** للمرة الثانية، نسرد سيرة (العكوك).. هذا العكوك، عاش شاعراً متزلفاً ومتملقاً في العهد العباسي، واشتهر في كل كتب التاريخ بالشعر (المتملق والمتزلف والمنافق).. ودخل يوماً على الأمير أبي دلف العجلي - وكان هذا من كبار قادة العباسيين - ثم أنشد فيه قائلاً بلا حياء: (أنت الذي تنزل الأيام منزلها، وتنقل الدهر من حال إلى حال/ وما مددت مدى طرف إلى أحد، إلا قضيت بأرزاق وآجال).. هكذا مدح الأمير العباسي لحد رفعه إلى مقام الخالق الرازق، والعياذ بالله.. وعندما بلغ أمر هذا المدح الخليفة المأمون، أمر حراسه بإحضار المادح، فأحضروا العكوك.. فأمرهم: (لقد أشرك هذا العكوك بتلك الأبيات وكفر، ويجب نزع لسانه من فمه).. ونزعوه، فمات! :: لقد أغفل التشكيل الوزاري الأخير إنشاء وزارة يكون وزيرها رجل بمواصفات الخليفة المأمون، لينزع ألسنة المتزلفين والمتملقين من (الحلاقيم)، أو كما فعل المأمون بلسان الشاعر العكوك.. قبل أن يؤدي الوزراء القسم أمام رئيس الجمهورية، امتلأت صفحات الصحف بالمهنئين والمهنئات، وبالمتملقين والمتملقات.. بنك شنو كده الإسلامي يهنئ وزير المالية بالاختيار الذي صادف أهله، شركة زيد التجارية تهنئ الشعب بمناسبة اختيار الوزير فلاني، هيئة عبيد الحكومية تهنئ الوزير فلتكاني على هذه الثقة، وهكذا صفحات من شعر العكوك.. ثم الأدهى والأمر هو انحدار بعض قبائلنا وعشائرنا إلى مستوى تلك المصارف والشركات والهيئات والعكوك (تملقاً وتزلفاً)!! :: ثم، لم يكن في أي زمان أو مكان، أن تكليف المرء بأداء أمانة في العمل العام مفرح لحد إغراق هذا المُكلَّف بسيول (المباركة والتهاني)، بل تلك الأمانة بمثابة ملامة في الدنيا وندامة في الآخرة (إلا من عدل)، فبأي عقل أو شرع يبارك هؤلاء ويهنئون الوزراء بكل هذه الغزارة و(القذارة)؟!.. هذه الظاهرة السالبة لم تكن مألوفة في العمل العام طوال الحقب الفائتة، بل كان الوزير والوكيل والمدير في عهود السودان الزاهية مجرد (موظف عام)، ولا يتميز الوزير أو الوكيل أو المدير -وغيرهم من المسؤولين- عن أفراد مجتمعهم بأية وجاهة اجتماعية، إلا بمقدار ما يبذله من (جهد وعطاء).. وكذلك كانت مرافق الدولة العامة ومؤسساتها وخدمتها المدنية عفيفة وقوية، وهي تقف على مسافة بعيدة من (المناصب السياسية).. ولذلك، لم يكن الوكيل يتزلف وزيره، ولا المدير ينافق وكيله، بل الكفاءة وسلامة الأداء، ثم الثقة في النفس هي التي كانت توفر الاحترام والتقدير بين الوزراء ومرؤوسيهم في مرافق الدولة.. نعم، بالكفاءة والثقة النفس وسلامة الأداء - وليس بالإعلانات النفاق - كان رجال الخدمة العامة يفرضون احترام الوزراء ويلزمونهم به. :: وكذلك، في عهود السودانية الزاهية، لم يكن المجتمع يهتم بمعرفة القبائل التي ينتمي إليها المسؤولون، ولذلك لم تكن قبائلنا تتباهى بالمسؤولين وتحتفي بمناصبهم في وسائل الإعلام، أو كما تفعل اليوم.. هذه دولة - أو يجب أن تكون - ومن يتولى موقعاً عاماً في مناصبها لا يمثل قبيلته، وليس له حق ادعاء هذا التمثيل، ويكذب على أهل قبيلته إذا ادعى تمثيلهم.. هؤلاء المسؤولون، لم تنتخبهم القبائل ليكونوا (وزراء)، بل جاءت بهم أحزابهم وأفكارهم وقناعاتهم الخاصة أو (أطماعهم الذاتية).. وليس من الحكمة أن تزج قبائلنا بنفسها في بحر أحزابهم وأفكارهم و- أطماعهم وأخطائهم الخاصة - بهذا الشكل القبيح والمتجلى إعلاناً مباهياً يكاد أن يقول (هذا ابن الأكرمين، وقد صار عليكم وزيراً).. أخطاء الحكومة مهما تعاظمت فهي مؤقتة وتزول بزوال الحكومة، ولكن أخطاء المجتمع هي الآفة التي يُستعصى استئصالها (إذا تفشّت).. ومن يمسك قلماً قبلياً ليهنئ ابن قبليته بتولي (المنصب العام)، عليه أن يعلم أنه بهذا القلم لا يلوث العمل العام فحسب، بل يلوث (قبيلته أيضاً)!!.