طاولة واحدة وأطراف متعددة بدوافع مختلفة مفاوضات أديس أبابا ... ما يريده المفاوضون تحليل: ماهر أبوجوخ من المقرر أن تشهد العاصمة الأثيوبية أديس أبابا اليوم أولى جلسات المباحثات المباشرة التي تجمع بين وفدي الحكومة السودانية والحركة الشعبية لتحرير السودان/ قطاع الشمال ويرأس وفدي التفاوض كل من رئيس قطاع العلاقات الخارجية بحزب المؤتمر الوطني البروفيسور إبراهيم غندور في ما يقود وفد قطاع الشمال أمينه العام ياسر عرمان تحت رعاية اللجنة الإفريقية رفيعة المستوى التي يرأسها الرئيس الجنوب إفريقي السابق ثابو امبيكي. بكل المقاييس فإن انطلاقة المباحثات بين الطرفين تعد اختراقاً مهماً في مسار الصراع الدائر بولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق وضوء في نفق الحرب المشتعلة فيهما، وتعقد في ظل تحولات عديدة أبرزها تحسن العلاقات بين دولتي السودان وتخلي الحكومة عن تحفظها السابق برئاسة عرمان لوفد الحركة. الخلافات الإجرائية المباحثات بين الطرفين المقرر انطلاقها اليوم قد تجد نفسها ومنذ البداية في خضم جدل إجرائي من المتوقع أن يثيره الطرفان عند وضع جدول أعمال المباحثات وترتيب الأجندة فيما يتصل بالقضايا المعنية بالتباحث والتحاور بين الطرفين. بالنسبة للحكومة فإنها ستتمسك إجرائياً عند وضع جدول الأعمال بنصوص قرار مجلس السلم والأمن الإفريقي الصادر في إبريل 2012م والقرار 2047 الصادر عن مجلس الأمن واللذين حددا إطار التفاوض بين الطرفين في الاتفاق الإطاري الموقع بين الحكومة وقطاع الشمال الموقع عليه في يونيو 2011م -الشهير باتفاق نافع/عقار- وهو أمر يجعل محور النقاش محصوراً في المرحلة الحالية على قضية ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق في الجوانب السياسية والعسكرية والإنسانية. أما وفد قطاع الشمال فسيحاول طرح أجندة ذات طابع قومي بالاستناد لجوهر نصوص الاتفاق التي تهدف لتحقيق توافق وطني خاصة الفقرة (6) التي تنص على تشكيل الطرفين للجنة مشتركة لمناقشة القضايا القومية المشتركة والفقرة (7) من ذات الاتفاق التي تشير إلى أن ما تخلص إليه تلك اللجنة سيشكل موقفاً مشتركاً بين المؤتمر الوطني وقطاع الشمال في الحوار السياسي والوطني الواسع الذي يضم كل الأحزاب السياسية. الوثيقة الحاسمة بالرجوع لنصوص الاتفاق المرجعي للمباحثات المتمثل في اتفاق نافع/ عقار المعنون ب(اتفاق إطاري بين حكومة السودان والحركة الشعبية لتحرير السودان قطاع الشمال حول الشراكة السياسية بين المؤتمر الوطني والحركة الشعبية لتحرير السودان والإجراءات السياسية والأمنية في ولايتي النيل الأزرق وجنوب كردفان) نجدها تتكون من جزأين يشمل الاول (الشراكة السياسية بين الطرفين بالولايتين) أما الثاني فيتناول (الترتيبات الامنية في الولايتين). عند تحليل محتوى هذه الوثيقة ودراسة إجراءاتها فنجدها تقوم على عدة مراحل أولها حل لمشكلة المنطقتين سياسياً وعسكرياً وإنسانياً يعقبها توصل الطرفين لتفاهم مشترك حيال القضايا ذات الطابع القومي تمهيداً للمرحلة الثالثة بالتحاور مع القوى السياسية السودانية بغرض تحقيق توافق وطني بين مختلف الاتجاهات السياسية بالبلاد. الوضع الحالي سيجعل مهمة الوفد الحكومي برئاسة غندور أكثر سهولة من نظرائهم بوفد قطاع الشمال فيما يتصل بتحديد أجندة الاجتماع استناداً لنصوص اتفاق نافع/ عقار، ولكنها في ذات الوقت لن تكون بلا مصاعب لا سيما في ظل وجود نصوص بالاتفاق تنص على قضايا ذات طابع قومي. وضعية الفرقتين تشير المؤشرات إلى أن جولة المباحثات الحالية واستناداً لنصوص اتفاق نافع/عقار قد تدخل في ترتيبات عملية فيما يتصل بملف الترتيبات الامنية بالاتفاق على تكوين اللجنة الامنية المشتركة المناط بها تنفيذ الاجراءات الامنية المتفق عليها مع امكانية تمديد وقف قرار وقف العدائيات الذي كان يقتصر على ولاية جنوب كردفان فقط ليشمل ولاية النيل الأزرق التي اندلعت فيها الحرب بعد حوالي الثلاثة أشهر بعد التوقيع على الاتفاق. حسم الاتفاق المرجعي وضعية الفرقتين التاسعة والعاشرة للجيش الشعبي المتمركزتين في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق بإقراره لعدة مبادئ أولها أن للسودان جيش قومي واحد وهو ما سيغلق الباب امام تكرار سيناريو نيفاشا السابق بالمطالبة باعطاء الفرقتين وضعاً خاصاً أشبه بجيش ثان، أما ثانيهما فهو التعامل مع منسوبي الولايتين باعتبارهم مواطنين سودانيين مما يعني عملياً قطع الطريق امام أي دعوة للمطالبة بإلحاق منسوبي الفرقتين لجيشهم الام بجنوب السودان، أما ثالثهما فهو حصر الخيارات إما بالدمج في القوات المسلحة والقوات النظامية الاخرى أو التسريح فيما ينص الموجه الرابع والاخير على عدم نزع السلاح بالقوة والعنف للحيلولة دون اندلاع الحرب مجدداً. وجود تلك المبادئ الرئيسة قد لا تمنع حدوث خلافات حول بعض القضايا التفصيلية على رأسها وضعية منسوبي تلك القوات فيما يتعلق بأسس وقواعد الاستيعاب والاعداد، أما الجزئية الثانية فمرتبطة بأماكن تمركز تلك القوات ويتوقع أن يطالب قطاع الشمال باجراءات فنية وسياسية تضمن ابقاء تلك القوات في الولايتين، وهو أمر سترفضه الحكومة باعتبار أن اجراءات تحريك القوات ونقلها قرار فني وليس سياسي كما أن تاسيس وضعية خاصة للقوات بهاتين الولايتين سيؤسس لمعايير اقليمية وولائية تتناقض مع مبدأ قومية القوات المسلحة والقوات النظامية الاخرى. وقف النيران رغم أن اتفاق نافع/ عقار نص على وقف للعدائيات بولاية جنوب كردفان –ومن الواضح أن هذا الامر سينطبق على ولاية النيل الأزرق ايضاً التي لم تكن جزءاً من الحرب وقتها- وهو ما يعتبره البعض سيسهل من تعزيز مطالب الحكومة بالتوصل لوقف شامل لاطلاق النار بالولايتين بغرض التخلص من التكلفة السياسية والامنية والاقتصادية الباهظة المترتبة عليها من جهة والتأثير السلبي لاستمرار الصراع المسلح على اجواء التفاوض والمباحثات، وربما تلجأ الحكومة لتعضيض منطقها بقضية تهم الوسطاء بارتباط الاجراء بعملية إيصال المساعدات الإنسانية وصعوبة انجاز هذه المهمة بالتزامن مع استمرار الحرب. من جهته فإن قطاع الشمال قد يحاول تحقيق نقطة إضافية برهن موافقتها على الوقف الشامل لاطلاق النار بشموله لكل الجبهات بحيث يشمل دارفور بغرض إرسال رسالة لحلفائها في الجبهة الثورية "بأننا لم ننساكم" وتكرار تجربة الحركة الشعبية ابان مفاوضات ميشاكوس في سبتمبر 2002م حينما شملت الجبهة الشرقية التي كانت توجد فيها قوات التجمع الديمقراطي ضمن اتفاق وقف العدائيات. اللجوء للمناورة لكن ما سيعرقل هذا المقترح ويحول دون شمول دارفور بوقف اطلاق النار وعدم تكرار سابقة شمول شرق السودان بوقف العدائيات هو وجود العديد من المتغيرات أولها إمكانية اعتراض الوسطاء ووفدي الحكومة على هذا المقترح بإعتباره مخالفاً لمرجعية الاتفاق أما الأمر الثاني فهو وجود مسار خاص بدارفور عبر منبر الدوحة يحظى بمساندة إقليمية ودولية -وهو الأمر الذي لم يكن متوفراً للتجمع الديمقراطي وجبهته الشرقية عند التأم مباحثات ميشاكوس- وبالتالي فإن الجوانب المرتبطة بدارفور يستوجب مناقشتها ضمن ذلك المنبر وعدم خلق مسار موازي لمباحثات الدوحة. قد يلجأ قطاع الشمال للمناورة في حال رفض الوقف الشامل عبر طرح مقترح ثان بوقف جزئي لاطلاق النيران يمكن من فتح مسارات وممارات آمنة تساعد في توصيل المساعدات الانسانية، لكن هذا المقترح وعند وضعه عملياً على الأرض واستناداً لمساحة الصراع في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق فإنه قد يشمل معظم المناطق بالولايتين اللتين تشهدان مواجهات مسلحة ويتستثنى فقط شريط صغير منهما من الوقف الجزئي لاطلاق النيران. تغيير المسمى لا يستبعد سعي الوفد الحكومي لتحقيق نقطة مهمة لمصلحته ظل يدعو لها منذ استقلال جنوب السودان بموافقته على الفقرة (2) من اتفاق نافع/عقار التي أقرت بحق قطاع الشمال في تكوين حزب سياسي بالبلاد بتغيير اسمها استناداً لقانون الاحزاب الذي يحظر قيام أي حزب سياسي كفرع لحزب ثان في دولة أخرى، والاستفادة من الدعوة التي اطلقها رئيس الجنوب سلفاكير ميارديت خلال الزيارة الاخيرة للبشير لجوبا ومطالبته للقطاع الشمال بتغيير اسم الحزب. النجاح في هذا المسعى يمثل نصراً معنوياً مهماً تسعى الحكومة ووفدها المفاوض لتحقيقه باعتباره إقراراً بصحة الموقف الدائم الذي ظلت الحكومة تدعو له وتتمسك به بتغيير قطاع الشمال لمسمى (الحركة الشعبية لتحرير السودان). تهيئة المناخ في هذا السياق يُتوقع أن يحاول وفد قطاع الشمال طرح قضايا ذات طابع قومي على رأسها "اجراءات التحول الديمقراطي، الحريات، صياغة دستور قومي مجمع عليه، التحاور الوطني، تكوين وضع انتقالي يسبق تنظيم الانتخابات .. الخ" ولعل الهدف من طرح هذه القضايا يهدف لتطمين حلفائها وانصارها بعدم سعيها لعقد صفقة تنتهي بشراكة ثنائية بينها وبين حزب المؤتمر الوطني أو اختزال القضية في اطار الصراع الدائر في المنطقتين واهمية شمول الحل لكل جزئيات المشكل السوداني، وهي مطالب كما اسلفنا سابقاً ستكون محكومة بشكل رئيسي بمرجعية المفاوضات المتمثلة في اتفاق نافع/ عقار. قرار الحكومة بالافراج عن المعتقلين لاسباب سياسية حرم قطاع الشمال من ورقة كان يمكن توظيفها في تحقيق انتصار سياسي واعلامي، ورغم ذلك فمن المتوقع مناداتها بإطلاق سراح منسوبيها والحركات المسلحة في دارفور ضمن مطالبها وشروطها لتهيئة المناخ بجانب إصدار قرار بفك الحظر عن نشاطها السياسي والتنظيمي والاعلامي استناداً للفقرة (2) من اتفاق نافع/عقار وسيرهن الوفد الحكومي موافقته على هذا الأمر بأمرين اولهما وقف نشاطها العسكري وبشكل ادق التوصل لوقف شامل لاطلاق النار وثانيهما توفيق اوضاعها بتغيير مسماها وهو أمر سيحاول قطاع الشمال مقاومته ولكنه سيضطر في خاتمة المطاف للتعامل معه ومحاولة التحايل عليه عبر إحداث تغيرات وتعديلات على مسماها بقصد المحافظة على جوهر الاسم بالابقاء على عبارتي (الحركة) و(الشعبية) أو في الحد الأدنى الإبقاء على عبارة (الحركة). ما يريده الوسطاء بخلاف دوافع طرفي التفاوض فإن الوسطاء ومن خلفهم الاطراف الإقليمية والدولية لديهم اهداف اخرى يسعون لتحقيقها قد تتقاطع مع اولويات الطرفين او تخالفهما على رأسها معالجة الملف الانساني بالولايتين وتوصيل المساعدات للمتضررين فيهما، وثانيهما وضع حد للنزاع المسلح بالتوصل لوقف للعدائيات بغرض تحقيق عدة دوافع ابرزها وضع حد للتأثيرات السلبية المترتبة على استمرار الصراع المسلح وعرقلته للجهود الانسانية وتأثيرته على اعادة الاستقرار لحياة المواطنين وافتراض أن استمرار المباحثات السياسية والفنية وتطاول امدها بين الطرفين في ظل توقف الحرب لا يترتب عليه أي أضرار مباشرة على المواطنين أو حياتهم. هذه المعطيات تجعل الهدف الرئيسي والاساسي الذي يهدف الوسطاء لتحقيقه في هذه الجولة هو إحداث اختراقات اساسية اولها توصل الطرفين لوقف للعدائيات في الولايتين والاتفاق على الاجراءات الخاصة به وثانيهما الاتفاق على حزمة الاجراءات لانطلاقة العمل الانساني أما ثالثهما فهو وضع جداول تنفيذ خاصة بتكوين الآليات المنصوص عليها في اتفاق نافع/عقار ومهامها والتي تشمل اللجان الثلاث (السياسية، الامنية، القضايا القومية المشتركة) بجانب آلية القيادة المشتركة المكلفة بمهام التنسيق والقيادة وفض النزاعات. سيف الفصل السابع امران سيسهلان مهمة الوسطاء للوصول لهذا الهدف اولهما أن هذه القضايا متفق عليها بشكل اجمالي في اتفاق نافع/عقار المرجعي أما ثانيهما فهو عقد جولة المباحثات تحت ظل الفصل السابع لميثاق الاممالمتحدة واستناداً للقرار 2046 وبالتالي التلويح بسيف العقوبات على رأس مفاوضي الفريقين. عملياً فإن نجاح الجولة الحالية -وعلى اقل تقدير- بلوغ الاهداف الاساسية المراد تحقيقها من قبل الوسطاء والتي اشرنا إليها سابقاً سيمنح عملية التفاوض بين الطرفين قوة دفع رئيسية واساسية ويضع العملية بمسارها الصحيح ويمكنها من تجاوز عقبات شيطان التفاصيل التي ستخرج في تفاصيل الجولات القادمة.