كلمة السودان أطلقت على مساحة واسعة من القارة الإفريقية، فهي لا تعني شعبا محددا والكلمة تحمل في جوفها ألوانا من البشر تمددت على مساحة واسعة من الأرض، ولكن بعد الحرب العالمية الثانية تقاسمت الدول الأوروبية أرض إفريقيا بغرض احتكار الموارد لبناء مادمرته الحروب الطويلة. وفي مؤتمر عقد بقاعة الصداقة تعرفت على الأب "فيلو ساوث فرج" فأهداني كتابه "أقباط السودان- الجزء الأول"، وظللت أطوف في صفحاته الشيقات التي كانت تعج بالمعلومات الثرة عن تاريخ "الأقباط" ونضالاتهم. وكم كنت سعيدا بقراءة هذا السفر الهام، ولعل مافتح شهيتي للغوص في أعماق هذا الكتاب رغبتي الجامحة لمعرفة تاريخ الأقباط حيث أن الأقباط هم السكان الأصليون لمصر وهم الذين بنوا أقدم حضارة في الكون وهي الحضارة الفرعونية. ومعروف في كتب التاريخ أن حضارة النوبة والبجا تزامنت مع الحضارة الفرعونية القديمة وبين الحضارتين أخذ وعطاء بحكم الجوار، كما أن الهجرات والهجرات المعاكسة بين مصر من جهة والبجا والنوبة من جهة أخرى كان لها دورها في التماذج، ثم أن البحث عن الذهب الذي كان ينبت بشرق السودان هو واحد من الأسباب التي فتحت أبواب الهجرة والأقباط يدينون بالدين المسيحي والمسيحية ديانة معترف بها في الإسلام ومن شروط الإسلام الإيمان بها كرسالة سماوية. والأب "فيلو ساوث فرج" شخصية محبوبة وحينما تقابله لأول مرة يمنحك الإحساس بأنك قد قابلته قبل سنوات، يمتلئ قلبه حبا وعشقا للسودان ولأهله، ولذلك تراه كالنحلة حضورا في المنتديات مشاركا ومستمعا لا تحد نشاطه السياسة ولا القبلية، مؤلفا وكاتبا صحفيا وقارئا لكل ما جادت به أقلام السودانيين ومن الموروث الديني الإسلامي "الدين المعاملة، وتبسمك في وجه أخيك صدقة"، ويحمل الرجل صفة قيادية. إنه من الظرفاء الذين لا تعرف وجوههم التجهم ولا الغضب حتى في أحرج اللحظات، هذا الرجل رسول سلام ومحبة وهو يتصبب العرق يغوص في أعماق تاريخنا السوداني ليخرج لنا الدرر من الأحداث ويقدم للقارئ السوداني الرموز الوطنية التي اشتهرت في المجالات السياسية والأدبية ليؤكد لأجيالنا أن "المواطنة" هي أن تتوشح بنضالات الأمة وتحفر على ثرى الوطن أثرا عاطرا، فالنضال المشترك هو الذي يحدد "الهوية". والأقباط سودانيون بالأصالة يشهدها لهم التاريخ مناضلون ووزراء ومدراء وبناة دور العلم ومراكز العلاج وبناة خلاوي للقرآن "كمان" في أم درمان "خلوة بولس" المشهورة. إن الديانة المسيحية قد اعتنقها معظم العالم قبل الإسلام وكان السودانيون مسيحيين في شماله وشرقه وجنوبه وغربه حتى انتشار الإسلام، ولازالت آثار المسيحية باقية في كثير من أجزاء البلاد. وحينما يورد الأب "فيلو ساوث فرج" سودانية الأقباط ويبرز نضالاتهم عبر القرون وصناعتهم للتاريخ السوداني فإنما يفعل ذلك ليؤكد وطنيتهم وحبهم للتراب السوداني. كان السودان لعهد قريب بوتقة يتعايش فيها المسيحيون والمسلمون واليهود في كل أصقاعة حتى يقال إن "نتنياهو" مولود بشمال السودان وهو ذو ديانة يهودية كما هو معروف والديانات تحمل لونا رسميا ولونا شعبيا وطابعها الشعبي أكثر نفاذا وأقوى من الطابع الرسمي. والأب "فيلو ساوث فرج" رجل منفتح القلب إنسان يمتلئ فؤاده حبا للناس كل الناس ثم إنه سوداني قبل أن يكون مسيحيا يسخر مبادئ الديانة من أجل بناء مجتمع متحاب وهو كالمطر أينما وقع نفع، ويقول أحد المتصوفة: لقد كنت قبل اليوم أنكر صاحبي.. إذا لم يكن ديني إلى دينه دان وقد صار قلبي قابلا كل صورة.. فمرعى لغزلان ودير لرهبان وبيت لأوثان وكعبة طائف... وألواح توراة ومصحف قرآن أدين بدين الحب أنى توجهت.. ركائبه فالحب ديني وإيماني وفي فؤاد الأب "فيلو ساوث فرج" تتلاقح الأديان وتتصافح يجسد المبادئ وهو متسع لكل أهل السودان في تلويناتهم ومعتقداتهم السماوية والوضعية. والأقباط في تاريخ العالم حملة لواء العلم والمعرفة وهم الذين أسسوا أول حضارة عرفها الكون كما أسلفنا، وبنوا على أرض الكنانة الأهرامات التي تشبه المعجزات. والنوبيون والبجا شركاء في بناء حضارات الفراعنة "الاقباط" في أهرامات وبجراويات نبتة ومروي ومملكة الأبواب أو "تكاكي" بكبوشية وعطبرة. وإذا كان الجزء الأول من كتاب "أقباط السودان" قد تناول أصول هذه القومية وتجذرها في تاريخ العالم، فإن الجزء الثاني يورد نماذج حية تحكي عن تماهي وتفاعل "الأقباط" في مسيرة وطننا السودان. كما أن تفاعلهم يصنع الحياة ويقوي ارتباطهم بالأرض "والسودانوية" إنما تصاغ وتتأكد بقدر البذل والعطاء. رجال سكبوا العرق وقدموا الأرواح من أجل إسعاد بني "جلدتهم" وكانوا السباقون في الحياة الاجتماعية في مجال التعليم والصحة مدراء ووزراء، وتتأكد هوية "السوداني" بإدانة وتجذر تاريخه ومن هذا المنظور فإن "الأقباط" سودانيون بالأصالة مولدا وبذلا ولنمد الأكف إلى السماء لندعو الله أن يمد في عمر "فيلو ساوث فرج" وأمثاله من الوطنيين لصياغة وطن تحف أرجاءه المحبة والإخاء.