علاقة الأمنيات بالعام الجديد لا تحتاج إلى تفسير كبير، فبداية العام الميلادي باتت أشبه بعيد ميلاد جامع لكل البشر الذين لا يجدون حرجاً عَقَدِيّاً في الاحتفال بالمناسبة أو على الأقل تقبُّل التهنئة بها ومتابعة مظاهر الاحتفال الشائعة باهتمام وبهجة موازية. لكن موضة الأمنيات مع بداية العام وقياس الناس إنجازاتهم في أعقاب عام واستقبال آخر هي في الغالب من مُحدَثات رأس السنة عندما دان لبدعة الاحتفال الكبرى أن تكتسح عالماً بات مجبراً على متابعة التقويم الميلادي من رأسه إلى أخمص قدميه حين لم يعد أمام الناس مناص من تأريخ ماضيهم وحاضرهم ومستقبلهم رجوعاً إلى ذلك التقويم، وهو ما استقرّ في بلادنا مع اكتساح المدنية لحياتناً حديثاً، وتحديداً مع بدايات وأواسط القرن الذي مضى. وكان رجل أعمال عربي مرموق فارق بالكاد الأربعينيات من العمر يحكي في لقاء تلفزيوني قبل سنوات سيرته المهنية وفي اللقاء كثير من الظلال الشخصية على تلك السيرة. قال الرجل فيما قال عن حياته أنه لا يعرف يوم ميلاده على وجه التحديد، وللدقة فإن الرجل كان يجهل السنة نفسها وليس اليوم فحسب. قال إن أمه أخبرته لاحقاً أنه ولد في السنة التي اشترى فيها جيرانهم سيارتهم الكبيرة، وكان اقتناء السيارات كبيرة أو صغيرة حينها مما يُؤرخ به الأحداث في غير قليل من بلادنا، وبالمضيّ عقوداً يسيرة وراء ذلك الزمان فإن الناس لم يكن لديهم ما يؤرخون به شؤونهم الخاصة سوى أحداث من قبيل سنة القحط وعام السيل وما على تلك الشاكلة من وقائع مرتبطة بالطبيعة ليست كلها مؤسفة على كل حال. وإذا كان أشهر ما يضيع في شهادات التسنين هو يوم الميلاد الحقيقي متوارياً خلف الأول من يناير، فإن الأهم هو السنة ذاتها وقد ذهبت في ثنايا حقب لم يكن الناس خلالها مهتمين بأكثر من أن يعيشوا حياتهم وحسب، فالتأريخ كان ترفاً ما خلا ما استوجبه بعض أحداث الطبيعة الجسام على نحو ما مضت الإشارة إليه. ل "عجايزنا" مع بداية العام نصيب من الأحلام حتى إذا تكلّفوا الوقار وبدوا متأففين من الضجيج ومترفعين عن متابعة المهرجان أو مكتفين بالدعاء للصغار بمزيد من التوفيق مع العام القادم. أقول "لعجايزنا" لأن "عجايز" الخواجات هم في العادة في غمار الاحتفال إنْ للدواعي الدينية الأكثر ارتباطاً بالمناسبة أو لدواعي السبق الحضاري التي جعلت الاحتفاظ بشهادة ميلاد موثقة عندهم مسألة اعتيادية لدى الجدود وغير مستغربة لدى جدود أولئك الجدود، فكفاهم ذلك السبق الحضاري مغبة الاعتماد في التأريخ على أحداث الطبيعة بخيرها وشرها. وحتى لا يغضب "عجوز" ممن يعز عليّ أن يستبد بهم الضجر، أبادر فأذكِّر بأنني أدخِل نفسي منذ زمان باطمئنان في فئة "العجايز"، وفي ما مضى مما كتبت على هذا الصعيد ما يكفي من إيضاح لمن يتفضّل بالتشكيك في ذلك الأمر. غير أني لا آمنُ مكرَ بعض "عجايزنا" حتى بعد هذا التحوّط، فمنهم من قد يبادرني: "ادخل وحدك في تلك الزمرة وتحدّث عن نفسك بما تشاء، فما نحن كذلك، بل لسنا من المستحقين لصفة الهرم أصلاً". وبعيداً عن من يستحق لقب "عجوز"، فإن "العجايز" لهم نصيب غير منكور من الأحلام وفي جملتها أحلام العام الجديد، وإذا كان الشباب كما هو معلوم ممن يكثرون من الأماني والأحلام فليس من سبب أدعى إلى ذلك مثلُ كونهم خالي الوفاض من تحقُّق أغلبها لكونهم على أول الطريق، وبهذا فإن الطريق الطويل المفتوح أمامهم نحو المستقبل يغري بالأحلام من كل جنس ولون. و"كل جنس ولون" تعني كل شاكلة من الأمنيات والأحلام مما دان للكبار (العجايز) بصفة عامة، فعلى هذا يصدق أن نصف أحلام الشباب بالنوعية، وفي المقابل فإن "العجايز" يملكون ساحة الأحلام الكميّة يعيثون فيها تمنِّياً واشتهاءً، أي أن "العجايز" الذين تناولوا من كل حلم رشفة أو بضع رشفات – كلٌّ بحسب اجتهاده وحظه – لن يغدو أمامهم سوى تمنِّي المزيد من رشفات الأحلام المتحققة سلفاً على امتداد ما تبقى من العمر على طريق الحياة. وهكذا فإن "عجوزاً" ثريّاً لن يكون حلمه على الأرجح سوى مزيد من المال مقابل رجل أعمال ناشئ طموحه أن يذوق حلاوة المال الوفير ويرتشف الثروة على جرعات تصغر أو تكبر بحسب نصيبه. وإذا كان "العجوز" شاعراً فحلمه بالتأكيد مزيد من الدواوين إذا بلغ ذلك العمر وكان لا يزال يؤمن بجدوى الشعر، و"العجوز" العالم حلمه مزيد من البحوث و"العجوز" المخترع مزيد من الاختراعات، و"العجوز" المشهور مزيد من الشهرة، وقد ذاق كل أولئك سعادة تحقيق الحلم فتوهّموا أن مزيداً من السعادة يكمن في زيادة ما تحقق من الأحلام، وربما الأرجح أنهم باتوا يدركون أن السعادة المستمرة وهْمٌ، ولكن لا مناص من تعقُّب ذلك الوهم ما دامت في العيش فسحة. على أن "عجوزاً" ماكراً لن يعدم من الحيل ما يتفتق عن أحلام نوعية غير ما أنجز فيما مضى من العمر، وللوقوف على ذلك نضرب المثل برجل له بضعة أحلام منذ الصغر تتعلق كما هو شائع بالتفوق في الدراسة والنجاح المهني وجني قدر معتبر من المال والزواج وبناء منزل أنيق والسياحة حول العالم، فإذا فرغ ذلك الرجل من تحقيق ما تمنى، وزاد عليه بالحج الذي يرد في كلامنا على سبيل الدعابة إشارة لخاتمة المطاف من الأماني، فليس مستبعداً أن يفكر ذلك الرجل - من أجل مزيد من الضمان لمستقبل أبنائه كما شاع مؤخراً - في الهجرة ليبدأ فصلاً مستقلاً من حياة جديدة لها ما يبررها من الأحلام النوعية الجديدة بدورها. وإذا كان أمر الهجرة هذا مما يقلب حياة الواحد رأساً على عقب فإن "عجوزاً" أكثر حصافة بإمكانه أن يقع على أحلام نوعية في مسائل أقل خطراً لا تتعدّى اشتهاء فيلا فسيحة عوضاً عن شقة أو منزل صغير ضاق بالعائلة، وأخطر ما على تلك الشاكلة من المسائل "الصغيرة" - دون الهجرة - المعينة على هتك أستار الأماني المخبّأة مما يخص الرجال هو الشروع في بداية حياة جديدة إلى جوار فتاة أحلام "نوعية"، وإن كان الجدل سيتزايد حول أن هذا مما لا يعدو أن يجاوز الأحلام الكميّة، ولا تزال العبارة الدارجة عندنا ترجِّح ذلك المذهب في التفسير وهي تشير إلى الحلم الذي يراود الرجال المتزوجين خلسة ب "التدبيل". لا يزال "العجوز" يترقَّب أحلامه مع فسحة العيش ولن يعدم في ذلك رجاءً مهما تقدّم به العمر. حكى لي مرة صديق - يتقدّم بقوة نحو لقب "عجوز كبير" - عن جار لهم مُسن يستيقظ صبيحة كل يوم وهو يتحسس أطرافه في ترقُّب حتى إذا نهض من فراشه حمد الله منتشياً أنه لا يزال يحظى بنعمة الوقوف والسير على قدمين. وهكذا فإن رحلة أحلامنا مع الحياة تنتهي بأن تكون غاية تلك الأحلام أن نحتفظ بقوانا الجسدية والعقلية بمنأى من العطب حتى اللحظة الأخيرة.