بينما كانت الأديبة الإنجليزية العجوز الحائزة على جائزة نوبل تسير في أحد شوارع المدن الصينية ليلاً عرفت أن عائلة صينية - تطل من وراء ستار لنافذة غرفة خافتة الإضاءة - تحتفل بعيد ميلاد لأحد أطفال الأسرة من خلال النشيد الذائع "هابي بيرث دي تو يو"، وكما أن كل قارئ سيندهش اندهشتْ الروائية الإنجليزية لأنها ظنت أن لديهم في الصين أغنيتهم الخاصة. بالنسبة لي لا يقف الأمر عند أغنية خاصة لعيد ميلاد صيني، فقد كنت أظن أنهم في الصين يحتفلون بالمناسبة بطريقة فريدة ليس في طقوسها بالضرورة ترديد نشيد من أي قبيل. حالنا عربياً ليس أفضل، فترجمة النشيد بتصرف إلى اللهجة المصرية مع الاحتفاظ باللحن بحذافيره لا يمكن أن تُعدّ إشارة ذات بال على صعيد الاستقلال الثقافي، خاصة حين نصرّ أن نتلوا النشيد الأصل بعد نشيدنا المترجَم وأحياناً قبله. ولكن خصوصية الصين العرقية والثقافية وحضارتها التي تُحسب واحدةً من أمّهات حضارات العالم تجعل موقف الصينيين مع" هابي بيرث دي تو يو" أشدّ حرجاً، وإن كنا قد رأينا من قبل كيف أن اليابانيين تجاوزوا حرجاً أدق على هذا النطاق مع صرعة تغيير شكل العيون لتُطابق المقاييس الغربية في الجمال. وفي دبي عائلة هندية من أب وأمّ وصغير بلغ فطامه توّاً يتجاذوب أطراف الحديث في عطلة نهاية الأسبوع بإنجليزية يجهدون في إرشاد صغيرهم إلى أصول اللياقة من خلالها، والغريب أن الثلاثة يتكلمون الإنجليزية بلكنة أورديّة، ما يعني أن أحداً منهم لم يولد وفي فمه ملعقة من تلك اللغة رغم أنهم كما يبدو يحاولون أن يوهموا صغيرهم بذلك. وفي فيلم "بِيدازيلْدْ" تقلِّد الساحرة بضع لغات أوربية ثم تصيح:" هراء، يجب أن يتحدّث الجميع الإنجليزية بعد الآن"، وهي كلمة باطل أريد بها باطل، غير أنها تجيء في سياق كوميدي فيضحك من في القاعة وكلهم تقريباً لا يتحدّث الإنجليزية لسانَ أمّ.غير أن للأمريكان جرأة المباشرة في محاولة إرغام العالم على الحديث بلغتهم متى لزم الأمر، وكثيراً ما يلزم، وعليه فإن القالب الساخر الذي ألقت عبره الساحرة رغبتها ليس من باب "اللف والدوران" تلطُّفاً أو خشيةً وإنما هو مما لم يتطلّب السياق أبعد منه. لا يستقيم أن نلوم أمريكا لأنها تحاول أن تسوِّق لغتها لتظلّ الأولى عالمياً، ولا يجب أن نلومها إذا تجاوزت فابتدعت من الحيل ما يروِّج لأن تكون الإنجليزية اللغة الوحيدة في تداول الحياة على الأصعدة الرسمية والشعبية على نطاق العالم، والسبب في بساطة أن كل حضارة حاولت ذلك فلم يقعدها عن غايتها إثم أو حرج استشعرتهما وإنما همّة وحيلة لم تسعفاها. مع بدعة العولمة عموماً والإنترنت خصوصاً أضحت رغبة ساحرة "بيدازيلد" – الفيلم الذي أنتِج قبل نحو عشر سنوات – في سبيلها إلى التحقُّق، فاستجابة العالم كانت أسرع من المتوقع – توقُّعي على الأقل – وأكثر سلاسة، فلم يخل الغزو الثقافي الإنجليزي – في نسخته الأمريكية - من مقاومة تذكر فحسب وإنما شهد إقبالاً عارماً على طلب المزيد وسباقاً محموماً من أجل الأولوية في تلبية الطلب. ولكن محاولات المقاومة الفاشلة لا يجب أن تخلو من التقدير أو على الأقل الإشارة العابرة على سبيل التنويه، فليس مستبعداً أن يكون بعضها نواة لثورة تقض مضاجع العم سام إن لم يكن اليوم فغداً أو بعد غد. ومن أمثلة ذلك ما حضت عليه جماعات من الشباب لاتخاذ لغات أخرى ( كالإسبانية والفرنسية ) يتداولونها في حلقاتهم الخاصة على الشبكة، وهي حلقات تشمل ملايين الشباب عبر العالم. غير أن المحنة التي واجهت أولئك المتحمسين اليافعين أن رسالتهم لم تصل إلى حلقات متلهفة لا تتقن الإسبانية - على سبيل المثال - ومعلوم أن أدب الحديث عبر الإنترنت، بل أصوله، تقتضي أن يطِّلع عليه الجميع فهماً وتعقيباً. ويبدو أن حِيل العم سام وأبناء أخيه البررة لا تفتأ تتفتق عن الجديد الذي يدحض كل ثورة مناوئة، فكان مترجم قوقل الذي يتيح للجميع الترجمة من وإلى لغات العالم الذائعة اختراعَ حقٍّ أُريدَ به باطل، فظاهر الاختراع يصب في مصلحة الفكرة الداعية إلى تعدّد اللغات والثقافات، وباطنه الماكر يبيح للجميع التداول بما يحب من اللغات ثم إعادة إفشاء الذي تمّ تداوله بلغة أجنبية – على العم سام – من خلال الإنجليزية ليتسنى للجميع التعليق عليه بدون واسطة "قوقل ترانسليت". إذا كانت الإنجليزية هي قدَر العولمة الراهن الذي لا مفرّ منه فلماذا نخال أن من الواجب علينا أن نتحدثها بلكنة أمهات الخواجات من الإنجليز والأمريكان؟، ألا نرى كيف أن الأسبان والإيطاليين والألمان وسائر دول أوربا الشرقية لا يجدون حرجاً في الحديث بإنجليزية تحمل لكنة لغاتهم؟، ألا تحمل إنجليزية الفرنسيين زهواً خالصاً بلكنة لسان أمهاتهم الأرقى والأجمل في نظرهم.. ونظر كثير من علماء اللغة ومتذوِّقي جمالياتها؟، لا يجب أن يكون في عِظم الشأن الحضاري لتلك الأمم عذرٌ لنا في التقاعس عن التصرف بنديّة مماثلة، فلسان الأم لا يُفترَض أن يقتضي للزهو به سوى الاعتزاز بالأصل والقيمة من وجهة نظر إنسانية مجردة، ولا يتطلّب منا ذلك سوى بعض الثقة. في لقاء تلفزيوني حكى بروفيسور عربي في معرض ذكرياته عن أيام الدراسة العليا في الولاياتالمتحدة أن معلمة اللغة الإنجليزية لم تكن مسرورة لأداء زميل لهم يُدعى عبد العزيز في دروس تعليم إنجليزية الحياة اليومية التي عادة ما يُلحَق بها الوافدون الجدد من طلبة الدراسات العليا الأجانب. كانت المعلمة الطامحة لإثبات مهاراتها الفريدة في تلقين الإنجليزية تقول لعبد العزيز:" قلنا مراراً إنها "وورا" وليست "ووتر".. حاول مرة أخرى"، وكان عبد العزيز يواجه مشاكل جمة في تعلُّم الإنجليزية ابتداءً فضلاً عن إجادة لكنتها كالأمريكان. ولمّا ضاق الرجل ذرعاً بمعلمته صاح فيها:" حسناً، قول لي ما هو اسمي؟"، أجابت في ثقة :" أبد الأزيز"، فردّ عليها:" لا.. بل عبد العزيز"، قالت:" بلى.. أبد الأزيز"، فقال:" ع ع عبد العزيز وليس أ أ أبد الأزيز". عرفنا جميعاً مغزى الحكاية، بقي أن نظل على سجيتنا كلٌّ حسب مواهبه في إجادة لكنات الشعوب.. دون إيلاء عناية خاصة للسان أمّ العم سام.