عندما يتعلّق الأمر بالأماكن فإننا نعشق بالتحديد وليس بصورة عامة، فمن غير الدقيق في الحكم والتعبير أن نقول مثلاً إننا نحب كل شبر من أوطاننا ونحن لم نر من الوطن غير مساحة محدودة، إلا إذا كان ذلك على سبيل المجاز حديثاً عن الوطن كمفهوم وقيمة لا مدناً وقرى وأحياءً كما قد نؤكد على سبيل المبالغة. بل أذهب إلى أننا حتى حينما نحاول أن نكون دقيقين فنعبِّر عن حبِّنا للحيِّ الذي نشأنا فيه صغاراً نتجاوز الحقيقة بقليل، فنحن في الواقع نعني من ذلك الحي بيتنا في المقام الأول، وفي تجربة خاصة جداً كان تنقُّلي بين أكثر من شقة في عمارة واحدة خلال بضع سنوات انتقالاً بالذكريات من مكان إلى آخر يوشك أن يكون أحياناً مغايراً تماماً. هذا عن أوطاننا فماذا عن العالم؟ الخلط لا ريب أعظم فالخيال ابتداءً هو سلطتنا المطلقة في الحكم على أصقاع الدنيا حتى قبل أن نبادر بأية رحلة خارج الوطن، وإذا كان من حق الخيال أن يجنح ويجمح كما يشاء فإن مأزق أحكامنا كبير عندما تصطدم التجربة بالأحلام القديمة ويغدو صعباً إلى حد بعيد التوفيق بين الاثنين مهما اجتهدنا، فحتى في عصر العولمة والصورُ الحية متاحة على قارعة الإنترنت ومبذولة على سحب الفضائيات تظل لمصافحة المدن والبلاد بدون وسيط أثرها (ليس سحرها بالضرورة) الخاص، فعبر الكاميرا يجول المصوِّر بعينيه لا بعينيك، وهو محكوم بسعة عدسته التي يتواضع أداؤها مهما بلغت تقنيتها الرفيعة إزاء مدى عينيك وتناغم حركتهما ومشاعرك صعوداً وهبوطاً ودوراناً وإسراعاً وتمهّلاً وسكوناً، والأهم حواس الشم والذوق واللمس بل وتحسس مشاعر البشر وسائر الكائنات حتى الحجارة المتحدثة بعراقة التاريخ وبلاغة الفنون *** أشهر البلاد التي يتوق الناس إلى رؤيتها أمريكا لريادتها لعالم اليوم (إن بالحق أو الباطل)، وإيطاليا لخصوصية تاريخها وفنونها من كل جنس ولون، واليونان للسبب ذاته رغم حاضرها الأقل فخامة، ولندن (وليس إنجلترا أو بريطانيا عموماً) لعراقة الإمبراطورية التي حكمت رقعة من الدنيا لم تكن تغيب عنها الشمس، وألمانيا لعشاق الصناعات المتقنة. وجنوحاً إلى الشرق فإن تركيا في المقدمة (على الأقل جغرافياً) لإمبراطوريتها الأقدم من إمبراطورية لندن نفسها، ومصر لكونها الأكثر عراقة من كل ما سبق من البلاد، والمغرب الذي تلاقحت فيه الحضارات من شتى الملل والنحل والأعراق، والصين إشارةً إلى كل غريب وعجيب مضافاً إلى ذلك سحر البلد الذي بات يصنع كل شيء في العالم. *** للمفكرين والفنانين والمشاهير عموماً حالات مشهودة مع عشق الأماكن، وهم في الغالب يختصون مدينة بعينها فلا يسقطون في فخ تعميم عشقهم للبلد بأسره وإن كانوا لا يزيدون بتخصيص مساحات أضيق من الأحياء والمحالّ والبيوت داخل المدينة موضع العشق. أحبَّ إدوارد سعيد المفكر الفلسطيني ذائع الصيت نيويورك لأسباب فكرية في تقديري قبل أن تكون عاطفية، فقد كان يراها مثالاً للمدينة العالمية الضخمة (كوزموبوليس) الملهمة، وأحب نزار قباني الشاعر السوري الشهير دمشق حتى فاضت دواوينه بها، وليس في ذلك غرابة فهي مسقط رأسه ومدرج صباه، أما أسامة أنور عكاشة كاتب السيناريو المصري المعروف فقد عشق مدينة الإسكندرية على الرغم من أنها لم تكن مدينته التي ولد أو ترعرع فيها، وعشق عكاشة للإسكندرية خليط بين الولع العاطفي والانجذاب لأسباب فكرية، أي أنه يبدو كما لو كان خليطاً بين حالة سعيد مع نيويورك وقباني مع دمشق. وفي الإنترنت أن فناناً فرنسياً شاباً عشق باريس حتى بنى نموذجاً مصغراً منها في حديقة منزله الخلفية فباتت مزاراً للسياح. وفي لقاء تلفزيوني منذ سنوات غير بعيدة طلع رسّام نذر فنه لمدينة لندن - أو باريس مجدداً - فجعل يرسم تفاصيلها حتى يغدو (والقول له) في الإمكان إعادة بنائها من لوحاته إذا دكّ المدينة زلزال مدمّر أو قنبلة نووية (والإضافة الأخيرة من عندي). وربما كان ولع غير المشاهير من البشر بالمدن والبلاد أعمق دون الحاجة إلى المزايدة بالإدعاء الفكري أو التزلف العاطفي، مجرد ولع من أجل الولع استجابة لأحلام بريئة لها مؤكداً ما يستند إليه فيفسِّره فكرياً وعاطفياً حتى إذا لم يمكن (أو يشأ) صاحبها أن يقف عليه. *** اليابان حالة فريدة في العشق، فهي بعيدة وغريبة لكن الصين هي الأشهر على هذا الصعيد. وهي قلعة تكنولوجية بديعة ومتقنة، ولكن ألمانيا سبقتها إلى تلك الشهرة. وهي بلد سبّاق إلى الريادة عندما يتعلّق الأمر ببدع العولمة وتطبيقاتها في الحياة، ولكن أمريكا هي الأشهر في هذا الباب حتى إذا جاز للبعض أن يقدِّم اليابان بإحصائيات دقيقة في هذا المجال ذي الصلة وذاك. برغم كل ما سبق تظل اليابان حالة فريدة، وربما هي حالة فريدة بسبب كل ما سبق، فهي ما يجمع ذلك كله ويضيف عليه سحر الطبيعة ( بخيرها وشرِّها) وانضباط البشر الساحر بدوره (خيراً فقط.. إلى الآن). من أجل ذلك لم يكن غريباً أن تقع في غرام اليابان شابة مولعة بالغريب من اللغات لم تزر بلدها المعشوق بعد، وفتى في طور الدراسة المتوسطة يقتني كل ما تقع عليه يداه من عبق تلك البلاد، ورجل أعمال موزعة تجارته على أرجاء العالم يؤمّ اليابان في كل سانحة ينتزعها من براثن العمل أو عبر رحلاته حول العالم، وعندما يشاكسه أصدقاؤه بأن اليابان تقع أقصى الشرق الأقصى فكيف يتسنى له أن يزورها عابراً؟ يبادر الصديق إلى ثني خريطة العالم مذكِّراً أصدقاءه بأن ذلك من أوائل دروس الجغرافيا التي نسوها. لكروية الأرض على ما يبدو فوائد يعلمها عشاق الترانزيت الخاص من أجل عيون اليابان كصديقنا رجل الأعمال، والذين يقعون في غرام اليابان هم حالة خاصة من عشاق الأماكن يتيهون بخصوصيتهم المستلهمة من خصوصية اليابان، لا تهمهم مدينة بعينها في ذلك البلد ليس لأن مدنه جميعاً تتشابه، فالأرجح – وقد أسلفنا ذلك في موضع قريب – أن المقصود بالعشق هم اليابانيون أنفسهم الذين يبدون فوق كل ما يتحفون به العالم بالغي الوداعة.. حتى الآن على الأقل.