** وصلاً لما سبق، وما سبق كان رصداً دقيقاً للدكتور الشيخ الصديق، مدير المرصد القومي للموارد البشرية، لنزيف العقول الذي تتعرض له البلاد في قطاع الطب، ووثقت أعداد الكوادر الطبية المهاجرة بزاوية البارحة..فالرصد يؤكد أن نصف أطباء السودان يعملون بالخارج، والنصف الآخر - حسب ارتفاع معدل الهجرة منذ العام الفائت - يتأهب ليلتحق بالسابقين.. والمثير للتوجس - لو في مسؤول بيحس - هو أن لسان حال قوائم طلبات السعودية وليبيا وإيرلندا لايزال يقول لصف المنتظرين (هل من مزيد؟)، والسلطات - تنفيذية كانت أو رقابية - هنا لا تبالي بآثار تلك القوائم رغم أن سياساتها هي سبب هذا النزيف..!! ** آثار هذا نزيف العقول، حسب رصد مدير المرصد القومي، هي : فقدت البلاد استثماراً مالياً ضخماً يتمثل في الصرف على تعليم وتدريب وتأهيل هذا الكادر المهاجر، إذ كسبت دول المهجر عمالة مدربة ومؤهلة لم تصرف عليها جنيهاً في تلك المراحل..ثم فقدت البلاد ذوي الخبرة والكفاءة، خاصة من العاملين في الولايات والأرياف، علماً - حسب نص مدير المرصد - فقدت مشافي الولايات والأرياف مئات الأطباء في الفترحة الأخيرة بعد أن استوعبتهم مشافي السعودية، ولهذا ليس بمدهش عجز السلطات عن تغطية الخدمات وتجويد الخدمات الطبية بالولايات والأرياف .. !! ** أما آثار نزيف العقول على المؤسسات التعليمية والتدريبية فلا تخطئها عين، وعلى سبيل المثال تقزم الطاقة الاستيعابية لكليات التمريض، لا لقلة الطلاب، ولكن لعدم توفر الحجم المطلوب من كادر التعليم.. ويؤكد الرصد وجود أطباء خارج دائرة العمل، ولكن هذه الفئة غير مستفيدة من الهجرة لافتقارها لشرط الخبرة، ولذلك الحديث بأن بالبلاد فائض عمالة لا يتأثر بالهجرة نوع من التضليل، إذ هذا الفائض بلا خبرة تخدم بالداخل أو بالخارج..وبالمناسبة، كل ذي بصر وبصيرة يعرف أسباب الهجرة، ومع ذلك أكدها المرصد ولخصها في ( تدني الراتب، ضعف فرص التطوير، بيئة العمل من حيث المكان والمعدات والوسائل، وضعف الاستيعاب)، هكذا عوامل الدفع التي تدفع الكفاءات دفعاً نحو منافذ الهجرة، وكل تلك العوامل مسؤول عنها النهج الحاكم، أي يهاجرالمهاجر مكرهاً وليس حباً في الاغتراب والتغرب ..!! ** وللأسف، السلطات التي على علم بهذا النزيف المستمر لم تعالج أسبابه وكذلك لم تكفاح آثاره بحيث تكون هناك موازنة عادلة ما بين هجرة الكفاءات ومخاطرها، بل كل حراكها في هذا الأمر لم يثمر إلا (جهد المحاولة) المسمى بالسوداني (التنظير).. على سبيل المثال، لا يتم استيعاب الكفاءة السودانية بالخارج بشكل صحيح بحيث تساهم في دعم الرعاية الصحية بالداخل ببرامج زيارات أكاديمية ومهنية وقوافل صحية.. لقد تم عقد اتفاقات ثنائية مع مؤسسات سعودية وبريطانية وغيرها للاستفادة منها ولكن للأسف - حسب نص المرصد - لم يتم تنفيذها بالشكل المطلوب..وهكذا، كل محاولة تنتهي ب (العائد ضعيف)، ليصبح الحال العام ( بلا معالجة لأسباب الهجرة وبلا مكافحة لآثارها ).. !! ** ( ح نصدر الأطباء والنبق)، قالها وزير المالية قبل أشهر بغرض تحقيق عائد لخزينة الدولة..ولكن رصد المرصد يؤكد خطأ هذا النهج، ويرشد وزارة المالية إلى تجارب الدول المصدرة للعمالة بغرض الفوائد الاقتصادية، كما تجربة الفلبين في مجال تصدير كوادر التمريض، على سبيل المثال..يقول المرصد إن تجارب تلك الدول سبقتها خطط ودراسات وأعمال توازن بين (التصدير) و(الإنتاج)..أي ليس من العقل أن يتم تفريغ البلاد من الكفاءات قبل إنتاج كفاءات تحل محلها، ثم تسمي هذا الأمر (تصديراً)، هذا تفريغ وتخريب..وهذا التفكير ليس بمدهش في عوالم مؤسسات الدولة، إذ وزارة الثروة أيضاً - بالتنسيق مع المالية وبنك السوادان - كادت أن تتخلص من إناث الأنعام وتجفف المراعي من الأوعية المنتجة تحت مسمى (التصدير أيضاً)..!!