للحياء    داخل غرفتها.. شاهد أول صورة ل بطلة إعلان دقوا الشماسي من شهر العسل    قنصل السودان بأسوان يقرع جرس بدء امتحانات الشهادة الابتدائية    المريخ يتدرب على اللمسة الواحدة    إعلان قائمة المنتخب لمباراتي موريتانيا وجنوب السودان    بدء الضخ التجريبي لمحطة مياه المنارة    صلاح ينضم لمنتخب مصر تحت قيادة التوأمين    بعد الإدانة التاريخية لترامب.. نجمة الأفلام الإباحية لم تنبس ببنت شفة    شاهد بالفيديو.. وسط سخرية كبيرة من الجمهور.. أحد أفراد الدعم السريع يظهر وهو يغني أغنية "هندية" ومتابعون: (أغنية أم قرون مالها عيبها لي)    شاهد.. زوج نجمة السوشيال ميديا أمنية شهلي يتغزل فيها بلقطة من داخل الطائرة: (بريده براها ترتاح روحى كل ما أطراها ست البيت)    بعد الإدانة التاريخية.. هل يستطيع ترامب العفو عن نفسه إذا نجح بالانتخابات؟    شاهد بالفيديو.. شباب سودانيون يقدمون فواصل من الرقص "الفاضح" خلال حفل أحيته مطربة سودانية داخل إحدى الشقق ومتابعون: (خجلنا ليكم والله ليها حق الحرب تجينا وما تنتهي)    "إلى دبي".. تقرير يكشف "تهريب أطنان من الذهب الأفريقي" وردّ إماراتي    في بورتسودان هذه الأيام أطلت ظاهرة استئجار الشقق بواسطة الشركات!    دفعة مالية سعودية ضخمة لشركة ذكاء اصطناعي صينية.. ومصدر يكشف السبب    مسؤول سوداني يكشف معلومات بشأن القاعدة الروسية في البحر الأحمر    محمد صبحي: مهموم بالفن واستعد لعمل مسرحي جديد    فيصل محمد صالح يكتب: مؤتمر «تقدم»… آمال وتحديات    ميتروفيتش والحظ يهزمان رونالدو مجددا    السعودية تتجه لجمع نحو 13 مليار دولار من بيع جديد لأسهم في أرامكو    خطاب مرتقب لبايدن بشأن الشرق الأوسط    مذكرة تفاهم بين النيل الازرق والشركة السودانية للمناطق والاسواق الحرة    سنار.. إبادة كريمات وحبوب زيادة الوزن وشباك صيد الأسماك وكميات من الصمغ العربي    السودان.. القبض على"المتّهم المتخصص"    قوات الدفاع المدني ولاية البحر الأحمر تسيطر على حريق في الخط الناقل بأربعات – صورة    دراسة "مرعبة".. طفل من كل 8 في العالم ضحية "مواد إباحية"    الأجهزة الأمنية تكثف جهودها لكشف ملابسات العثور على جثة سوداني في الطريق الصحراوي ب قنا    ماذا بعد سدادها 8 ملايين جنيه" .. شيرين عبد الوهاب    نجل نتانياهو ينشر فيديو تهديد بانقلاب عسكري    الغرب والإنسانية المتوحشة    رسالة ..إلى أهل السودان    شركة الكهرباء تهدد مركز أمراض وغسيل الكلى في بورتسودان بقطع التيار الكهربائي بسبب تراكم الديون    من هو الأعمى؟!    اليوم العالمي للشاي.. فوائد صحية وتراث ثقافي    حكم الترحم على من اشتهر بالتشبه بالنساء وجاهر بذلك    متغيرات جديدة تهدد ب"موجة كورونا صيفية"    مطالبة بتشديد الرقابة على المكملات الغذائية    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



د. حامد فضل الله / برلين
نشر في السوداني يوم 12 - 04 - 2020

اتسم تطور العلاقات الدبلوماسية السودانية الألمانية بالشد والجذب، حسب التطورات السياسية في السودان، نتيجة ارتفاع وتيرة الحرب الأهلية في الجنوب، واندلاع الحرب عام 2003 في إقليم دارفور وجبال النوبة. هذا إلى جانب القروض المالية والتبادل السلعي والاستفادة من الخبرة الألمانية في التصنيع، والمساعدات الضخمة التي كانت تقدمها ولاية ساكسونيا السفلى لدارفور من 1982 حتى 1990، بإشراف كلاوس اُتو ناس وبالتنسيق مع أحمد إبراهيم دريج. ونشير هنا إلى الثلاثين منحة التي قدمتها مؤسسة فرتزبيرنير للعاملين في مصنع الذخيرة في الخرطوم، للتدريب والتأهيل الفني في ألمانيا، وإلى مركز التدريب المهني للتدريب في مجال الصناعات المعدنية والكهربائية، وقد تخرج في المركز 1500 طالب ويعتبر المركز نموذجاً، ومن أهم وأنجح المشاريع التي ساهمت فيها ألمانيا الغربية. غالبية الخريجين ومدربيهم غادروا السودان إلى بلاد الخليج الغنية، من بلد طارد لأبنائه.كذلك ساهمت ألمانيا الاتحادية في تكوين مجموعات بحثية، مثل،"مجموعة أبحاث الاقتصاد السوداني" تحت أشراف أستاذ الاقتصاد كارل فولموت في جامعة بريمن، أو استضافة أساتذة من جامعة الخرطوم ومنهم د. بيتر كوك، كباحث لفترة طويلة، في معهد الشرق في هامبورج، الذي كان يشرف عليه سابقاً أودو شتاينباخ، بجانب البعثات للدراسات العليا في مجالات الزراعة والجيولوجيا والطب البيطري. وكذلك ساهمت في التنقيب عن الآثار بإشراف ديدرشفيلدينج مدير المتحف المصري في برلين الغربية، تواصلاً مع اكتشافات فرتزهنزا من ألمانيا الديمقراطية، وكان هنزا أيضاً عضواً في معهد الآثار الألماني في ميونيخ مثالاً على عبور العلم للحدود.
تركز العدد الكبير من باحثي الدراسات العليا في الجيولوجيا في جامعة برلين التقنية، وكان يشاركهم في الأبحاث استفان كروُبلين عالم الجيولوجيا في جامعة كولون، وكان يسافر كثيراً إلى السودان، ومحباً ومعجباً ببلادنا، ولا أزال أذكر مقالة له في صحيفة فرانكفورتا شاو بتاريخ 12 أكتوبر 2004، وبعنوان لافت "تلاعب ذوي السلطان". وفحوى المقال هو التدخلات الخارجية، التي تعوق التنمية في السودان، فقط من أجل مصالحها الخاصة، واختتمه بجملة رائعة " من حق هذا البلد وأهله أن ينالوا الإنصاف الذي يستحقونه". أدى مقاله إلى ردود غاضبة من قبل كتاب ألمان منهم جيرهارد باوم وزير الداخلية الأسبق في حكومة هلموت أشمدت والمبعوث الخاص السابق للأمين العام للأمم المتحدة للسودان بخصوص حقوق الإنسان، والذي كان قد التقى أكثر من مرة مع الراحل خليل إبراهيم، لقد عابوا عليه تجاهله لدور السلطة الحاكمة، التي تقهر وتضطهد شعبها.
وقلت له في ردي المقتضب: جميل أنك أشرت إلى العامل الخارجي. ولكنني أفهم خاتمة مقالك أيضاً كنداء موجه لنا نحن السودانيين حكومة ومعارضة ونخبة، أن نكون منصفين ومخلصين لهذا البلد وأهله الطيبين، لأنهم يستحقون ذلك ".
وكتبتُ خاتماً: عندما علمت بأن أبحاثك العلمية امتدت إلى وادي هور(يقع في غرب السودان)جال في ذهني مباشرة شاعرنا الأحيائي الكبير محمد سعيد العباسي والذي كان يزور تلك المناطق ويتغنى بجمال الطبيعة وذكريات حميمة لتاريخ اندثر التي ألهمته رائعته الطويلة (وادي هور ) و التي جاء من أبياتها:
وسُرى ليالٍ لم تذقْ
طعمَ الكرى حتى السَّحَرْ
سبحان ربي أين وادي
النيلِ من وادي هَوَرْ
وعواصمُ القومِ الذين
بذكرهم تحلو السَيرْ
زرت الربوع فخانني
صبري لذكرى من غبرْ
ما كان لي كبدُ السلوِّ
ولا فؤادٌ من حَجَرْ
هنا يتجاور العلم مع الفن والثنائيات: العلم والحدس، الواقع والخيال، الحقائق والأوهام وما بينهما من تضاد وتشابه.
كانت تقوم وزارة الخارجية الألمانية، بتقديم دعوات للحكومة السودانية والمعارضة، وأحياناً للمعارضة منفردة، لمناقشة قضايانا المزمنة، كما تقدم مؤسسة فريدرشايبرت دورات تدريبية في مجال الإعلام والصحافة والنقاش حول قضايا المجتمع المدني والفكر السياسي وتحقيق الديمقراطية.
ما أزال أذكر مخاطبة العقيد جون قرنق للبرلمان الألماني في بون في بداية عام 1989. كان حزب الخضر، هو الذي قدم الطلب للهيئة البرلمانية لدعوة قرنق، كما قُدمت دعوة للحكومة السودانية للمشاركة، وكانت الحكومة وقتها برئاسة السيد الصادق المهدي. حضر وفد الحكومة برئاسة الدكتور بشير عمر وزير الطاقة والتعدين. كانت هناك حراسة شديدة على البرلمان، خوفاً أن لا يقتصر الأمر على مشادة كلامية فقط، لقد أصابت البرلمانيين، الدهشة والاستغراب للطريقة التي استقبل بها أعضاء الوفدين بعضهما البعض"بالأحضان والابتسامات وتبادل القفشات". استمرت الجلسة العاصفة من الساعة التاسعة صباحاً حتى الساعة الثامنة مساءً، نتيجة لتعدد المحاور. لقد أشاد شاعرنا الكبير والدبلوماسي الرفيع محمد المكي إبراهيم، الذي كان وقتها ممثلاً لوزارة الخارجية، بدور الوفد وخاصة رئيسه. واذكر هنا ما علمته لاحقاً، باحتجاج د. عبدالله علي إبراهيم، لدى رئيس البرلمان الألماني، معترضاً، مخاطبة قرنق لبرلمان ديمقراطي وهو يعتنق تكتيك حرب العصابات ويرفض الدعوة بترك الحرب والمساهمة في حل ما يرضي أهل السودان مستفيداً من ساحة الديمقراطية الناشئة. كان هناك أيضاً تحفظ من بعض النواب الألمان، من وجهة نظر قريبة من وجهة نظر عبد الله.
بعد توحيد ألمانيا، انتقلت السفارة إلى برلين في عام 2000، واحتفينا بأحمد جعفر عبد الكريم وهو السفير الثاني في الخارجية، الذي تخرج في الجامعات الألمانية. وكانت عليه المهمة الصعبة، ألا وهي القيام بإجراءات تصفية العقود والالتزامات وأملاك السفارة، لا يهمنا هنا ما كان يدور من لغط حول تجاوزات في هذا الموضوع، ونحن لا نعرف حقيقتها وتفاصيلها، ولكننا نعرف، ما كان يتميز به السفير من طيبة وأمانة وربما ما يعاب عليه ثقته المفطرة، في من لا يمكن الثقة به وإنما يهمنا، محاولة الاستقطاب وزرع الفتنة بين السودانيين، مما دفعني إلى كتابة الرسالة أدناه:
سعادة السيد أحمد جعفر عبد الكريم سفير ، جمهورية السودان. برلين/ ألمانيا المحترم
تحية طيبة وبعد
أود أن أعبر لسيادتكم بهذا الخطاب، عن وجهة نظري فيما يتعلق بعلاقة السفارة بالسودانيين المقيمين في ألمانيا، سواء أكانوا طلاباً أم مبعوثين، أم مغتربين. إننا نلاحظ، بأن هناك اهتماماً وأسبقية وتفضيلاً لاتجاه سياسي معين على حساب الاِتجاهات السياسية والمنظمات الأخرى الموجودة على الساحة البرلينية.
لقد خبرنا هذه التجربة عام 1997 في سفارتنا في بون، بل شارك أحياناً بعض الطلاب ذوي الاِتجاه السياسي المفضل لدى السفارة، في تحرير النشرة الإعلامية "السودان في نصف شهر"، التي كان يصدرها القسم القنصلي في بون. والآن نلاحظ نفس هذا الاتجاه من جديد، من تفضيل و"فرش البساط" لاِتجاه سياسي معين وتهميش الآخرين. إن سياسة الحكومة المفترض أن تمثلها وتطبقها سفارتنا في الخارج تدعي أنها تدعو إلى الاِنفتاح على كل الاِتجاهات السياسية والتنظيمات المختلفة.
لقد أشرت عابراً إلى هذا الخلل في خطابي المفتوح بتاريخ 24 يونيو 2002 والموجه إلى اللجنة التنفيذية للجالية السودانية برلين / براندنبورج، عندما بدأ هؤلاء الطلاب بالاِفتخار بوضعهم المميز، بل والاعتداد بسلطتهم " الوهمية"، المكتسبة، في الجلسات الخاصة، فكان لا بد من الإِشارة لهذا الخلل علناً.
إن أسلوب الاِستقطاب من جانب السفارة وأسلوب الوصاية والوشاية من الجانب الآخر، غير مقبول ويؤدي إلى خلل وتدمير العلاقات الاِجتماعية والإنسانية بين السودانيين.
إن للسفارة السودانية في برلين مهام كبيرة ومتشعبة لثقل ألمانيا الاِقتصادي ودورها العالمي، مما يتطلب تضافر الجهود مجتمعة والوضوح النظري والفكري والسياسي من أجل مراقبة وتحليل التطورات السياسية الداخلية والخارجية في ألمانيا وانعكاساتها على عالمنا العربي والإفريقي بدلاً من الاِنصراف إلى قضايا جانبية لا طائل من ورائها.
إنني أكتب هذا الخطاب مجرداً من أي غرض سوى التنويه والإشارة إلى هذا الخلل في علاقة السفارة بالسودانيين في الخارج والأمل في إصلاحه.
السيد السفير، أكرر مرة أخرى تحيتي وتقديري لشخصكم.
د. حامد فضل الله
أول نوفمبر 2002 برلين / ألمانيا
ونتذكر من الطاقم المحلي العم عبد الله كجوك، فعندما تتصل ببون، يصادف أذنك صوته المألوف بنبرته وترحيبه البشوش، وهو العليم بدروب وخبايا السفارة، وخلفه في برلين الحاج سعيد محمود، شريان ودينامو السفارة، وهو خير خلف لخير سلف.
خلف أحمد جعفر السفير المخضرم عمر الصديق، ولم يمكث طويلاً، فقد تم نقله إلى بريطانيا، بؤرة المشاكل والمتاعب وهو سفير المهمات الصعبة.
جاء د. بهاء الدين حنفي سفيراً إلى ألمانيا، بعد تجربة في تركيا، بعد فترة قصيرة من وصوله، بدأ وكأن هناك مساراً جديداً في السفارة، لا استقطاب أو أفضلية.كان الدبلوماسيان عبد الوهاب حجازي وحسن نقور يمتلكان نباهة مميزة ويمارسان عملهما بحنكة بالغة ويضبطان التوازن بمسؤولية ومقدرة عالية. انصب اهتمام السفير، بتحسين العلاقات مع ألمانيا، التي كانت مزدهرة عبر السنين لتصل في عهد الإنقاذ إلى أدنى مستوى لها. ولكنه كان مثل خلفه السفير بدر الدين عبد الله، ينحتان في الصخر.كيف يمكن تحسين علاقة مع دولة فاسدة وتمارس الإرهاب ضد شعبها وتُفاقم الحرب في دارفور وجنوب كردفان والنيل الأزرق، وغير راغبة في سلام عادل، يحقن الدماء. إن عقد مؤتمر اقتصادي، دون مردود، أو استقبال ممثل للحكومة مجاملة، أو إقامة معرض للآثار السودانية في مدينة ميونخ، وتسويق كل ذلك كأنه إنجازٌ كبيرٌ للعلاقات مع دولة في حجم ألمانيا، وإنما هو خداع للنفس. حصر د. بهاء الدين نفسه في عمله الدبلوماسي فقط، وكان أميناً مع نفسه، فقد قال علناً ومراراً، بأنه ما كان يحظى بهذا المنصب الرفيع، لولا عضويته في المؤتمر الوطني.
انضم إلى الطاقم الدبلوماسي الوزير المفوض خالد موسى دفع الله. لم يحبس خالد نفسه داخل جدران السفارة، فانطلق باحثاً عن مراكز الأبحاث الألمانية ومشاركاً في الندوات العامة، مناقشاً ومجادلاً، ومقدماً ومراجعاً للعديد من الكتب، حتى لخصومه السياسيين والفكريين بكثير من الموضوعية والشفافية. وقد أعاد خالد الحياة لجمعيتنا الأدبية، وشارك في ندوة أقمناها وفاءً لذكرى كاتبنا المبدع وأصدرنا كتاباً بوقائع الندوة بعنوان "الطيب صالح: جسر بين الشرق والغرب"، شارك خالد في الكتابة والإصدار. وكان خالد زائراً منتظماً للمؤتمر السنوي لمنبر السودان في مدينة هيرمانسبورج، ودائم الحضور في كل الجلسات، فهو مخزن من المعلومات وحافظة للتواريخ، يدعم حجته واعتراضاته بصوت هادئ بعيداً عن التشنج والانفعال، فخالد يقدم خدمة جليلة للنظام الحاكم لا يستهان بها ويمثل عبئا ثقيلاً على المعارضة. قال لي دبلوماسي بالخارجية الألمانية، لو صدقَ خمسة في المئة من الحضور كلام خالد، فهذا مكسب كبير للنظام، وهي إشارة إلى مدى إفلاس هذا النظام.
هل يدفع خالد ثمناُ باهظاً من قناعاته وقيمه من أجل الولاء. خالد يجادل بعد أن تم فصله من الخارجية، بأنه كان يقوم بواجبه الوظيفي. هل كان مطلوباً منه أن يكون بوقاً وصوتاً صارخاً. لقد انكشف الآن المستور، وما كان مستوراً، فساد وكذب ونفاق النظام. أنني اقول للصديق خالد عليه أولاً أن يتصالح مع نفسه، مما يعني الصراحة والوضوح وإزالة التناقض الداخلي، قبل أن يتصالح مع المجتمع، إذا اراد أن يكون لصوته وقلمه وفكره مصداقية. وقد فعلها آخر من قبل، عندما اكتشف في وقت مبكر فساد وظلم النظام، فترك المنصب الرفيع والمعاش المضمون، وصار ناقداً موجعاً للنظام، وأصبح أكاديمياً وأستاذاً مرموقاً ويشارك بالكتابة في الشأن العام ويجبرك، مهما اختلفت معه فكرياً، أن تتمعن في كتاباته وتعاود التفكيرفيما تعتبره من الثوابت، وهذا لعمري مهمة الكاتب الأمين والمفكر الرصين.
قامت وزارة الخارجية بفصل 109 دبلوماسيين وموظفين من وزارة الخارجية. إن شأني مثل الكثيرين، الذين يتابعون باهتمام مسار وقرارات حكومتنا الانتقالية، وتدور في أذهانهم الكثير من الأسئلة، ويتوخون لها الإجابة المطمئنة، وأتوجه ببعضها إلى الحكومة ولقوى الحرية والتغيير (قحت) وإلى الدكتور عمر قمر الدين وزير الدولة بوزارة الخارجية، الذي كان في صحبة السيد رئيس الوزراء د. عبدالله حمدوك، عند زيارته إلى ألمانيا ورده على الذين انتقدوا تقاعس وزارة الخارجية، "فسفراء المؤتمر الوطني لا يزالون يسيطرون على السفارات في الخارج". فجاء رده، الذي لقي ترحيبا شديداً " إنني أيضاً من ضمن ضحايا سياسة المؤتمر الوطني، وإننا نعمل في الوزارة بهدوء وشفافية وأمانة، وتحرٍ دقيق، حتى لا نظلم أحداً، وهذا هو الفرق بيننا وبين الإنقاذ":
هل صحيح قد تم فصل دبلوماسي، مشهود له بالكفاءة والأمانة، فقط بسبب قرابته من وزير أو نافذ في المؤتمر الوطني؟
هل صحيح، كانت هناك أسماء دبلوماسيين تتصدر قائمة الفصل وتدخلت سلطة عليا بسحبها من القائمة؟
هل صحيح، أن هناك دبلوماسياً، كان يتدنى ويتملق أي وزير أو تنفيذي من المؤتمر الوطني، بصورة يندى لها جبين أي شخص يحترم نفسه، يقوم الآن، بمد لجنة الفصل، بأسماء من يجب فصلهم؟
هل لا يوجد ضمن هذه القائمة الطويلة، اسم دبلوماسي واحد، اتسم بالنزاهة والكفاءة، وتم فصله، فقط لأنه ينتمي سياسياً لحزب المؤتمر؟ إننا لم نطالب الدبلوماسيين الذين لم يتم فصلهم من حكومة الإنقاذ، بالاستقالة، وعملوا طيلة هذه الفترة مع حكومة الإنقاذ من أجل أو تقليل الضرر، الذي ربما يصيب السياسة الخارجية.
ربما يكون صحيحاً، "من الصعوبة تحقيق العدل بالكامل، فكذلك من الصعوبة أيضاً تجنب الظلم بالإطلاق".
حاشية:
في نقاش مطول مع صديق، ناقداً له، ومشيرا لدفاعه غير العقلاني عن نظام الإنقاذ مع تبريرات فجة تدعو إلى الشفقة، ، قال لي إنك طبيب اختصاص ناجح ولكنك لا تفهم في السياسة لم أقل له تأدباً واحتراما للمشاعر الانسانية، فكلنا بشر، "إن فهمك للسياسة التي تتبجح به، هو الذي أدى إلى مسح تاريخك ونضالك الطلابي الناصع، المشهود به ومسخ صورتك كأكاديمي وأستاذ جامعي ينشر المعرفة في عقول طلابه، وخلق منك شخصاً خادماً ومطيعا ذليلا من أجل حفنة جنيهات إسترلينية وإنما قلت له " الحمد لله، بأنني صفر في السياسة".
جاء في رسالة دكتوراه بعنوان "الدولتان الألمانيتان والسودان الصراعات الخاصة في أعالي النيل (لم تنشر بعد) لباحث ألماني، استشهد بمقولة لسوداني مجهول الهُوية، وثبتها بنصها الإنجليزي:
We will need another 100 years to enjoy justice, peace and stability. So it will only be our grand – grand – children to benefit. But it will definitely come as it came to Europe – and we will lay the foundation with everything we do today.
وترجمتي لها:
سوف نحتاج إلى مئة عام أخرى، لنستمتع بالعدالة والسلام والاستقرار. لذا لن يكون سوى أحفاد أحفادنا، الذين يجنون ثمار ذلك. وسوف يحدث هذا بالتأكيد كما حدث في أوروبا وكل ما نقوم به اليوم، هو وضع الأساس لذلك.
هذه كلمات شخص متشائم وصدق أكذوبة الإنقاذيين وحكمهم العضوض، فجاءت الثورة الشبابية، فأطاحت بهم، ولا نحتاج إلى مئة عام أخرى لتحقيق العدالة والسلام والاستقرار.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.