والذي يريد أن يعرف أثر الدين الذي أرسل به محمد عليه أفضل وأكمل الصلاة والتسليم فليسحب من كتب التاريخ قصة أي رجل من رجاله ثم يقرأها ويتأمل ويستخلص منها العبر... أقرأ قصة شاب في عمر ونضارة سنوات معاذ بن جبل مثلا...أقرأ قصة مصعب بن عمير إن شئت، أو اقرأ قصة خالد بن الوليد الذي أسلم وعمره فوق الخمسين!! ثم انظر وتابع حالة الانقلاب الكلي التي تحدث في حياة هؤلاء!! وبلال بن رباح كان شيئا أقل من سقط المتاع في ظلامات الجاهلية، قد يصف الاعرابي فرسه ودرعه وسيفه بل وعنزه التي تحلب له وكلبه التي تصطاد له ولكن ذاكرة ذاك الاعرابي لن تسقط أبدا على ذكرى لبلال بن رباح.. ولولا دين الحبيب محمد عليه الصلاة والسلام لما سمعنا بهذا الاسم دعك عن المقام العالي الذي صعد اليه الرجل وأصبح لا يذكر اسمه الا مسبوقا ب(سيدنا) ومختوما ب (رضي الله عنه)... ثم انه غير كل هذا وذاك أصبح بطلا لأعظم وأعمق حكايات الحب والشوق والإخاء.. ومدينة الأوس والخزرج التي ما كانت لتحفل بألف مثل بلال ها هي تبكي لبكائه... تبكي حتى تخنقها العبرة... وبلال هذا بعد وفاة المصطفى يأخذ قليل متاعه ويستأذن من الخليفة أبي بكر عليهما الرضوان في الخروج إلى الشام. لماذا؟ لأنه لا يطيق بقاءً في المدينة بعد وفاة النبي صلى الله عليه وسلم!! فهل قابلكم رجل يخرج من أهله وقريته وعشيرته لأنه لا يطيق بقاءً فيها بعد وفاة أخيه وحبيبه؟! وسيدنا أبو بكر يترجى سيدنا بلالاً في البقاء ورفع الأذان لهم. وبلال يرد ردا قاطعا (لن أؤذن لأحد بعد رسول الله).. حتى إن كان هذا (الأحد) هو خليفة المصطفى.. فالمقام ليس مقام جفوة للخليفة ابي بكر بقدر ما هو مقام وفاء لرجل غسل البشرية وتاريخها من ظلامات الرق والعبودية والاستحقار!! وسيدنا أبو بكر يلح على سيدنا بلال في البقاء.. وبلال يغلق باب النقاش تماما.. وهو يسأل "إن كنت أعتقتني لهذا فسأبقى وإن كنت أعتقتني لله ورسوله فدعني أرحل إلى الشام" والخليفة لا يجد بدا من السماح للرجل بالرحيل..... ويرحل بلال إلى الشام.. وهنالك تصطاده أطياف الشوق والحب والحنين فيرى المصطفى... سيده وحبيبه ورفيق خطوه في رحلة الصعود.. نعم يرى الرسول الكريم يعاتبه في منامه ويسأله :(لِمَ كل هذه الجفوة يا بلال؟ أما آن لك أن تزورنا؟؟) يا الله.. من منكم افتقده حبيبه لدرجة هذه المناجاة العذبة والرقيقة؟ ثم كم من الناس زارهم المصطفى يبلغهم شوقه وانتظار مزارهم؟ نعم من منكم نال مقام بلال... بلال الذي لم يكن يسوي في سوق قريش أكثر من درهمين!!... وينتفض بلال... ويشد رحاله إلى المدينة ويدخلها بعد أيام. وتقول الرواية إن الرجل عندما بلغ قبر المصطفى صلوات الله وسلامه عليه، أخذ يمرغ وجهه وعينيه بالقبر وينتحب حتى رفعه الحسنان من القبر وطلبا منه أن يؤذن لهما في السحر وبلال يستجيب ويصعد ويؤذن حتى اذا بلغ (أشهد أن محمدا رسول الله) تخنقه العبرات فينزل وتضج المدينة بالبكاء... فالأذان عنده اليوم ليس ذاك النداء التقليدي المعتاد للصلاة... الأذان اليوم أهزوجة من أهازيج الحنين الحارق والشوق اللاذع الذي لا يعرفه الا جمهور المحبين... حتى الموت عند بلال مجرد وعد مترف بلقاء الحبيب (غدا ألقى الأحبة).... اللهم أرفعنا عند نبيك في هذه الليالي ولو نصف مقام بلال.. وأرفع أقدامنا إلى نبيك فقد آذتنا هذه الجفوة وألهبنا ذياك الحنين... اللهم أجعلنا ولو سيرا في نعل من يمسون ذاك المقام ويصبحون ويبيتون عنده.