قلت في مقال سابق إنَّ نجاح مُختلف السياسات والإجراءات الاقتصادية التي تتبناها حكومة ما يتأثر إلى حد كبير بمستوى الثقة السياسية بين المواطنين وأفراد النخبة الوزارية ممثلين على وجه الخصوص في وزراء المجموعات الاقتصاديَّة. وأضفت أنَّ مسؤولية تعزيز الثقة تقع بالأساس على عاتق الحكومة التي يتوجب عليها التعامل مع المواطن بقدر عال من الشفافية والمصداقية, وأن تحرص على حرية تداول وإتاحة المعلومات الإيجابية والسلبية عن الأوضاع الاقتصادية. وقد كانت مناسبة ذلك الحديث هي وقوع الحكومة ممثلة في وزارة المالية وبنك السودان, وبعض وزارات القطاع الاقتصادي في فخ تضليل الرأي العام والمواطنين حول تأثير بعض القضايا السياسية والأزمات الاقتصادية على أوضاع الاقتصاد السوداني, وكان من أوضح أمثلة ذلك التضليل ما صدر عن تلك الوزارات بخصوص الأزمة المالية العالمية في 2008, و كذلك أثر انفصال الجنوب في 2011 على الاقتصاد السوداني. حيث نفت الحكومة أن تكون للأزمة آثار سالبة على الاقتصاد السوداني بحُجَّة أنَّ المقاطعة الأمريكية الاقتصادية للسودان شكلت حماية له بسبب عدم ارتباط الاقتصاد السوداني والتجارة مع الدول الغربية أو الاقتصاد الأمريكي, غير أنَّ الواقع كذَّب ذلك النفي لأنّ تلك الأزمة أدَّت لتراجع عائدات السودان المالية وتدفقات الاستثمارات الأجنبية المباشرة بحوالى 5 مليارات من الدولارات. وقبل انفصال الجنوب قال وزير المالية السابق علي محمود في مؤتمر صحفي شهير إنَّ خروج البترول من الاقتصاد السوداني لن يؤثر عليه كثيرًاً, وأنَّ وزارته قد تحسبت لذلك منذ وقت كافٍ, وطمأن الشعب السوداني أنَّ موارد الذهب وتدفقات الاستثمار ستسدُّ الفجوة التي خلفها خروج البترول. ولكن النتيجة المباشرة لخروج بترول الجنوب كانت هي ازدياد عجز الميزانية, وارتفاع معدلات التضخم لأكثر من 45% ( تضخم منفلت), والتدهور الكبير في سعر الصرف, ونفاد احتياطيات النقد الأجنبي, كما أنَّ العجز في الميزان الخارجي وصل إلى 6 مليارات من الدولارات، وهو أكبر عجز في تاريخ السودان. واليوم يُكرِّر المسؤولون في بنك السودان ذات التصريحات المجانية التي تستخفُّ بالرأي العام وتتعارض مع تصريحات حكومية أخرى صادرة عن وزارة المالية مما يؤشر إلى انعدام التنسيق بين هذه المؤسسات ويؤكد أنها تعمل كجزر معزولة, وهو الأمر الذي من شأنه أن يزيد من تدهور ثقة المواطن في كل ما يصدر عنها. أوقفت البنوك السعودية وبعض البنوك الأوروبية تعاملاتها المالية مع نظيراتها السودانية بنهاية شهر فبراير الماضي, وقد وصف وزير المالية بدر الدين محمود الخطوة (بالمؤثرة على العمليات المصرفية نسبة لحرمانها التواصل المالي عالمياً). وقال إنَّ الخطوة تقف وراءها ضغوط أمريكية مورست على تلك البنوك لإيقاف تعاملها مع السودان, وأضاف أن ( الضغوط مستمرة منذ العام 1997 ). انتهى أمَّا بنك السودان فقد أكد أن (إيقاف بعض البنوك الخارجية تعاملاتها مع البنوك السودانية يأتي في إطار الحوسبة والحوكمة لا غير), وقلل البنك وفقاً لرئيس اللجنة الاقتصادية بالبرلمان سالم الصافي حجير من (تأثير عملية الإيقاف على الاقتصاد السوداني كما أكد عدم تأثيره على البنوك والمغتربين). انتهى نحن هُنا بإزاء تصريحين متناقضين تماماً حول الأسباب والدوافع وراء قرار تلك البنوك إيقاف تعاملها مع السودان وكذلك حول مدى تأثير ذلك القرار على أداء الاقتصاد السوداني وعلى عمليات البنوك السودانية. يصف وزير المالية القرار بالمؤثر بينما ينفي بنك السودان أن يكون له أي أثر على البنوك والمغتربين فمن نصدَّق ؟ سنصدِّق عقولنا التي تقول لنا إنَّ حديث وزير المالية أقرب للحقيقة ولكنه مع ذلك حديث منقوص. نقول لبنك السودان إنَّ القرار سيؤثر تأثيراً سالباً كبيراً على أسعار الواردات, وسيفاقم من مشكلة الموارد المالية الصعبة نتيجة تراجع الصادرات وهروب رؤوس الأموال عبر تجارة العملة, وسيؤدي ذلك لارتفاع الأسعار و زيادة نسبة التضخم, إضافة لإضعاف حجم الاستثمارات المتراجعة أصلاً بل سيقود لخروج الاستثمارات الموجودة سلفاً من السوق السوداني. ما ذكرناه أعلاه يمثل معلومات أوليَّة بسيطة يعرفها كل من لديه علاقة بالتجارة والاقتصاد, بل يعرفها (راعي الضان في الخلا) والعبارة الأخيرة لا نستخدمها مجازاً بل قصدنا معناها الحقيقي باعتبار أنَّ تجارة المواشي ستكون من أكثر القطاعات تضرراً من القرار حيث تغطي الماشية السودانية 40% من احتياجات السوق السعودية. وقال رئيس اتحاد الرعاة بسوق الخوي أحمد شرحبيل في حديث ل"السوداني" إن (تداعيات ايقاف التحويلات المصرفية بين البنوك السودانية والسعودية أثرت سلباً على الطلب وخفضت من القوة الشرائية بالأسواق). من ناحية أخرى قال رئيس شعبة مستوردي الأدوية الدكتور نصر مرقص في حديث ل(الميدان) إنَّ انعكاس هذا الأمر علي قطاع الدواء سوف يكون كبيراً, وأشار إلى ضرورة حل هذه المشكلة حتى لا تتحول لكارثة. لن يقتصر الأثر السالب لهذا القرار على الدواء والماشية بل سيكون له كذلك أثرٌ بالغ في ارتفاع جميع أسعار السلع الأساسية التي يتم استيرادها من الخارج بالعملة الصعبة, ولعل القارئ الكريم يدرك أنَّ السودان – للأسف الشديد - يستورد المواد الغذائية من الخارج, من السكر والقمح والشاي ومنتجات الألبان وحتى الخضر والفواكه ( أنفق السودان في 2012 ما يزيد عن 2 مليار دولار في استيراد المواد الغذائية). قال بنك السودان إنَّ الخطوة تأتي في إطار (الحوسبة والحوكمة لا غير), وقال وزير المالية إنها (نتيجة ضغوطات أمريكية), ونقول إنَّ وزير المالية ذكر نصف الحقيقة وأنَّ تعليل بنك السودان غير قابل للتصديق. صحيح أنَّ أمريكا فرضت عقوبات اقتصادية على السودان منذ عام 1997 وهى كذلك تقوم بالضغط على العديد من الدول لإنفاذ تلك العقوبات, ولكن الصحيح أيضاً أنَّ العديد من الدول كانت تتجاهل تلك الضغوط وتواصل التعاون الاقتصادي والتبادل التجاري مع السودان و على رأسها دول الخليج العربي والسعودية. ما لم يقله وزير المالية هو ما صرَّح به مسؤول العلاقات الخارجية بحزب المؤتمر الوطني الدرديري محمد أحمد الذي أقرَّ بوجود توتر في علاقات السودان بالسعودية، وقال ( هنالك الكثير مما يتم الآن سواء كان معلناً او غير معلن لإعادة الأمور إلى نصابها ). انتهى الحديث أعلاه يوضح السبب الحقيقي الذي يقف وراء قرار البنوك السعودية, وهو يعني أنَّ المشكلة في أساسها مشكلة "سياسية" مع المملكة وليست – كما زعم بنك السودان – قضية "حوسبة وحوكمة" بنكية, أو هى قاصرة فقط على موضوع العقوبات الأمريكية ومن الأفضل مواجهة الرأي العام بحقائق الأوضاع بدلاً عن محاولات "الغتغتة" والالتفاف التي جربناها كثيراً ولم نجن من ورائها شيئاً سوى المزيد من المشكلات. تشهد العلاقات السودانية السعودية منذ فترة توتراً بسبب علاقة السودان مع جمهورية إيران, وقد تزايد ذلك التوتر على إثر استقبال السودان أكثر من مرة عدداً من السفن الحربية الإيرانية على البحر الأحمر قبالة السعودية وهو الأمر الذي قوبل بغضب سعودي مكتوم. يتوجب على صانع القرار الحكومي السوداني أن يُدرك التحولات السياسية العميقة التي تشهدها المنطقة, وهي تحولات تتفاعل وتؤدي لظهور تحالفات جديدة تلعب فيها التوجهات المذهبية دوراً كبيراً و حاسماً. في هذا الإطار بدأ تشكل محور (سني) تقوده مصر والسعودية ويضم دول الخليج (عدا قطر) والأردن, في مقابل آخر (شيعي) تقوده إيران ويُسانده العراق والنظام السوري. بات المد الإيراني يمثل تهديداً جدياً لأمن ومصالح السعودية ودول الخليج, حيث تنشط الجماعة الحوثية في اليمن وحزب الله في لبنان, وحيث أضحى النظام العراقي موالياً لإيران و من قبله النظام السوري, ومن ناحية أخرى أصبحت قطر وحماس وجماعة الإخوان المسلمين تصنف ضمن المعسكر الذي يخدم مشروع هذا الحلف الذي تقوده وتدعمه إيران. هذا التمايز في المحاور والمواقف لن يحتمل تبني سياسة "إرضاء كل الأطراف", وستجد دول المنطقة – ومن بينها السودان – نفسها في وقت من الأوقات مطالبة باتخاذ مواقف أكثر وضوحاً وحسماً تجاه التحولات الكبيرة الجارية في الإقليم. يتوجب أن تكون "المصلحة الوطنيَّة" وليس الرابط الأيديولوجي هي البوصلة التي توجِّه مسار العلاقات السودانيَّة الخارجية, وبالتالي يجب الوقوف "بوضوح" مع الدول التي تحقق مصالح السودان دون أن يعني ذلك الدخول في حالة من العداء او الخصومة مع الآخرين. إنَّ الموقف المشترك الذي اتخذته السعودية والإمارات والبحرين تجاه قطر, والقرارات التي أصدرتها المملكة بتصنيف الإخوان المسلمين تنظيماً إرهابياً, تُبيِّن المدى الذي وصلت إليه التحولات الإقليمية, وتُشير إلى أنَّ تلك الدول لن تتورَّع في اتخاذ مواقف متشدِّدة تجاه أية دولة تخدم مشروع المحور المناوئ. من الواضح أنَّ مشكلات السودان الاقتصادية الكبرى ومن ضمنها قضية العقوبات الأمريكية و قضية إعفاء الديون الخارجيَّة وتدفق الاستثمارات في جوهرها مشكلات سياسية, وبالتالي فإنَّ المدخل الأساسي لحلها لا يتمثل في وضع الخطط والبرامج الاقتصادية فقط, ولكن لا بُدَّ من وقوع تغييرات سياسية في بنية الحكم تؤدي لإيقاف الحرب و النزاعات المسلحة وتسمح بالتداول السلمي الحقيقي للسلطة وتنعكس بالتالي على السياسة الخارجية. بابكر فيصل بابكر هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته