د. عبدالعظيم ميرغني بَلْ هُوَ خَيْرٌ تقول الأسطورة أنه حدث في قديم الزمان، حينما كان الزمان وليداً، وكانت الآلهة جديدة ولم تعرف لها أسماء بعد، وحينما كان جسم الإنسان ما يزال ندياً بالطين الذي جبل منه. حينها وقف هذا الإنسان في وجه تلك الآلهة مدعياً أنه هو أيضاً إله. ففحصت الآلهة ما قدمه من بينات وأدلة ووزنتها فوجدتها صادقة. ولكن الآلهة بعد أن سلمت بدعوى الإنسان تسللت إليه في الخفاء واختلست منه تلك الألوهية، وهي تنوي أن تخفيها عنه حتى لا يهتدي إليها أبداً. ولم يكن هذا بالأمر السهل الهين عليها، لأنها تعلم أنها إذا أخفتها في أي مكان في الأرض فإن الإنسان سوف لن يترك حجراً في مكانه حتى يقلبه في البحث عنها والاهتداء إليها. ثم أنها إذا أخفتها عندها فإنها تخشى أن يصعد الإنسان إليها في السماء ويقتنصها منها. وبينما كانت الآلهة في حيرة إذ تقدم أكبرها وأحكمها قائلا: أتركوا لي هذه المسألة فأنا أعرف حلها. ثم قبض بيده على تلك الشعاعة الصغيرة المضطربة التي تحتوي على إلوهية الإنسان، فلما صارت في قبضته، بسط كفه وإذ بها قد طارت منه. وعندئذ قال: حسن هذا، الآن قد أخفيتها حيث لا يستطيع الإنسان أن يحلم بها، إني أخفيتها في الإنسان نفسه". مغزى هذه الأسطورة التي أوردها الأستاذ سلامة موسى في كتابه مقالات في الحياة والأدب أن في نفس كل واحد منا شعاعة إلهية تضطرب فيها، هي تلك البصيرة القدسية التي تغرينا بالإيثار وتدفعنا إلى السمو فوق ذواتنا، وتجعلنا نرضى بالخسف والمشقة في سبيل تحقيق أهداف ومثل وغايات عليا، كقيم الحق والعدل وتوخي إنصاف الغير حتى لو أدى ذلك إلى هلاكنا. هذه الشعاعة القدسية الكامنة فينا هي التي جعلت رجلاً مثل يوري أفنيري -يهودياً ملحداً كما وصف نفسه- يتصدى لحبر المسيحية الأعظم بابا الفاتيكان بندكت السادس الذي زعم في عام 2006 أن الإسلام قد انتشر بحد السيف وأن النبي محمداً (صلى الله عليه سلم) لم يقدم ما هو جديد للعالم، مستنداً في ذلك على مناظرة زعم أنها جرت في القرن الرابع عشر الميلادي بين إمبراطور بيزنطي وعالم دين فارسي. استهل أفنيري دفاعه عن الإسلام ونبي الإسلام مفنداً دعاوى البابا، بتساؤله أولاً: لماذا اقتبس البابا من إمبراطور بيزنطي يتبع للكنيسة الشرقية المنافسة من دون الناس جميعا؟ ولماذا استند على مناظرة مشكوك في صحتها تاريخيا؟ ويضيف أفنيري "ولأن العقيدة أو الإيمان تولد في الروح وليس الجسد، كيف للسيف أن يؤثر في الروح؟ ومضى أفنيري في تلقين البابا دروساً في فنون المنطق والنزاهة والأمانة ليقول له وهو الحبر الأعظم كان يجدر بك وأنت تنصب نفسك قاضياً لمحاكمة الإسلام أن تستند على نصوص القرآن لا على أقوال إمبراطور معاد للإسلام، وكان يجدر بك -من باب النزاهة العلمية على الأقل- أن تبدي وجهة النظر المعترضة وأدلة المعارضين. وكان يجدر بك وأنت الحبر الأعظم أن تقتدي بأقوال نبيك -عيسى عليه السلام- الذي يقول: "من ثمارهم تعرفونهم" فتنظر في تعامل الإسلام مع الديانات الأخرى خلال أكثر من ألف سنة حكم فيها المسلمون العالم، وكان باستطاعتهم خلالها "نشر دينهم بقوة السيف" ولكنهم لم يفعلوا ذلك. وضرب أفنيري مثلاً بحكم المسلمين لليونان عدة قرون دون أن يجبروهم على اعتناق الإسلام بالقوة بل بقي اليونانيون متمسكين بمسيحيتهم رغم تقلدهم لأعلى المناصب في الإدارة العثمانية. وكذا الأمر بالنسبة للبلغار والصرب والرومان والمجريين وكثير من الأمم الأوربية الأخرى التي بقيت على عقيدتها المسيحية تحت حكم العثمانيين دون ان يجبروا على التحول للإسلام. بالمقابل ذكر أفنيري دولاً أخرى مسيحية تحولت للإسلام تحت حكم العثمانيين بطوعها واختيارها كألبانيا والبوسنة. ويورد أفنيري أنه "في عام 1099 حين دخل الصليبيون القدس ذبحوا السكان المسلمين واليهود بطريقة عشوائية باسم المسيح الوديع. هذا بينما مرت أربعمائة عام على فتح المسلمين للقدس ورغم ذلك بقي النصارى أغلبية في البلد. وخلال تلك الفترة الطويلة لم يبذل المسلمون أي جهد لفرض الإسلام على هؤلاء النصارى بالقوة. فقط عندما تم دحر الصليبيين من البلد بدأ أغلبية السكان بالتحول للغة العربية والديانة الإسلامية وهم الأجداد الأوائل للفلسطينيين الحاليين". ثم يواصل الكاتب اليهودي القول "لا يوجد أدنى دليل على أية محاولة لفرض الإسلام على اليهود. فكما هو معروف فإنه تحت الحكم الإسلامي الإسباني تمتع اليهود بازدهار لم يتمتعوا بمثله في أي مكان آخر. ففي اسبانيا المسلمة كان اليهود وزراء وشعراء وعلماء. فكيف يكون ذلك ممكناً إن كان النبي محمد قد أمر بنشر الدين بالسيف؟". ويواصل أفنيري القول: "عندما استعاد الكاثوليك إسبانيا من المسلمين أقاموا عهداً من الإرهاب الديني. خٌيِّر المسلمون واليهود بين خيارات قاسية: إما التنصر أو الذبح أو المغادرة. فإلى أين لجأ مئات الآلاف من اليهود الذين رفضوا تبديل دينهم؟ استقر اليهود الأسبان في كل العالم الإسلامي من المغرب غرباً إلى العراق شرقاً، ومن بلغاريا (التي كانت جزءا من الإمبراطورية العثمانية) شمالاً إلى شمال السودان جنوباً. لم يضطهد اليهود أو يعذبوا ولم يتعرضوا لأي شيء يشبه محاكم التفتيش والحرق وهم أحياء، لماذا؟ لأن الإسلام منع وبوضوح اضطهاد أهل الكتاب. ويواصل أفنيري شهادته: "لا يسع أي يهودي مخلص عارف بتاريخ شعبه إلا أن يشعر بالامتنان العميق للإسلام الذي حمى اليهود خلال خمسين جيلاً بينما اضطهدهم العالم المسيحي وحاول مرات عديدة حملهم بالسيف على ترك عقيدتهم". خلاصة الأمر إن الخير مغروس في النفس البشرية ومجبولة عليه، فما كانت هذه الشهادة المنصفة للإسلام أن تبرز إلى الوجود لولا دعاوى البابا وافتراءاته في حق الإسلام. وما كانت افتراءات البابا وأصحاب الرسوم الكاريكاتورية والأفلام المسيئة للإسلام، لتسوءنا نحن المسلمين لدرجة الإتيان ببعض مظاهر العنف ورسولنا الكريم يعلمنا "أن الله ليؤيد هذا الدين بالرجل الكافر" وفي رواية بالرجل الفاجر، وقرآننا يحدثنا عن أحاديث الإفك ويقول: "لَا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ".