في منتصف التسعينيات كان الاستعدادات تجري على قدم وساق لانتخابات المحامين وكانت قائمة التحالف بقيادة الاستاذ غازي سليمان، تستعد للإطاحة بقائمة الاستاذ فتحي خليل (رحمه الله) المدعومة من النظام الحاكم، وفي حال كل انتخابات للمحامين يعتبرها البعض بروفة قوية لاسقاط النظام ديمقراطيا، وتمرين ساخن لأي انتخابات تجري بعدها، وكانت كل قائمة من القوائم المتنافسة تحشد كل ما لديها من وسائل مشروعة من اجل الفوز بالنقابة ، وكانت الصحافة والاعلام واحدة من الوسائل المستخدمة في المعركة دائرة بين قائمة الوطنية وقائمة التحالف، وكان في ذلك الوقت قلم الاستاذ اسحق أحمد فضل الله يتحسس الطريق للانتقال من الادب والثقافة الى دروب السياسة الوعرة، وكان قد كتب في عموده (آخر الليل) اثناء معركة المحامين في انتخابات النقابة في ذلك العام، أن قائمة التحالف تلقت اكثر من مائتي ألف دولار من الخارج لحسم معركة الانتخابات لصالح تلك القائمة، التي تنافس القائمة الوطنية الني يدعمها اسحق بقلمه. وتحمل إشارات اسحق الكثير من الاسئلة حول قائمة التحالف المدعومة من الخارج وبهذا المبلغ الكبير في ذلك الوقت وهذا الامر دعا كثيرا من المحامين الذين لديهم قناعة ببرنامج التحالف للتراجع عن دعم تلك القائمة، إن كان في الامر شبه الاستعانة بالخارج وكان هذا الامر لا يجد القبول بصفة عامة من أهل السودان فضلا عن اهل القانون من المحامين . ذهبت الى مكتب الاستاذ غازي سليمان في ذلك الوقت في عمارة الهلالي شمال برج البركة وسط الخرطوم وحملت معي الصحيفة واتهام اسحق لقائمة التحالف التي يتزعمها الاستاذ غازي سليمان وبادرته "ما رأيك في هذا الإتهام بأن القائمة تلقت دعما ماديا من الخارج من أجل اسقاط القائمة الموالية للحكومة؟ ، ومارأيك فيما كتبه الاخ اسحق فضل الله في هذا الامر؟، وكنت اتوقع أن يهيج الاستاذ غازي في وجهي او يكيل السباب للصحيفة التي كنت اعمل فيها ويكتب فيها اسحق ، ولكن بكل هدوء وبنبرات واضحة وهو يعلم في نفسه أن هذا الاتهام وغيره من وسائل المعركة ،وقال (ياخي انا لا ارد على زول جبهة موديل 89 ) وهو يشير الى اسحق وغيره من الذين لم تكن لهم اسماء لامعة في الحركة الاسلامية قبل وصولهم الى الحكم في عام 1989م واعتبر اسحق ومن مثله هم جبهة موديل 89م وليس من الذين عرفتهم دروب العمل الاسلامي إن كان في شقه السياسي او التنظيمي، وكأن الاستاذ غازي وقتها يشير إلى أن للسلطة بريقا قد يجمع كثيرا من الدخلاء وان كان لا يشير الى اسحق بعينه ، وقد بدأ الامر واضحا عندما تجاوز نظام الانقاذ تلك الشائعة التي انطلقت في ذلك الوقت بأن النظام الجديد سينهار خلال شهرين او ثلاثة شهور من قيامه كحد اقصى، وعندما ثبت النظام أركانه تدافع اليه اهل المصالح والاجندات الخاصة والانتهازيون وغيرهم ووجدوا في المفاصلة التي حدثت بين الاسلاميين في عام 1999م فرصة لملء الفراغ الذي حدث بخروج مجموعة كبيرة من الاسلاميين من الحكومة منهم من كون حزبا ومنهم من التزم الرصيف او الابتعاد الهادئ ، وكأن غازي يقول انه سيكون في كل عام ميلاد لجبهة جديد على طريقة موديل 89 ، وربما كان توقعه في محله وقد أشار د.أمين حسن عمر الى هذا الامر في احد لقاءاته الصحفية . كان ذلك اللقاء اول لقاء مباشر مع الاستاذ غازي سليمان الذي بدأ اسمه يلمع سياسيا وهو يتصدر تلك القائمة في انتخابات المحامين ويحدث زحما كبيرا في تلك الانتخابات، وبدأ اسمه يلمع قانونيا وهو يقف منافحا في كل قضية رأي وحرية سياسية وقضايا الاعتقال بأشكاله المختلفة ، وهو يمثل الدفاع إن كان فردا او رئيسا لمجموعة من المحامين، وأخذ اسمه يتردد في وسائل الاعلام الخارجية كل ما استدعته السلطات للتحقيق في كثير من الموضوعات التي يثيرها، وكان دائما ما يكون ضيفا على جهاز الامن بسبب تلك المواقف والانشطة السياسية، ولعلي اذكر ذلك التصريح الذي ادلى به الاستاذ غازي بعد خروجه من مباني جهاز الامن الوطني وكان قد مكث معهم لاكثر من يومين وهذا التصريح لا يخرج الا من رجل مثل غازي سليمان، عندما قال إن معاملة جهاز الامن كانت غاية في الرقي والحضارة و معاملتهم انسانية، وكان هذا التصريح محل اندهاش الجميع حتى من الاسلاميين انفسهم. وقال الاستاذ حسين خوجلي في صحيفته الوان في ذلك الوقت إن الاستاذ غازي سليمان قد تحول الى ضابط (علاقات عامة ) في جهاز الامن الوطني وهو يكيل المدح والثناء على حسن المعاملة التي تلقاها داخل مباني الجهاز. وكانت شهادة غازي في حق جهاز الامن الوطني هي شهادة صادرة من معارض سياسي يعرف طريقة تعامل الانظمة الحاكمة مع معارضيها وهو قانوني له من العلم والدراسة والخبرة والتجربة عن كيفية تطويع الانظمة للقانون والاستفادة من الثغرات للنيل من المعارضين ولكن كانت تلك الشهادة من غازي في حق جهاز الامن الوطني اكثر مصداقية، باعتبار أن غازي سياسي وقانوني جسور لا يعرف الخوف والمهادنة وكان اكثر جراءة وهو يدلي بهذا التصريح الذي ادهش حتى الاسلاميين امثال الاستاذ حسين خوجلي والذي يحاول الآن من خلال برنامجه في قناة امدرمان (مع حسين ) أن يدعو الى ما اشار اليه الاستاذ غازي سليمان قبل عشرين عاما لجعل الوطن اولا والحفاظ على وحدته واستقراره. وتصريح غازي في حق جهاز الامن كان بمثابة (شهد شاهد من أهلها ) وهي المعارضة ،لانه في ذلك الوقت كان الجهاز يتعرض لحملات من المعارضة خاصة في التعامل مع المعارضين بقسوة . وقد يكون هذا هو الفرق بين غازي وكثير من المعارضين وهو يدلي بهذه الشهادة وهو يعارض الحكومة بل ويقف في خندق آخر اكثر معارضة وينضم الى الحركة الشعبية بعد اتفاقية السلام في عام 2005م ويدخل البرلمان من هذا الباب دفاعا عن مبادئه التي آمن بها، وكان يقول رأيه بكل قوة دون أن يكترث لردود الفعل مما يقوله إن كان من الحكومة او المعارضة ، وهو بذلك يدهش الجميع عندما يقول في احد اللقاءت على شاشات إحدى الفضائيات السودانية إن الجبهة الثورية حركة متمردة ويجب التعامل معها عسكريا لا سياسيا ولا يعترف بقطاع الشمال وهو من دخل البرلمان تحت مظلة الحركة الشعبية الأب الشرعي لقطاع الشمال وهي الراعي الرسمي للجبهة الثورية بعد الانفصال ،وهو يشير في ذات اللقاء الى انه لا بديل للرئيس البشير الا الجيش وهو ما توافق مع التحليلات السياسية التي اعقبت إبعاد كبار الاسلاميين من الحكومة والمؤتمر الوطني مؤخرا أمثال علي عثمان ونافع علي نافع وعوض الجاز، وصعود نجم الفريق بكري حسن صالح لمنصب النائب الاول لرئيس الجمهورية . وبرحيل الاستاذ غازي سليمان من الدنيا تكون الساحة السياسية والقانونية قد فقدت رجلا اضاف في الساحتين اسلوبا جديدا ومختلفا وهو ما مكنه في أن يرسخ اسمه في ذاكرة الشعب السوداني رغم قصر مدة ظهوره سياسيا وإعلاميا مستفيدا من طريقته المتميزة في تناول القضايا وطرحها على طريقته الخاصة مما اكسبه هذه الشعبية الكبيرة من حب أهل السودان . اللهم أغفر له وارحمه واجعله من أهل الجنة