محمد عبد العزيز مدخل: فليغفر لي الرب تلك الجنيهات التي أسرقها من أمي بين الحين والآخر، أما أمي فأنا كفيل بغفرانها.. (1) التَفِتُ إليها فأجدها غارقة في سبات عميق، وسط أنفاس متقطعة، وحبات العرق تقطر من جسدها بعد يومٍ مجهد.. هكذا هي؛ تلهث وراء جنيهات معدودات لا تغني ولا تسمن من جوع طوال اليوم، ألقي نظرة وداع طالباً منها السماح، على كل الخطايا التي ارتكبتها، والتي لم أرتكبها بعد.. أطلب منها الصفح، أقف أمام جسدها الأسمر الممدد بإهمال داخل تلك (العِشّة)، يعتصرني ذلك المغص اللعين، أشعر ببعض الدوار، ورأسي يكاد ينفجر، أهمّ بالصراخ، ولكني لا أريد أن أوقظها، وأعذبها أكثر، أمسح تلك الدمعة اللعينة التي طفرت من عيني اليسرى. أتسلل وسط عتمة الليل إلى مقصدي، لم آخذ منها الكثير من الجنيهات، إنها بالكاد تكفي لربع.. أنطلق بين الأنقاض أتَلَمّس طريقي الذي أحفظه جيداً، ووسط خطواتي المتسارعة، وأنفاسي المتقطعة، وأَلَمي الذي لا ينتهي، أُفَكّر مجدداً فيما أفعله، وأقرر أن تكون هذه هي المرة الأخيرة. أعيد التفكير في المرات السابقة التي قررت فيها ذات القرار، وتراجعت فيها، أبتسم وأنا أجد أمامي (العشة ذات الراية البيضاء)، وضوء خافت يتسلل من الداخل؛ ثمة ضحكات خافتة تنطلق من الداخل، أطرق برفق على باب الصفيح.. أسمع همهمات امتعاض من الداخل، أتوقف قليلاً، أهم بالطرق مجدداً، ولكني أتنازل عن الفكرة مع سماع خطواتها الثقيلة تقترب. فيما يبدو إلي أنها تزحف أو تجرّ قدميها جراً، إنها حتماً لا تمشي مثلنا كسائر البشر، إنها تزحف بجسدها المكتنز، تقطع حبل افكاري، وهى تفتح الباب قليلاً تحدق في وجهي. يبدو مظرهاً مخيفاً وأنا أرى نصف وجهها بفعل الظلام والإضاءة الخافتة، أكاد أجزم أنها (الشكلوتة) التي كانت تحدثني عنها جدتي عندما كنت صغيراً. (وه..جنى بتاع (...)، مالو جا متأخر الليلة؟). أناولها جنيهاتي، دون أن أبادلها بكلمة.. تأخذها وتقربها إلى عينيها، تبدو نظرات الامتعاض من عينيها، تغيب قليلاً، تاتيني به، آخذه بنشوة وأنصرف، دون أن أنظر خلفي، تطاردني نظراتها الناقمة على ضياع لحظات من نشوتها، لا أنظر إليها، ولكن أشعر بوخزها. أتوقف قليلاً تحت ظل النيمة، أتناول جرعة سريعة، يلفحني سموم الصيف الحارق؛ إنه المساء ولكن الجو ما زال حارقاً، أدفع بجرعةٍ أخرى، لأطفئ ذلك اللهيب المستعر بداخلي، ولكن دون جدوى. أتحَرَّك من مكاني مع سماع خطوات تتحرك من العشة المقابلة، ألمح من على البعد أضواء لسيارة شرطة، أميّز ذلك من قيادتهم المتهورة.. تباً لهم، سيلقون القبض علي، وأنا لست مستعداً لهم هذه الليلة. (2) الألم يعاود اعتصار رأسي وبطني معاً، أدفع بآخر جرعة، أشعر ببعض الخدر يتسلل إلى أطرافي، تلك (الزَنَّة) المميزة، تنطلق من جديد برأسي، تصيبني بذات الدوار المحبب، أبدء رحلتي المعتادة في البحث عن جدارٍ أتكئ عليه. تعود سيارة الشرطة من جديد، ألمحها تقترب هذه المرة أكثر، أجرجر خطواتي مبتعداً عن مسارها، ينتهي الجدار، أبدء رحلتي فى البحث عن آخر أتكئ عليه، وأختبئ خلفه حتى تغادر تلك السيارة الملعونة، الألم يعاودني من جديد بشكلٍ أكثر قسوة، (الزنة) المحبوبة، تبدو متقطعة، يبدو أن أثرها سيزول قريباً، كنت أعرف أن الربع لا يساوي شيئاً، ولكني لم أستطع أن آخذ من أمي المزيد، ما أبقيته لها، بالكاد يكفي لمعاودة دورانها المحموم كل صباح. أتكئ على الجدار الجديد، الذي يبدو أنه يراوغني، ويبتعد عني، آخخ.. ثمة شيء مَزَّق ثيابي، ما هذا؟ يبدو أنني جُرِحتُ بفعل قطعة زجاجٍ تتشبث بالجدار مثلي، أسقط أرضاً.. أنهض ببطء، أحاول أن أنفض ما عَلِقَ بي من غبار، أبذل جهداً خرافياً ولكن يبدو أن أطرافي خرجت عن السيطرة. الألم يحاصرني من كل جانب، أتملس طريقي بصعوبةٍ لم أعهدها، أكرر وعدي وسط هذه الفوضي بأنها ستكون المرة الأخيرة.. أحاول أن أسرع نحو عشة أمي، لم يبق الكثير.. أستجمع كل طاقتي لعبور الطريق الضيق، ألمح من على البعد ضوءاً خافتاً، لايبدو كسيارة شرطة، أسقُط أرضاً من جديد، أتشبث بأي جدارٍ حولي، ولكن دون جدوى. إنها تقترب مني، أُجاهد بقوة لأخرج من طريقها؛ إنها مسرعة أكثر من اللازم، المسافة تضيق بسرعة، لم أعد أدري ماذا أفعل!، رأسي تكاد تنفجر، وهذا ما يشل تفكيري..طراااخ.. (3) يا الله..ما هذا العارض؟. يخرج رأسه قليلاً، يتأمل سائقُ الركشةِ ما قام بدهسه؟، يجد نفسه أمام شاب ممدد، والدماء تسيل من أنحاء جسمه، هل مات؟ قطعاً لم يمت، فأنفاسه ما زالت متقطعة، يفكر قليلاً هل يتركه، ويهرب لشأنه؟، ولكنه ينفض الفكرة، ويحاول جاهداً حمله، لم يكن ثقيلاً رغم طوله البائن، ماهذا الهزال، أجلسه على المقعد الخلفي، تلفت يميناً، ويساراً. لا أحد هنا..ولكنه من أين أتى؟، هل هو إنسي؟، هذا واضح، ولكن ما به، الرائحة المميزة التي تتسلل من جسده تنبئ عما به، هل هذا كل شيء؟.. الأمر لا يعنينه، يتحرك بالركشة برفق مخافة أن يسقطه منها، وتكون هناك جريمة ثانية، لم يعد هناك الكثير. ها هو قسم الشرطة. (يتبع)