من مدونات حرب البسوس السودانية ما أكتبه في هذه المساحة، ليس شأناً خاصاً كما يظنه البعض، ولكنه شأن امتزج بالعام وتغلب عليه.. أدونه لأنشره لاحقاً، إذا ما رأي فيه البعض ما ينفع الناس.. ولكن تحت كل الظروف قررت تدوين محطات أرى أنها مهمة لتمليك ما فيها من حقائق قد تنفع الناس. كان الإداريون الانجليز يدونون مشاهداتهم ويوثقون للمناطق التي يعملون بها والتي كانت تنتشر في مجلة السودان في مدونات sudan notes and recordsالتي صارت مرجعاً مهماً للباحثين والمؤرخين لا غنى عنها عند الخوض في تاريخ السودان الاجتماعي والسياسي والثقافي والفني.. فيها كل شيء عن أي منطقة من مناطق السودان ألفت نظر القارئ الكريم للإطلاع عليها في دار الوثائق للوقوف على ما ذكرت. عادت قواتي منهكة من عملية استغرقت أكثر من خمسة عشر ساعة متواصلة بما فيها ليلة الخامس من أبريل 1985م، أطلقت علي العملية اسم "عازة" تيمناً بالوطن ولم أكن أدري ما يدور في الخرطوم وأنا في أدغال "فشلا" وهي قرية برائحة الموت في ركن قصي من جنوب شرق أعالي النيل على الحدود الإثيوبية في مديرياتها الجنوبية "هايلي ب بابور". عند تحرير إشارة "برقية" لقيادة منطقة أعالي النيل العسكرية بنجاح واكتمال مراحل عملية "عازة"، صادف في نفس الوقت استلام قيادة أعالي النيل برقية من الخرطوم تشير إلى تسلم القوات المسلحة للسلطة تتويجاً لانتفاضة الشعب ضد النميري. حضر إلى مكتبي في العام الماضي المغفور له الفريق الركن محمد زين العابدين الذي كان قائداً ثانيا للمنطقة العسكرية في تلك الفترة، طلب مني ضرورة البوح والكتابة عن عملية "عزة" التي كان معجباً بها وكثيراً ما كان يذكرها لجلسائه، قلت له بأن شهادتي قد تكون مجروحة، فلماذا لا تكتب أنت!؟ وسيادتك يعرف التفاصيل ويملك قلماً معبراً وهو الكاتب والمحلل الإستراتيجي في وقت صار ملعب الإستراتيجية تقدل فيه جمهرة من قبيلة "الورل" لكنه رحل ولم تمهله المنية إنجاز ما وعد.. وصار في عنقي الكتابة عن عملية عزة، خاصة وقد "انفرزت الكيمان" وصار ما لقيصر لقيصر، ومالله لله.. وهذا بعض من مشروع الكتابة عن أدبيات الحرب الذاخرة بالمسكوت عنه. بعد تكريمي وضباطي بوسام الشجاعة من الطبقة الأولي وللصف والجنود من الطبقة الثانية.. وصلتني إشارة بتعييني أميناً عاماً لحكومة أعالي النيل، تتوافق مع قرار تعيين قادة الوحدات العسكرية في الأقاليم الجنوبية حكاماً عسكريين، جاء إختياري للمنصب تكريماً لي بعد العملية سالفة الذكر والتي فيها الكثير من المسكوت عنه لأنها كانت داخل الأراضي الأثيوبية في أحراشها الجنوبية.. وسأكتب عنها لاحقاً كما وعدت. هبطت طائرة من طراز "بفلو" الكندية الصنع مهبط منطقة فشلا التي لا يستقبل غير هذه النوعية من الطائرات التي تكفيها مائة متر للهبوط في مهبط غير معبد، ومعروف عن فشلا بأنها منطقة نائية ووعرة لا تصلها العربات ولا حتي الطائرات بعد إصطياد طائرة "البفلو" التي غادرتنا ظهر يوم إلى اكوبو وارتكبت قيادة المنطقة وطاقم الطائرة خطأ تكتيكيا بقضاء الليلة في أكوبو واقلعت صباح اليوم التالي حيث كمن لها المتمردون بالقرب من خور "كايبوي" غير البعيد عن المدينة وأسقطوها بصاروخ راح ضحيته كل ركاب الطائرة وكان من ضمنهم الملازم صديق الذي أوفدته في مهمة تتعلق بالاتصال بالقيادة لتوفير التعيينات "التموين" وكنت أقصد من وراء ذلك تكريمه معنوياً بعد أن أبلى بلاءً حسناً خلال فترة الحصار الدامي على فشلا ودوره في عملية عزة. هبطت طائرة بفلو في فشلا بعد أن أمنت لها 7 كيلومترات دائرية للهبوط في المهبط المهجور، ركبت فيها ومعي ابني الصبي "أوجولو" وأقنعت قائد الطائرة بالاقلاع عكس المنطقة المؤمنة وفي ذلك خداع للعدو الذي يكمن للطائرة في اتجاه الإقلاع، هكذا غادرنا المهبط وهبطنا مطار ملكال بأمان. في نفس اليوم وبعد تبليغي لقيادة المنطقة توجهت إلى أمانة الحكومة.. كنت أرتدي زياً عسكرياً مغبراً.. في أنفي رائحة الدم.. وفي أذني صوت المعركة وانفجار الألغام ليلاً بسبب تغول النمور على ميدان الألغام المزروع حول الموقع لمنع التسلل ليلاً، حملت أوراق تعييني وتوجهت لمكتب الأمين العام للحكومة وسلمته القرار، إندهش "ماك نيكانج" الأمين العام منذ عهد دانيال كوت الحاكم النويراوي ذائع الصيت والذي كان بادرني ماك وهو من الشلك عن تأهيلي الاكاديمي الذي :يؤهلني لتولي المنصب رديت D.K كان يتباهي بمناداته بالحروف الاولي من اسمه لا يهم، فنحن في دولة عالم ثالث.. تقلد فيها الجيش مقاليد السلطة، وأنا أحمل رتبة المقدم التي تمكني من أن أصير وزيراً أو حاكماًَ أو أميناً للحكومة، وطلبت منه إجراء التسليم والتسلم والتحول للمكتب الآخر مساعداً لي.. لم يعجبني إسلوبه عند إستقبالي ولم يعجبه رد فعلي لمحاولة إهانتي وطريقتي في الحديث وأنا أتحسس مسدسي الذي لم يفارقني بعد ذلك طيلة فترتي كأمين عام للحكومة. ذهب "ماك" للمكتب الآخر وجلست في مكتبه الذي صال وجال فيه هو ومساعده "إستيفن" لأكثر من عقد من الزمان، قضى نائبه في حادث طائرة صغيرة كانت قادمة من الخرطوم محملة بالنقود ولم يبدو عليه الأسف لموت نائبه وهو نويراوي من فصيلة النوير "قارجاك" من ذوى البشرة الفاتحة من جراء تمازجهم مع الإثيوبيين في منطقة "الجكو" الحدودية. كان الحاكم المكلف وقتها اللواء عبدالسلام أحمد صالح.. ضابط رفيع برتبة رفيعة.. يخشى الله في نفسه وضباطه وجنوده.. حيي كالنسمة.. متدين بلا تزمت.. خشيت عليه من المنصب الذي يتطلب شخصاً "قاهراً" وهو شخص منضبط يغلب علي شخصيته التهذيب الشديد، وهؤلاء القوم تعودوا على "العين الحمرا" والقهر الذي كان اسلوب حكام الاقليم "دانيال كوت" المتعجرف الذي يفضل مناداته باسمه مختصراً D.K كان الله رحيماً باللواء عبدالسلام الذي تم ترفيعه ونقله للقيادة العامة وتقلد المنصب نائبه الذي استلم قيادة المنطقة العسكرية ورئاسة الحكومة اللواء الركن محمد زين العابدين، ضابط المدفعية المعلم وقائد سلام المدفعية الأسبق والملحق العسكري في جمهورية الصين، والسفير لاحقا في بروكسل ومعروف عن ضباط المدفعية تقيدهم باللوائح والقوانين ويحكون عنهم طرفة بأنهم "لجنوا التلج" حتى صار ماءً..اندلق في دفاتر عهدة ( البلوغ باشا ). كان اللواء محمد زين عليه رحمة الله من خيرة ضباط القوات المسلحة.. أضفت تجربته في الصين ونشأته في حي أب روف الأم درماني العريق شخصية متوازنة تجمع بين الكريزما والقبول، ود بلد أم درماني، عرف بشغفه بالقراءة ويملك عقلية عسكرية ساعدت كثيراً في التخطيط للعمليات العسكرية في المنطقة مما أعاد عنصر "المباداة" للقوات المسلحة بعد أن كاد الزمام أن يفلت لأسباب كثيرة سيجيء ذكرها لاحقاً. وكان مرناً يستهدي بآراء الضباط من حوله، على سبيل المثال، لم أتقدم باقتراح سحب نقطة فشلا إلا بعد مغادرتي لها حتى لا يحسب علي بأنها محاولة "للمخارجة" من هذا المستنقع الدامي، كان رأيي بأن هذه :الفشلا" ظلت صداعاً دائماً لقيادة أعالي النيل لبعدها في أقصى الحدود مع إثيوبيا، لا تصلها العربات وصار الطيران مهدداً في الوصول إليها خاصة بعد إسقاط طائرة البفلو القادمة منها بالقرب من أكوبو وليس لها أي أهمية إستراتيجية أو تكتيكية خاصة ونحن نحمي مهبطا ترابيا إعداد مثله في أي في الأحراش يستطيع المتمردون تحضير واحد مثله بكل سهوله. بالاضافة إلى أن فشلا قد صارت مرتعاً للمتمردين يصولون ويجولون حولها ويحاصرونها من وقت لآخر.. قد لا يستطيعون معاودة الكرة في ذلك العام بعد تدمير معسكرهم داخل الأراضي الإثيوبية في عملية عزة ولن يتمكنوا من إقامة معسكر جديد بعد الضربة الموجعة وسقوط الأمطار.. وكانت نجدة فشلا تكلف كثيراً من الأرواح مثلما حدث اكثر من مرة.. كان قرار اللواء محمد زين حاسماً بتجميع الوحدات المنعزلة في وحدات اكثر تماسكاً وسحب ما تبقي من قوات فشلا "بالقوة" والإنسحاب "بالقوة" عملية عسكرية معقدة، باهظة التكاليف تحتاج لتخطيط جيد، وقيادة واعية، نفذها بجدارة المقدم عمر الخليفة طه ونائبه المقدم الزاكي علي بشارة والملازم أول عمرو أبكدوك وقواتهم الباسلة. من العمليات العسكرية للإنسحاب بالقوة تلك العملية التي نفذها قائد القوات الإثيوبية في أريتريا بعد الضغط العسكري من جانب الثوار على مدينة أسمرا.. قرر القائد الانسحاب بما تبقى من قوته غرباً نحو الحدود السودانية وظل في اشتباك مستمر مع الثوار حتى وصل إلى كسلا بدباباته ومدفعيته وجنوده- خسر كثيراً لان الانسحاب بالقوة عملية مكلفة، ولكنه وصل كسلا وانقذ ما يمكن إنقاذه. كان اللواء محمد زين قائداً "اجتماعياً.. يشاركنا أمسياتنا في "ميزاتنا" وبعضها كان في بيت "القائد" كان منضبطاً بلا تعالٍ وحصيفاً بلا انفعال، سعدت كثيراً بالعمل معه أميناً عاماً لحكومة يدير دفتها اللواء محمد زين.. واستفدت كثيراً من التجربة التي عبرنا بها إلى بر الأمان بفضل براعة وحنكة قائد عف اللسان وطاهر اليد تعلمت منه الشفافية والصدق، والامانة. -وأواصل-