حادث مروري بمنطقة الشواك يؤدي الي انقلاب عربة قائد كتيبة البراء المصباح أبوزيد    تستفيد منها 50 دولة.. أبرز 5 معلومات عن الفيزا الخليجية الموحدة وموعد تطبيقها    السودان..الكشف عن أسباب انقلاب عربة قائد كتيبة البراء    شاهد بالفيديو.. ب"البنطلون" وبدون حجاب.. حسناء الإعلام السوداني ريان الظاهر تبهر المتابعين بإطلالة جديدة من داخل أستوديوهات العربية والجمهور: (جميلة وأنيقة بس رجعي الطرحة وغطي شعرك)    شاهد بالصورة والفيديو.. "المعاناة تولد الإبداع" بعد انقطاع الماء والكهرباء.. سوداني ينجح في استخراج مياه الشرب مستخدماً "العجلة" كموتور كهرباء    شاهد بالصورة والفيديو.. حسناء سودانية تخطف قلوب المتابعين وهي تستعرض جمالها ب(الكاكي) الخاص بالجيش وتعلن دعمها للقوات المسلحة ومتابعون: (التحية لأخوات نسيبة)    برشلونة يسابق الزمن لحسم خليفة تشافي    بالفيديو.. شاهد رد سوداني يعمل "راعي" في السعودية على أهل قريته عندما أرسلوا له يطلبون منه شراء حافلة "روزا" لهم    البرازيل تستضيف مونديال السيدات 2027    السودان.."عثمان عطا" يكشف خطوات لقواته تّجاه 3 مواقع    القمة العربية تصدر بيانها الختامي.. والأمم المتحدة ترد سريعا "السودان"    مدير الإدارة العامة للمرور يشيد بنافذتي المتمة والقضارف لضبطهما إجراءات ترخيص عدد (2) مركبة مسروقة    كواسي أبياه يراهن على الشباب ويكسب الجولة..الجهاز الفني يجهز الدوليين لمباراة الأحد    ناقشا تأهيل الملاعب وبرامج التطوير والمساعدات الإنسانية ودعم المنتخبات…وفد السودان ببانكوك برئاسة جعفر يلتقي رئيس المؤسسة الدولية    إسبانيا ترفض رسو سفينة تحمل أسلحة إلى إسرائيل    منتخبنا فاقد للصلاحية؟؟    اللاعبين الأعلى دخلًا بالعالم.. من جاء في القائمة؟    جبريل : مرحباً بأموال الإستثمار الاجنبي في قطاع الصناعة بالسودان    قيادي سابق ببنك السودان يطالب بصندوق تعويضي لمنهوبات المصارف    الخارجية تنفي تصريحا بعدم منحها تأشيرة للمبعوث    شاهد بالصورة.. (سالي عثمان) قصة إعلامية ومذيعة سودانية حسناء أهلها من (مروي الباسا) وولدت في الجزيرة ودرست بمصر    آفاق الهجوم الروسي الجديد    كيف يتم تهريب محاصيل الجزيرة من تمبول إلي أسواق محلية حلفا الجديدة ؟!    شبكة إجرامية متخصصة في تزوير المستندات والمكاتبات الرسمية الخاصة بوزارة التجارة الخارجية    مانشستر يونايتد يهزم نيوكاسل ليعزز آماله في التأهل لبطولة أوروبية    يوفنتوس يتوج بكأس إيطاليا للمرة ال15 في تاريخه على حساب أتالانتا    عثمان ميرغني يكتب: السودان… العودة المنتظرة    إنشاء "مصفاة جديدة للذهب"... هل يغير من الوضع السياسي والاقتصادي في السودان؟    واشنطن تعلن فرض عقوبات على قائدين بالدعم السريع.. من هما؟    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني في الموازي ليوم الأربعاء    وسط توترات بشأن رفح.. مسؤول أميركي يعتزم إجراء محادثات بالسعودية وإسرائيل    "تسونامي" الذكاء الاصطناعي يضرب الوظائف حول العالم.. ما وضع المنطقة العربية؟    "بسبب تزايد خطف النساء".. دعوى قضائية لإلغاء ترخيص شركتي "أوبر" و"كريم" في مصر    شاهد بالصورة.. حسناء السوشيال ميديا "لوشي" تنعي جوان الخطيب بعبارات مؤثرة: (حمودي دا حته من قلبي وياريت لو بتعرفوه زي ما أنا بعرفه ولا بتشوفوه بعيوني.. البعملو في السر مازي الظاهر ليكم)    حتي لا يصبح جوان الخطيبي قدوة    5 طرق للتخلص من "إدمان" الخلوي في السرير    انعقاد ورشة عمل لتأهيل القطاع الصناعي في السودان بالقاهرة    أسامه عبدالماجد: هدية الى جبريل و(القحاتة)    "المايونيز" وراء التسمم الجماعي بأحد مطاعم الرياض    محمد وداعة يكتب: ميثاق السودان ..الاقتصاد و معاش الناس    تأهب في السعودية بسبب مرض خطير    باحث مصري: قصة موسى والبحر خاطئة والنبي إدريس هو أوزوريس    أصحاب هواتف آيفون يواجهون مشاكل مع حساب آبل    الفيلم السوداني وداعا جوليا يفتتح مهرجان مالمو للسينما في السويد    بنقرة واحدة صار بإمكانك تحويل أي نص إلى فيديو.. تعرف إلى Vidu    كيف يُسهم الشخير في فقدان الأسنان؟    هنيدي ومحمد رمضان ويوسف الشريف في عزاء والدة كريم عبد العزيز    أسترازينيكا تبدأ سحب لقاح كوفيد-19 عالمياً    الصحة العالمية: نصف مستشفيات السودان خارج الخدمة    تنكُر يوقع هارباً في قبضة الشرطة بفلوريدا – صورة    معتصم اقرع: حرمة الموت وحقوق الجسد الحي    يس علي يس يكتب: السودان في قلب الإمارات..!!    يسرقان مجوهرات امرأة في وضح النهار بالتنويم المغناطيسي    بعد عام من تهجير السكان.. كيف تبدو الخرطوم؟!    العقاد والمسيح والحب    أمس حبيت راسك!    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



النيابة العامة .......... كيف يستقيم الظل والعود أعوج؟
نشر في السوداني يوم 28 - 01 - 2014


بسم الله الرحمن الرحيم
النيابة العامة .......... كيف يستقيم الظل والعود أعوج؟
عبد الدائم زمراوي - المحامي*
موضوع النيابة العامة من المواضيع التي شغلتني كثيراً وذلك بحكم دورها الخطير والمؤثر في مسار الدعوى الجنائية.
وإذ اكتب اليوم عنها أضع بين يدي ذلك جملة من المفاهيم أرجو أن نتوافق عليها قبل الولوج في لب الموضوع.
أولاً: أرجو من نفسي وممن يعنيهم الأمر أن نتداول حول هذا الشأن بكل خطورته وآثاره العميقة على قضية العدالة بتجرد تام، غير مدفوعين بأي رغبات شخصية أو عصبية مهنية، ولنضع نصب أعيننا قول الحق عز وجل" وَاتَّقُواْ يَوْمًا تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ مَّا كَسَبَتْ وَهُمْ لاَ يُظْلَمُونَ ". سورة البقرة الآية (281).
ثانياً: أتمنى من كل قلبي ألا تكون مناسبة الحديث عن هذا الموضوع الهام فرصة لاستدعاء أي صراعات تاريخية بين المدرستين القانونيتين اللتين تعاركتا ردحاً من الزمان في نظامنا القانوني، وأقصد تحديداً المدرسة الأنجلوسكسونية والأخرى اللاتينية، وإنما يكون هدفنا التقييم العادل واقتراح ما هو أنفع لشعبنا وأمتنا في هذا المجال.
ثالثاً: ألتمس صادقاً أن ينصب تقييمنا على النظام القانوني وأعني به "النيابة العمومية" من حيث جدواه وفاعليته ومدى ما حققه من إيجابيات أو سلبيات، وألا تكون هذه السانحة فرصة لتصفية خصومات شخصية مع بعض الذين أداروا هذا المرفق الهام طيلة الفترات السابقة.
طبعاً أدرك أن البعض قد يتساءل تعجباً ما الذي دعى كاتب المقال لإثارة هذا الأمر الآن وقد كان في موضع المسئولية من قبل ولم نسمع له قولاً أو نرى له فعلاً تجاه هذا الأمر.
لهؤلاء أقول أرجو أن تصبروا علي قليلاً، فسأجيب عما يعتمل في صدور البعض في ثنايا حديثي، ولا أود أن أستهل هذا الأمر بالحديث عما فعلت أو تركت وأحبذ أن يأتي ذلك في سياق الحديث عن تطورات الوقائع الموضوعية والزمنية.
وحتى نشرك معنا شعبنا الكريم بحسبان أنه صاحب المصلحة الحقيقية في هذا الموضوع فسأبتعد عن استخدام المصطلحات العصية على فهم العامة او الدخول في متاهات جدال قانوني قد يصعب على الجمهور مجاراته، ولذلك ألتمس العذر من إخوتي في المهنة إن جنحت عباراتي للتبسيط ولم تتقيد بالضوابط الصارمة التي يشتهر بها أهل مهنة القانون.
أبدأ القول إن"النيابة العامة" يُقصد بها الجهة التي تمثل الدولة في الادعاء العام، أي الجهة التي تُمثل الدولة في القيام او الإشراف على كل الإجراءات المتعلقة بالدعوى الجنائية قبل إحالتها للمحكمة، وهي بذلك تشمل إجراءات قبول الشكوى أو البلاغ، وإجراء التحريات وجمع الاستدلالات وإصدار أوامر القبض والتفتيش وإجمالاً كل ما يتطلبه استكمال الدعوى الجنائية.
حتى نصل لوضعنا الراهن موضوع النقاش أحسب أنه من الأوفق أن أُعطي فكرة عن التطور التاريخي لهذا الأمر في بلادنا، كيف كان العمل سابقاً، وما هي المفاهيم والأُسس التي كانت تحكم الوضع آنذاك، ومتى تغير ذلك الوضع للعمل بفكرة "النيابة العامة " وما هي المساقات التي حدث فيها هذا التغيير.
لكن لا بد من التوضيح أنني سأقصر حديثي على قانون الإجراءات الجنائية بحسبان أنه القانون الخاص الذي ينظم إجراءات الدعوى الجنائية ولن أُشير لأي قوانين أخرى ربما تكون قد وردت فيها الإشارة للنيابة العامة.
لا أود أن أغوص في مجاهل التاريخ البعيد لبلادنا، ولكني أرى أن البدء بتاريخ إعادة استعمار السودان في نهايات القرن التاسع عشر بعد سقوط دولة المهدية هو البداية الأنسب بحسبان أنه الفترة التي شهدت بدايات تدوين تراثنا القانوني المعاصر واتصالنا بالثقافة القانونية التي جلبها المستعمر.
صدر قانون تحقيق جنايات السودان الأول سنة 1899 م بأمر كتشنر ونفذ بالتدريج بمقتضى أوامر صدرت في تواريخ متفاوتة، وصار معمولاً به في كل أنحاء السودان منذ فبراير 1907 م. ودون الدخول في تفاصيل كثيرة يمكن القول إجمالاً إن نصوص ذلك القانون قد أوكلت للشرطة القيام بإجراء التحريات تحت الإشراف القضائي.
استمر العمل بهذا التشريع لحين صدور قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1925م، وبموجب هذا القانون استمر العمل على ذات النهج السابق، حيث أناط القانون بالشرطة القيام بإجراءات التحري تحت الإشراف القضائي.
ولكن حدث تطور جديد في مسيرة إجراءات الدعوى الجنائية وذلك في عام 1940م، إذ صدر الأمر التشريعي رقم 5 لسنة 1940م وبموجبه تم إدخال المادة 231(أ) والتي تمنح سلطة وقف الدعوى الجنائية. وقد وُضعت هذه السلطة في مبتدأ الأمر بيد المحامي العام ADVOCATE GENERAL ثم جاءت التعديلات التشريعية لاحقاً لتضعها في يد النائب العام. ويُعزى ذلك لأنه حتى ذلك الوقت لم توجد وزارة عدل مستقرة.
وقد مُنحت السلطة للنائب العام وفقاً لما جرى عليه العمل في انجلترا. وعندما أُعيد تنظيم وزارة العدل بالقانون رقم 78 لسنة 1969م وأُنشئت وظيفة وكيل وزارة العدل أسندت جميع سلطات النائب العام والمحامي العام والمستشار العام إلى وكيل الوزارة وذلك بموجب المادة "4" من ذلك القانون، ومنحه القانون سلطة تفويض سلطاته لأي من نوابه الثلاثة المشار اليهم آنفاً او لمن يقوم بأعبائهم.
إذن لم يُحدث قانون الإجراءات الجنائية لسنة1925م أي تعديل فيما يتعلق بالجهة التي تباشر إجراءات التحري وهي الشرطة او الجهة التي تشرف على ذلك وهي القضاء.
ثم صدر القانون رقم 65 لسنة 1974م والمُسمى قانون الإجراءات الجنائية لسنة1974م وقد صدر في الأول من اكتوبر سنة 1974، يمكن القول إن قانون 1974 م قد تَبِعْ قانون 1925م حذو النعل بالنعل كما يقول المثل، إلا أن حكماً جديداً قد أطل برأسه هذه المرة، ونعني بذلك ما ورد في المادة "122"(ه) والتي حملت عنوان" سلطة النائب العام في التحري". وجملة ما ورد في تلك المادة بفقراتها الثلاث أنها أجازت للنائب العام إجراء التحريات وتكليف من يراه مناسباً للقيام بذلك – عدا القضاة – ومنع أي جهة من إجراء تحرٍ إذا تولى النائب العام الأمر. إلا أن ذات المادة عادت ومنحت الشخص الذي يكلفه النائب العام بإجراء التحريات سلطة رجل الشرطة الذي يتحرى في أي قضية، وهذا يعني أن سلطة الإشراف القضائي على التحريات لا تزال كما جرى بها العمل سابقاً.
التعديل الآخر الذي أدخله قانون1974م كان في المادة 231(أ) حيث أعاد السلطة – سلطة وقف إجراءات الدعوى الجنائية – للنائب العام بدلاً عن وكيل وزارة العدل الذي كانت تنص عليه ذات المادة في قانون 1925م الملغي.
ثم صدر قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1983م، ولأول مرة ترد في ذلك القانون عبارة "وكيل النيابة" ورغم ورود تلك العبارة في نصوص القانون إلا أنه لم يُحدث تغييراً جوهرياً فيما سبق من أحكام بموجب القوانين التي أُلغيت. ظل قضاة الجنايات من بيدهم سلطة اتخاذ القرار في مرحلة إجراءات ما قبل المحاكمة.
وإذا ألقينا نظرة على المواد 120(1) و121(1) و 122 و123 و132 و133(1) و135(1) و136(2) من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1983م، نجد أنها تشير الى أن إجراءات التحري يمكن أن تتولاها الشرطة أو وكيل النيابة وفي كلا الحالتين فإنه يتوجب عليهما عرض يومية التحري على القاضي لأخذ تعليماته بشأن سير الإجراءات. أما إنهاء التحري دون أن تعقبه محاكمة أو إنهاء التحري بالمحاكمة كل ذلك من سلطات قاضي الجنايات.
وأحسب أن قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1983 م وإن أورد لأول مرة عبارة "وكيل النيابة" إلا أنه لم يخصه بسلطات أثناء قيامه بإجراء التحريات عدا ما نُص عليه في المادة 120(1) والتي تمنح وكيل النيابة سلطة رفض قبول البلاغ متى ما اقتنع أنه لا يحقق مصلحة عامة، لكن ذات المادة ألزمت وكيل النيابة بإخطار المُبلغ بأن له حق الشكوى الى قاضٍ.
طبعاً أبقى قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1983م في المادة 138(1) على سلطة النائب العام في تولي التحري بذات الضوابط التي سبق وأن ناقشناها عند تناولنا للمادة 122(ه) من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1974م .
عليه وتأسيساً على ما سبق ذكره يمكننا القول إنه وطيلة الفترة من عام 1898م تاريخ صدور قانون جنايات السودان وحتى عام 1991م تاريخ صدور قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1991م، طيلة هذه الفترة والتي تقارب المائة عام، ظل القضاء – ممثلاً في قضاة الجنايات – مشرفاً وموجهاً ومُصْدِراً للقرارت التي تتعلق بإجراءات فتح الدعوى الجنائية والتحري فيها عدا قرار - وقف الدعوى الجنائية الذي يختص به النائب العام.
في اعتقادي أن هذا الاستمرار لما يقارب القرن من الزمان، قد أرسى خبرة قانونية واسعة لدى الشرطة والقضاة، وظلت السوابق القضائية التي تصدر أثناء تطبيق نصوص القوانين الإجرائية شارحة ومفسرة لموادها تخلق تجانساً ووحدة في الفهم عبر مناطق البلاد المختلفة. كما أن إحساس الجميع أن جهة مستقلة – هي القضاء – تراقب وتدقق في إجراءات الدعوى الجنائية قد وَّلد شعوراً بالإطمئنان والثقة.
كما أن وجود العديد من شاغلي الوظائف القيادية في القضاء ووزارة العدل آنذاك ممن لهم ارتباط دراسة وممارسة بالنظام الانجلو سكسوني، قد ساعد في استمرار ذلك النظام. ومما يعضد هذه النظرة المصير الذي آل إليه القانون المدني لسنة 1971م والذي أُلغي بعد ما يقارب الستة أشهر فقط من صدوره. ومعلوم أن القانون المدني الملغي كان قد ترسم خطى المدرسة اللاتينية فأوردته تلك الخطى مورد التهلكة والبوار.
بصدور قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1991م بدأنا صفحة جديدة مغايرة تماماً لما ألِفناه خلال القرن الذي انصرم. ولكن وقبل الدخول في تفاصيل الوضع الجديد يجدر بنا أن نُلقي التفاتة قصيرة نحو الظروف والملابسات التي صاحبت مولد ذلك القانون.
ما يهمني في هذا الأمر الطريقة التي صدر به قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1991م. من البديهيات أنك عندما تريد استبدال بناءٍ قانوني ظل يعمل لما يقارب المائة عام لابد أن تُهيأ البنيات الأساسية والسبل الكفيلة ليس بإبقاء المولود الجديد حياً، وإنما قادراً على النمو وفاعلاً ومن ثم متميزاً ومعطاءً. لكن للأسف الشديد لم تُهيأ تلك الظروف ولذلك عندما صدر القانون وأنشأ النيابة العامة ومنحها الصلاحيات لم تجد النيابات دُوراً تباشر منها مهامها ولا معينات عمل تعينيها في إنفاذ المهام التي أنيطت بها. بل أُصدقكم القول إنني عندما عُينت وكيلاً لوزارة العدل في عام 2002م - أي بعد أحد عشر عاماً من صدور قانون الإجراءات الجنائية لسنة1991م - وجدتُ النيابات لا تزال تعاني أشد المعاناة من قضايا المقرات ومعينات العمل وانعدام الميزانية، وهذا أمر ظل يلازمها حتى يومنا هذا وإن كان بدرجة أقل، ولذلك ينبغي على أي تقييم عادل لدورها أن يأخذ ذلك في الاعتبار.
منهج "الصدمة المفاجئة" كما أُسميه الذي أُرتكز عليه عند إصدار قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1991م هو ذات المنهج الذي استخدم في عام 1994م عند البدء في إنشاء الحكم الاتحادي، وقد تنبهت لذلك من واقع عضويتي لبعض اللجان التي عالجت قضايا ومشاكل الحكم الاتحادي، وكان البائن للعيان ان الامر لم يتم وفق منهج مدروس ورؤية كلية تستصحب معها الواقع والظروف الاقتصادية والسياسية والمآلات التي ربما ينتهي اليها الامر في آخر المطاف، واحسب ان واقع الحال في كلا الأمرين لا يترك لنا إلا استخلاص الدروس والعبر.
عوداً على بدء فقد صدر قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1991م وجعل النيابة العامة قيماً على كافة اجراءات ما قبل المحاكمة فيما عدا استثناءات قليلة تمثلت في التفتيش العام وتدوين الاعتراف القضائي وتجديد حبس المتهم لأكثر من ثلاثة أيام فظل ذلك بيد القضاء. بانتهاء العام 2013 تكون قد مضت اثنتان وعشرون عاماً منذ ان بدأنا العمل بنظام "النيابة العامة" بوضعه الجديد، وهي فترة أحسب أنها كافية لإجراء مراجعة واقعية وأمينة نتلمس منها مواطن القوة والضعف فنسعى لتدعيم الأولى ونجتهد لسد مظان الثانية ابتغاء لكمال ننشده في محراب العدالة.
سأبدأ من هنا تقييمي – العادل والأمين – بإذن الله لتجربة النيابة العامة وسوف يرد في ثنايا ذلك ما قمت به أثناء عملي كوكيل لوزارة العدل.
عندما صدر قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1991م كنت أعمل بمحكمة القاضي المقيم ريفي ود حامد وكانت محكمة تتناول كل الدعاوي المدنية/ الجنائية/ الشرعية، ولما لم يكن هنالك وكيل للنيابة بالمنطقة فقد واصلت مباشرة ذات الصلاحيات التي كنت أباشرها من قبل فيما يتعلق بإجراءات ما قبل المحاكمة في الدعوى الجنائية. ثم نُقلت في العام 1992م لمحكمة اختلاسات المال العام، وقد كان العمل محدداً بحكم طبيعة عمل المحكمة مع القضايا الواردة إليها من نيابة حماية المال العام. ومن ثم نُقلت قاضياً للطعون الإدارية برئاسة الجهاز القضائي لولاية الخرطوم آنذاك وأخيراً استقر بي المقام رئيساً للمكتب التنفيذي لمكتب السيد رئيس القضاء.
أوردت ذلك كله ليس حباً وولعاً بسيرتي الذاتية ولكن لكي أقول إنه لم تتح لي الفرصة على المستوى الشخصي للعمل المباشر مع النيابة العامة قبل العام 2002م تاريخ انتدابي لوزارة العدل.
أما انتدابي لوزارة العدل من القضاء فتلك قصة أرى أنه قد آن الأوان لتكن معلومة حتى يعلم من يتكالبون على المناصب اليوم أن الأمر كله بيد الله، وكما قال المرحوم الأستاذ/ أحمد سليمان في عنوان كتابه "مشيناها خطى ومن كُتبت عليه خطىً مشاها" في يناير من عام 2002م كنت في لندن ضمن وفد قضائي في زيارة استجابة لدعوة من القضاء البريطاني، في 26 يناير اتصل عليّ مكتب السيد رئيس القضاء وأخبرني أن رئيس القضاء يود التحدث إليَّ. أخبرني رئيس القضاء السابق – متعه الله بالصحة والعافية – أنه صدر قرار جمهوري بانتدابي للعمل كوكيل لوزارة العدل، أبديت للسيد رئيس القضاء عدم رغبتي في تغيير مسار عملي القضائي، أصر السيد رئيس القضاء السابق على ضرورة قبولي الأمر الواقع وعدم إدخال السلطة القضائية التي رشحتني في حرج. قبلت بالأمر الواقع وإن كان في قرارة نفسي – وقتها – شيء من حتى كما يقول المثل.
باشرت مهامي كوكيل في فبراير من العام 2002م ووجدت من ضمن مهامي – وفقاً للائحة عمل النيابات – النظر في الطعون المقدمة ضد القرارات الصادرة من المدعي العام، هذا إضافة لسلطة الفحص المنصوص عليها في المادة 55 (4) من قانون الإجراءات الجنائية لسنة 1991م. وحسب اللائحة المشار إليها آنفاً فإن قرار الوكيل يُستأنف لدى السيد وزير العدل.
بدأت أباشر مهامي في النظر في قرارات المدعي العام وبدأت تنمو لدي بعض الملاحظات:-
- أول تلك الملاحظات: رأيت أن الدعوى الجنائية ومنذ بداية فتح إجراءاتها ومن ثم الاستئنافات لدى مختلف درجات وكلاء النيابة العامة ومن ثم المدعي العام وأخيراً مرحلة الوكيل، هذه الإجراءات ربما تستغرق العام وبعضها قد يزيد عن ذلك كثيراً. أما إن ذهبت الدعوى الجنائية للوزير فربما تجاوز العام إلى عامين أو أكثر.
- ثاني الملاحظات: التي خرجت بها أن هنالك سوء استغلال لهذه الدرجات الاستئنافية المتعددة من قبل المتقاضين أو بعض المحامين وذلك بقصد تأخير الدعوى الجنائية لأطول فترة ممكنة حتى يُضطر الشاكي تحت وطأة ذلك الانتظار الممل أن يستجيب لعرض الصلح أو أن يترك الدعوى كلية.
- ثالث الملاحظات: أن كل المطلوب في هذه المرحلة هو التأكد من توفر "البينة المبدئية" فقط ومن ثم الدفع بالدعوى للفصل فيها أمام القضاء، وهذا في اعتقادي لا يحتاج لكل هذه السلسلة من الاستئنافات والتطويل المميت.
- رابع الملاحظات: أنه وفي بعض القضايا خاصة تلك الواردة من نيابتي – أمن الدولة وحماية المال العام – كنت أجد بعض الإجراءات التي استغرب كيفية اتخاذها وما هو سندها القانوني، وبعد التحري والتقصي أصل لقناعة أن توجيهاً ما قد صدر لوكيل النيابة لاتخاذ ذلك الإجراء دون أن يكون ذلك التوجيه مكتوباً أو مسبباً من ناحية قانونية.
ظللت لفترة عشرة أشهر أجمع تلك الملاحظات وأدونها، وأخيراً وفي نهاية ذات العام الذي بدأت فيه العمل، أقصد العام 2002م حملت ملاحظاتي تلك وقابلت قيادة الوزارة. كانت خلاصة ما توصلت إليه من تلك الملاحظات أنها تطرح أمرين:-
- أولهما:- إن هذه السلسلة من الاستئنافات مضرة بالفصل الناجز في الدعوى الجنائية وينبغي اتخاذ ما يلزم لاستبعادها.
- ثانيهما:- ضرورة خروج (الوزير والوكيل) معاً من العمل الجنائي لأنهما في اعتقادي وبطبيعة عملهما غير محايدين أو على الأقل مشكوك في استقلالهما، لأنهما يرتبطان بعلاقات رأسية وأفقية مع الجهاز التنفيذي وهذا قد يشوش على كثير من المتقاضين خاصة إذا كان أحد طرفي الدعوى الجهاز التنفيذي أو أحد المتنفذين فيه. إضافة لذلك فإن منصب الوزير هو منصب سياسي بامتياز وهو في أغلب الأحيان يمثل حزباً سياسياً وبالتالي فإن حياديته في الدعوى الجنائية مشكوك فيها وإن كان في نفسه عادلاً وأميناً.
بعد نقاش مستفيض لم تنل تلك الآراء قبولاً لدى قيادة الوزارة، وعملاً بقول الإمام الشافعي رضي الله عنه: "رأيي صواب يحتمل الخطأ ورأي غيري خطأ يحتمل الصواب" تمسكت بموقفي خاصة وأنني بنيت ذلك الموقف على أدلة عملية عكفت على جمعها عشرة أشهر، فلم تكن فرضيات أو وساوس حدثتني بها نفسي.
تمسكت بموقفي ورأيت إما أن يتم تعديل اللائحة وأُبعد تماماً من دائرة العمل الجنائي فلا يَعد ليَّ به صلة أو أن أترك العمل بالوزارة وأعود للقضائية.
على كل تمَّ الأخذ بالخيار الأول فعُدلت اللائحة وصار الاستئناف ضد قرار المدعي العام يذهب مباشرة للوزير ولم يُعد لي – كوكيل – أي صلة بالعمل الجنائي.
رغم ابتعادي عن العمل الجنائي منذ يناير 2003م وحتى استقالتي في عام 2011م إلاَّ أن المواقف والأحداث التي شهدتها خلال تلك الفترة لم تزد قناعتي بعيوب هذا النظام الإجرائي إلاّ صلابة وتماسكاً.
ثم جاء العام 2010م وفيه عُقد الاجتماع الأول لرؤساء النيابات العامة على مستوى السودان، وأثير فيه موضوع استقلال النيابة العامة، وقد دفعت بكل قوة هذا التيار حتى نجحنا في إصدار توصية جاءت في مقدمة توصيات ذلك الاجتماع وكانت تنص على ما يلي: "ضرورة إصدار تشريع يضمن استقلال النيابة العامة".
صدرت تلك التوصية في العام 2010م ونحن الآن في بدايات العام 2014م ولم تر تلك التوصية النور ولا أحسب أنها ستراه ما لم تكن هنالك إرادة سياسية في ذلك الاتجاه.
رغم كل ذلك وحتى لا أغمط الرجال حقها فإني أشهد للوزير الحالي – الأخ دوسة – أنه بذل جهداً كبيراً في توفير تمويل لإنشاء وتطوير دُور النيابة العامة ومدها بمعينات العمل، بل بذل جهداً غير مسبوق في رفع مقدار ميزانية وزارة العدل حتى تجابه المسؤوليات المناطة بها.
عليه ومن واقع تجربتي الطويلة في العمل في القضاء ووزارة العدل والمحاماة فإني ألتمس من هذا المقال خلق رأي عام يدعو لإعادة النظر في عيبين أساسيين يرتبطان بنظام النيابة العامة الساري الآن وهما:-
(1) عدم استقلالية جهاز النيابة وخضوعه لوزير العدل بحسبانه صاحب القرار النهائي في الدعوى الجنائية. وحسب علمي فإن الأنظمة التي تطبق نظام النيابة العمومية تجعل القرار النهائي في الدعوى الجنائية في يد النائب العام وهو منصب مستقل عن وزير العدل، ولا أدري من أين جئنا ببدعة دمج النائب العام في وزير العدل.
وزير العدل لا يصلح أن يكون قيماً على الدعوى الجنائية لأنه يشغل منصباً سياسياً، وتدخل السياسة في الدعوى الجنائية بأي صفة يُفسدها.
لذلك لا بد من إبعاد وزير العدل عن الدعوى الجنائية، بل إنني أرى أن النظام الأمثل والذي يخلق الاطمئنان في نفوس المتقاضين أن تكون النيابة العامة جهازاً مستقلاً لا علاقة له بوزارة العدل. لأننا وفي الواقع العملي حتى الآن – ورغم صدور التعليمات بمنع ذلك – نجد وكيل النيابة مستشاراً لجهة حكومية، وربما نجد ذات الجهة الحكومية طرفاً في الدعوى الجنائية أمام وكيل النيابة الذي هو مستشارها، فكيف يطمئن الطرف الآخر وهو يعلم تلك الواقعة. فسداً لأبواب الشبهات علينا ابتداع نظام يكون فيه وكيل النيابة قاضياً للتحقيق ومشرفاً على إجراءات ما قبل المحاكمة.
إن أمر الاستقلال أمر جوهري ومؤثر، ولا يمكن الفصل بين إجراءات ما قبل المحاكمة وإجراءات المحاكمه ذاتها، فهما أمران متصلان يتأثر الثاني بالأول بصورة لا تدعو مجالاً لأي شك.
ولقد راعني حقيقة الفارق المهول بين وضع القضاء ووضع النيابة في الدستور.
فبشأن القضاء نصت المادة 123 (2) من الدستور الانتقالي لسنة 2005م على ما يلي: (تكون السلطة القضائية مستقلة عن الهيئة التشريعية والسلطة التنفيذية ولها الاستقلال المالي والإداري اللازم).
هذا هو الاستقلال المؤسسي فماذا بشأن الأفراد.
لقد نصت الماده 128 (1) من الدستور على الآتي:-
"القضاة مستقلون في أداء واجباتهم ولهم الولاية القضائية الكاملة فيما يلي اختصاصاتهم ولا يجوز التأثير عليهم في أحكامهم".
أما عند الحديث عن النيابة العامة فقد أوردت المادة 133 (1) من الدستور ما يلي: " تتبع لوزير العدل النيابات العامة ..."
ولم يرد أي ذكر في الدستور لاستقلال وكلاء النيابة كما هو الشأن في حالة القضاة.
طبعاً أعلم أنه لا يمكن أن يرد ذلك لأن الفقرة الأولى قد قضت بتبعتهم لوزير العدل الذي هو جزء من السلطة التنفيذية.
ولذلك أقول وبصدق شديد أنك لا تشعر بمسألة الاستقلالية هذه عند التعامل مع النيابة، فالتوجيهات والتدخلات أمر معلوم، طبعاً هذا لا يقدح في كفاءة وأمانة وجدية بل وشجاعة كثير من وكلاء النيابة وإصرارهم على إنفاذ ما يرونه حقاً. لكنني علمت من واقع المعايشة اليومية مقدار الضغط النفسي الذي يتعرضون له في سبيل ذلك.
فعلى سبيل المثال يمكن لوكيل النيابة الأعلى أن يوجه من هو أدنى باتخاذ إجراء معين رغم عدم قناعة المأمور بذلك.
طبعاً الأصح أن يُترك الأدنى يتخذ قراره بالأسباب التي يراها ومن ثم يتدخل الأعلى إما عن طريق الاستئناف من أصحاب الشأن أو سلطة الفحص. طبعاً هذا يثير مسألة الاختصاص النوعي أو القيمي لوكيل النيابة حسب درجته وهو أمر لم يُشر له القانون أو يتيح للائحة أن تنظمه.
ربما يقول البعض لم لا نعود للوضع القديم من إشراف القضاة على إجراءات ما قبل المحاكمة. أنا على كل ليس من أنصار هذه الدعوى لسببين:
- أولاً: إشراف القاضي على الدعوى الجنائية في مراحلها الأولى لا بد وأن يترك أثراً ما على عقيدة القاضي عند بدء إجراءات المحاكمة، فيكون القاضي بذلك قد كون رأياً مسبقاً في الدعوى الجنائية وهو ما لا يجوز.
- ثانياً: كِبر حجم العمل الآن لا يتيح للقاضي القيام بالمهمتين معاً، أذكر أننا وفي عام 1988م وكنا قضاة بمحكمة جنايات أم بدة كان حجم العرائض اليومي في حدود 70 عريضة وبعد الفراغ منها ندخل في نظر "المعلومية" وقبل ذلك كله زيارة الحراسات صباحاً للتأكد من أن كل الموقوفين لديهم إجراءات قانونية صحيحة، ونفرغ من كل ذلك عند الساعة الحادية عشرة بعد ثلاث ساعات من العمل المتواصل، ثم نتهيأ لنبدأ جلسات المحاكمات.
فما بالك ونحن اليوم في العام 2014م وقد اكتظت العاصمة وبقية المدن عامة بالسكان وتضاعف حجم العمل الجنائي، فلا أحسب أن في مقدور القضاة القيام بذلك.
(2) إضافة للعمل على استقلال النيابة لا بد كذلك من تقليل درجات الاستئناف إلى أدنى حد، فلا يعقل في مرحلة كل المطلوب فيها التأكد من توفر (البينة المبدئية) أن تتعدد فيها الدرجات حتى يستغرق الفصل في الاستئناف عاماً أو يزيد.
المطلوب الآن إصدار تشريع يُنشأ ديواناً للنائب العام، يكون بموجبه للديوان شخصية وذمة مالية مستقلة، ويكون النائب العام هو المسئول الأول عن الديوان وصاحب القرار النهائي في الدعوى الجنائية ويتبع له وكلاء النيابة، ومن ثم يحدد القانون درجات وكلاء النيابة واختصاصاتهم ودرجات الاستنئاف مراعين في ذلك ما استقيناه من تجربة اثنين وعشرين عاماً من العمل بنظام النيابة العامة.
وحتى لا تكون صيحتي هذه كصيحة في وادٍ غير ذي ذرع تحملها الرياح فيتلاشى صداها دون مجيب، أوجه دعوتي للقيادة السياسية خاصة وأنها قد أعلمتنا أنها قد بدأت سياسات التغيير ليس للأشخاص فحسب وإنما للسياسات كذلك. وأحسب أن أهم سياسة ينبغي أن تُغير هو الوضع المؤسسي للنيابة.
دعونا نحلم بنيابة مستقلة كالقضاء تماماً، تأخذ بيد الدعوى الجنائية تنأى بها عن استغلال الإجراءات وتطويل آماد التقاضي وتحول بينها وبين استغلال السلطات للتأثير على سيرها.
إن إجراءات ما قبل المحاكمة تتم – لطبيعتها – من وراء جُدر فدعونا نجعل لتلك الجُدر عيوناً وآذاناً تتربص بالساعين بالظلم فتحول بينهم وبين إجراءات الدعوى الجنائية، ولن يتم ذلك إلاً باستقلال النيابة العامة.
مأساتنا أننا حتى عندما نستورد النظم لا نستورد تلك "الأصلية" وإنما نستورد النظم "التجارية" المضروبة.
بالله دلوني على نظام نيابة عامة في الدولة المجاورة لنا في أقصى الشمال أو في مواطنها الأصلية، يجعل القرار الفني النهائي في مصير الدعوى الجنائية بيد وزير العدل لا معقب لحكمه، وهو رجل سياسي بامتياز.
وأرى بصيص أمل في المجلس الوطني في ظل رئاسته الجديدة. فآمل أن يُعطي هذا الأمر بعض اهتماماته لأنه مرتبط بقضية العدالة.
ويحدوني أمل كبير في نقابة المحامين في عهدها الجديد أن تلعب دوراً مناطاً بها كقضاء واقف وأن يكون لها جهد واضح في هذا الشأن.
إن إجراءات ما قبل المحاكمة ليست بالمهمة السهلة فهي مرتبطة بحريات الناس وأموالهم وحرماتهم ولعلني لا أعدو الحقيقة حين أقول إن ما تخلص إليه المحكمة في قرارها النهائي هو نتاج طبيعي لما نسجته يد النيابة العامة في ثوب الدعوى الجنائية.
وأختم بقول الحق عز وجل
"يَا دَاوُودُ إِنَّا جَعَلْنَاكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُم بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَلَا تَتَّبِعِ الْهَوَى فَيُضِلَّكَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَن سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذَابٌ شَدِيدٌ بِمَا نَسُوا يَوْمَ الْحِسَابِ"
سورة ص الآية (26)
قاضي محكمة الاستئناف الأسبق
وكيل وزارة العدل السابق


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.