رئيس الوزراء الماليزي السابق د. مهاتير محمد (صانع المعجزة الماليزية) (2-2): حكومات ما بعد الثورة يجب أن تعي الدرس قادة اوروبا ينكرون الخسائر المالية ولا يريدون التعامل مع تبعاتها (...) هذا ما يميز النموذج الياباني عن نظيره الاوربي على المسلمين إعادة النظر في فهم الإسلام حوار: خالد التيجاني على الرغم من أنه تخلى طوعاً عن الحكم قبل عشر سنوات, الا انه ما زال يمارس دوره الزعامي في الترويج لبلده الذي يحتفظ له بحق وتقدير مكانة الأب المؤسس لنهضتها الحديثة. كيف لا وقد قاد ماليزيا في غضون سنوات قليلة من دولة فقيرة لتصبح إحدى النمور الآسيوية وليصبح نموذجها في النهضة مثار إعجاب باتت الكثير من الدول الساعية للنهوض تستلهم تجربتها, وها هو يزور الخرطوم، (السوداني) تقوم فى هذه المساحة بنشر هذا الحوار الذى اجراه معه رئيس تحرير صحيفة () د. خالد التجاني النور، بكوالامبور قبل وصوله للخرطوم، وتكرم مشكورا بالموافقة على نشره. ثلاثون عاماً مرت على تبنيك ل"سياسة النظر شرقا" والتي ستحتفلون بها في اليابان الشهر القادم, لماذا تبنيتم النموذج الياباني لإنهاض ماليزيا, وما هي الدروس المستفادة من ذلك؟. "سياسة النظر شرقاً" لا تعني بتبسيط مخل النظر إلى نجاح القدرات التصنيعية لليابان وكوريا الجنوبية, والقدرة الفائقة على تجاوز الدمار الكبير الذي خلفته الحرب, المسألة أبعد من ذلك هي سبر أغوار ما وراء هذا النجاح والتعلم منه. ما هي المكونات الاجتماعية والثقافية التي شكلت مصدراً للقوة الجديدة, وتنامي قدرتها التنافسية حتى أسست لهذا النهوض السريع من تحت الركام. عامل واحد لا ريب فيه هو تجذر "المنظومة الأخلاقية لثقافة العمل", التي تقوم على العمل الدؤوب بكل جدية والحرص على الافتخار بمنتوج العمل. وذلك كله دافعه روح وطنية وثابة أيقظتها الهزيمة والإحساس بالمهانة, والإصرار على إعادة البناء واستعداد لدفع ثمن ذلك تضحية يدفعها كل فرد في المجتمع. ما دعوت لتبنيه في "سياسة النظر شرقاً" هو التعلم من طريقة التفكير, المنظومة الاخلاقية للعمل, الجدية في تحمل المسؤولية, وإيقاظ الروح الوطنية, وليس مجرد محاكاة اليابانيين. ولماذا تعتبر منظومة القيم الأخلاقية اليابانية متفردة؟ إنها الثقافة, المنظومة الأخلاقية جزء أساسي من المكون الثقافي للمجتمع الياباني, ومن أسباب تميزها ذلك الإحساس الذاتي العميق بالعار. عندما يشعر الياباني بالتقصير في أداء واجبه, أو بإرتكابه شيئاً خاطئاً, فإن الإحساس المرير قد يقوده إلى أن يقتل نفسه للتخلص من العار الذي يحس به. ولذلك يحرص الياباني على فعل الأمر الصحيح, وان يقدم أفضل ما عنده, ولذلك فإن مجموع نتيجة عمل المجتمع الشديد الحساسية من عار التقصير هو أنه يصب في النهاية في صالح إزدهار البلد, والخشية من أن يؤدي التقصير إلى تصنيع منتجات متدنية الكفاءة إلى جلب العار إلى البلد بكاملها تقود إلى التفاني في العمل من أجل أن يقدم العامل أفضل ما عنده. يخشى الجندي أو العامل الياباني من مواجهة المجتمع, وحتى زوجته أو اسرته الصغيرة, إذا قصر في أدائه. وتلك ذروة في القيم الأخلاقية عملت على إلهام الماليزيين للتعلم منها. صحيح أن ذلك ليس امراً سهلاً, ولكن تلك هي مهمة القائد ودوره. ما هي الدروس التي تعلمتها ماليزيا من "سياسة النظر شرقاً", وما هو إسهامها في نهوضها؟. لم يكن الأمر سهلاً, وهناك من عارض هذه السياسة حتى داخل حكومتي بمن فيهم نائبي موسي هيتام, وكان علي أن أبذل الكثير من الجهد لإقناع الوزراء في حكومتي ورجال الخدمة المدنية بهذه السياسة, كان البعض يتساءل لماذا نأخذ نموذج اليابان, لماذا لا ننظر إلى أوروبا التي تعلمت منها اليابان ونأخذ من المصدر مباشرة النموذج الغربي في النهوض؟, لقد نسى هؤلاء أن النمو الأوروبي ظل متباطئاً على مدى القرنين الماضيين, لقد أصبحت اليابان لتوها دولة صناعية, والمشاكل التي واجهتها لا تزال حية في الذاكرة, ويمكن التعلم منها, انا لا أقلل من الخبرات الغربية والإسهامات العديدة التي لا يزالون يقدمونها, وما زال لديهم الكثير الذي نتعلمه منهم, , ولكن من الأفضل دائماً التعلم من الناس ذوي الخبرة الأحدث. وفي الواقع أن ما تعلمته ماليزيا من اليابان ليس فقط أهمية منظومة قيم العمل الأخلاقية, بل كذلك كيفية إدارة الأمور في شأن علاقات العمل, ففي الغرب يحظى العمال بسبب قوة اتحاداتهم على أجور عالية مقابل عمل أقل, وهو ما يؤدي في النهاية إلى تدني الإنتاجية وتقليل القدرة التنافسية, في حين أن العامل الياباني يعمل بإخلاص لمؤسسته وبطاقته القصوى, وللمفارقة حتى عندما يكون هناك اضراب احتجاجي فإنهم ينفذونه خارج أوقات الدوام الرسمي, قد يبدو الأمر مثيراً للسخرية ولكنه يتسق مع أخلاق العمل لديهم, لأن تعطيل العمل سيؤدي إلى حصولهم على مكاسب على حساب الإنتاج الذي يصب في النهاية في الصالح العام. تعلمنا من اليابان مفهوم الإندماج المؤسسي تلك الصلة الوثيقة بين الحكومة والقطاع الخاص, والحرص الرسمي على دعمه وتقويته والعمل على إنجاحه, وضمان مساهمته الفعالة في الترويج للاستثمار في البلاد. ولكن اليابان نفسها بعد بلوغها ذروة النهوض عادت لتعاني من تباطؤ في النمو ودخلت في حالة ركود لفترة طويلة؟. فلماذا مع ذلك تمسكتم ب"سياسة النظر شرقا"؟ هذا ما يسألني عنه أيضاً أصدقائي اليابانيون, في الواقع نحن لم نتعلم من اليابان قصص النجاح فقط, ولكن تعلمنا أيضاً من الأخطاء التي وقعت فيها, ويبدو لي ان سبب ذلك أن اليابانيين استجابوا للانتقادات الغربية ضدهم, وتخلوا شيئاً ما عن نظامهم الذي حقق لهم النجاح, وحاولوا تغييره تحت إلحاح الضغوط الغربية. عندما تعرضنا للأزمة المالية في آواخر التسعينيات قاومنا بشدة محاولة فرض حلول غربية علينا للخروج من الأزمة, تمسكنا بنهجنا, لذلك نجحنا في نهاية الأمر في تجاوز الأزمة رغم ضراوتها وعدنا لتحقيق للنمو. وسياسة النظر شرقاً ليست مقتصرة على اليابان فحسب, بل تشمل كذلك كوريا الجنوبية والصين, وكلتا البلدين تحولتا إلى دول صناعية بامتياز وامتلكتا قدرات تنافسية عالية في الأسواق العالمية. إلى أي مدى اسهمت "السياسة الاقتصادية الجديدة" التي تبنتها ماليزيا في أعقاب الاضطرابات العرقية في العام 1969, وسياسة التمييز الإيجابي التي تضمنتها في نهضة البلاد؟ "السياسة الاقتصادية الجديدة" تم تبنيها في ذلك الوقت بغرض مساعدة المجتمعات المحلية المتخلفة فيما يختص بتدني نصيبها في الاقتصاد الوطني, ومساعدتها على الوصول إلى نصيب عادل, أو قريب من مكونات المجتمع الماليزي الأخرى المتطورة اقتصادياً, ولذلك جاءت "سياسة التمييز الإيجابي" بغرض توفير فرص أفضل للمجتمعات المتخلفة لتحقيق نوع من المساواة. كان ذلك ضرورياً من أجل توفير السلام وتحقيق الاستقرار, لأن نزع عامل التوتر بسبب الفوارق الاقتصادية كان أمراً مهماً, وكان من شأن هذه السياسة أن تقود إلى ردم الهوة وإلى وضع ليست فيه فوارق كبيرة تثير حفيظة البعض. لأنه حتى في حالة المجتمعات المتجانسة هناك تجاذب بين الأغنياء والفقراء, فما بالك عندما يكون الأمر متعلقاً بمجتمعات متعددة الأعراق؟. ولذلك فإن تلك السياسة الهادفة إلى تقليل الفوارق التي تمنع الاحتكاكات والاقتتال وتحقق السلام الاجتماعي شرط لازم للتنمية والنهوض. لقد نجحت هذه المعادلة مما مكن ماليزيا من النهوض بسرعة لان ذلك حقق السلام والاستقرار. لقد ظل الغرب لفترة طويلة على مدى قرون يقود العالم سياسياً واقتصادياً, والآن يواجه مشاكل جمة لا سيما على الصعيد الاقتصادي, الأزمة المالية التي ضربت الولاياتالمتحدة في 2008, الآن أزمة منطقة اليورو, كيف تقرأ هذا الوضع وما هو مستقبل الغرب في ظل هذه التطورات؟ لقد ارتكبوا أخطاءً كبيرة وعليهم تصحيح أنفسهم. وعلى أوروبا ان تواجه الواقع وبروز حقائق اقتصادية جديدة, لقد خسرت أموالاً ضخمة ,اصبح عليها أن تعي أنها الآن أصبحت فقيرة مقارنة بما كانت عليه في الماضي. لقد تخلى الغرب عن الاقتصاد الحقيقي, اعني الإنتاج, إنتاج السلع والخدمات والتجارة, والاعتماد على قدرات تنافسية حقيقية. لقد اتجهوا منذ وقت طويل إلى الأسواق المالية, وهي شئ أقرب إلى القمار منه إلى الاقتصاد الحقيقي, مكتفية بنقل الأرقام في الحسابات المصرفية دون ان يكون هناك إنتاج حقيقي, أو ترى اقتصاداً فعلياً مكتملاً, ومثل القمار قد تكسب أموالاً طائلة بسرعة, وقد تفقدها أيضاً بالسرعة نفسها مما يقود إلى الإفلاس. كانوا ينتجون في الماضي السيارات والأجهزة والمعدات, المانيا لا تزال تنتج فيما لم تعد بريطانيا منتجة للسيارات مثلاً, لقد خسروا المنافسة أمام المنتجات الآسيوية الواردة من اليابان وكوريا والصين بسبب افتقارهم للقدرة التنافسية بسبب ارتفاع تكلفة الإنتاج والأجور العالية للعمال في الغرب في مقابل إنتاج أقل, لقد تخلوا عن الاقتصاد الحقيقي ولجأوا إلى أسواق الأوراق المالية. واجهتم أزمة مالية حادة في جنوب شرق آسيا في أواخر التسعينيات, واستطعتم الخروج منها بأقل الخسائر الممكنة, هل تعتقد أن هناك ما يمكن أن يتعلمه الغرب من الشرق, وقد ظل لوقت طويل هو من يعطي الدروس في كيفية إدارة الاقتصاد للشرق وللاخرين في دول العالم المختلفة؟ طالما تعودنا على تلقي دروس قاسية من الغرب, فقد جاء الدور ليتعلموا شيئاً من الشرق. عليهم أولاً إدراك أنه لم يعد بوسعهم توفير مستوى حياة مرتفع والتمتع بالرفاهية ذاتها التي كانوا ينعمون بها عندما كانوا أغنياء, لقد أفقرتهم الأزمة المالية باعتمادهم على المضاربات بدلاً عن الإنتاج الحقيقي, إذن عليهم التعود على العيش على مستوى حياة أدني بحكم الواقع الجديد. نحن في آسيا نعيش في حدود المتاح لنا, عندما كنا فقراء كنا نعيش حياة الناس الفقراء, اعتقد أن هذا هو الدرس الذي على الغرب تعلمه من الشرق. أعتقد ان المشكلة تأتي من أن قادة اوروبا يعيشون حالة إنكار لا يريدون الاعتراف بأن الخسائر المالية الضخمة التي لحقت بالاقتصادات الأوروبية أورثتها فقراً لا تريد التعامل مع تبعاته. ولا يأتي الحل بطبع النقود, لأن النقود ليست مجرد شئ تطبعه, بل يجب ان يكون هناك غطاء لهذا المال إما اقتصاد جيد, أو ذهب. والحل على وجه الخصوص يأتي بأن يبدأ الغربيون عملية إعادة بناء اقتصادي طويلة وبطيئة, لتقليل الاعتماد على القطاع المالي. عليهم العودة إلى الاقتصاد الحقيقي, إنتاج السلع والخدمات وممارسة التجارة, وليس التلاعب بالأرقام في الحسابات المصرفية لتحقيق مكاسب وهمية. وعملية الإنعاش تحتاج إلى عمل مضن في زمن طويل لإعادة بناء القدرات, والعودة للاقتصاد المنتج, واستعادة القدرة التنافسية أمام المنتجات الآسيوية. شهدت المنطقة العربية العديد من الثورات على مدى السنتين الماضيتين وأدت إلى تغيير عدد من الأنظمة, كيف تقرأ ثورات الربيع العربي, وكيف ترى مستقبل المنطقة؟. في اعتقادي أن حكومات الدول العربية التي شهدت ثورات وانتفاضات شعبية ضدها فشلت في مخاطبة حاجات شعوبها, لم تضع في صدارة اهتماماتها هموم هذه الشعوب وتطلعاتها. مثلاً ليست هناك وظائف كافية لاستيعاب قطاعات واسعة من المواطنين الذين نالوا تعليماً جيداً مما تسبب في إثارة غضبهم ضد حكوماتهم وإسقاطها. الحكومات الجديدة الناشئة في الدول العربية التي شهدت ثورات يجب ان تعي الدرس, عليها أن تعلم ما هي احتياجات شعوبها وتطلعاتها وتعمل على تحقيقها, عليهم أن يعملوا من أجل التنمية ويحققوا نهوضاً اقتصادياً يخلق وظائف تستوعب الأجيال الناشئة المتعلمة حتى يستطيعوا أن يكسبوا دخولاً تعينهم على الحياة الكريمة وأن يعيشوا حياة جيدة, ولكن إذا تقاعست الحكومات الجديدة عن القيام بمسؤوليتها في توفير برامج تحرك القطاعات الإنتاجية المختلفة في الاقتصاد فسيفقر الناس وهو ما يعني أنهم سيقودون انتفاضات أخرى ضد الحكومات الجديدة لأن طموحاتهم من التغيير لم تتحقق. ولكن ألا ترى أن دوافع ثورات الربيع العربي لا تقتصر فقط على الاعتبارات الاقتصادية, ألم تكن المطالبة بالحرية والديمقراطية محركا لتلك الثورات؟ نعم, ولكن الأمر المهم هو أن الإنسان عندما لا يجد قوت يومه تصبح مطالبته بالحرية والديمقراطية نوعاً من الترف, لا يمكن لإنسان يفتقر لإبجديات الحياة الكريمة الحديث عن الحرية, علينا دائما أن نتذكر أن الناس يجب أن يجدوا الطعام, الوظائف وأن يجنوا دخلاً يعينهم على الحياة. ما هو تفسيرك لحالة التخلف التي يعيشها المسلمون, لماذا هم خارج التاريخ, لماذا هم مضطهدون, لماذا لا يستطيعون الإسهام في الدورة الحضارية الكونية الراهنة؟ اعتقد أن المشكلة تتعلق بتخلف المسلمين في فهم تعاليم الإسلام وتطبيقها على الوجه المطلوب. وفي فهمي أن جوهر تعاليم الإسلام تتعلق بإحسان العمل والأداء الجيد, الإسلام يريدنا أن ننعم بحياة جيدة في هذه الحياة الدنيا, ووعدا بحياة حسنة في الآخرة إن أحسنا في حياتنا الأولى, وذلك ما تعنيه الآية الكريمة "ربنا آتنا في الدنيا حسنة وفي الآخرة حسنة", والحياة الحسنة في الدنيا لا تتحق اعتباطاً يجب أن يكون هناك تعليم جيد, حياة كريمة, أن يكون هناك تفانٍ في إحسان العمل وإعمار الأرض. وعلى المسلمين إعادة النظر في فهم تعاليم الإسلام وجوهر قيمه وفق تصوراته ومقاصده الحقيقية وليس وفق ما تقدمه رؤية الذين يقدمون تفسيرات تعكس تصوراتهم المحدودة وفق فهمهم الذاتي القاصر, ولا تعبر بالضرورة عن حقيقة الإسلام بكل سعته وتسامحه ورحمته وعدله, لن تكون هناك مشكلة أمام المسلمين إذا عاشوا على قيم الدين وتعاليمه وطبقوها كما هي لا كما يتوهمونها. لا يحتفي الإسلام بالأشكال ولكن بالجوهر.
