"تحب الشخصية السودانية أن تستضيف غيرها ، فتفتح صدرها رحباً لكل من ينزل ضيفاً عليها، وربما كان هذا أحد وجوه الكرم المباشرة إذا اقتصرت الاستضافة على حاجة الضيف من الطعام والمبيت وما شابه، لكنها - أبعد من ذلك – تمتد إلى ترحيب تلك الشخصية بإطلاع الضيف على تفاصيل سلوكها الاجتماعي و سائر عاداتها، بل حماستها لحفز الضيف إلى ممارسة ذلك السلوك الاجتماعي وتلك العادات بما يخلع أثره بعدها على القبول الطاغي الذي ستمنحه تلك الشخصية للضيف إذا أفلح في اجتياز امتحان السلوك والعادات بإخلاص واندماج". الاقتباس أعلاه من كتاب "جينات سودانية"، وهو مقام أمعنت فيه النظر إلى الشخصية السودانية بما يكاد يجعل المقابل الإنجليزي لكلمة شخصية المقصودة في الكتاب هو ‘Personality” وليس “Character” ، أي أن الحديث أُريدَ له أن يبدو في جوهره كما لو كان حديثاً عن صفات "شخصية" بالمعنى الفردي للكلمة. في هذا المقام أحب أن أستدعي روح "شخصية مستضيفة"، وهو العنوان الذي لخص موضوع الاقتباس السابق في الكتاب المذكور، لأنتقل بالشخصية إلى المعنى الجمعي للأمّة فنرى كيف يفعل السودانيون مع الوافدين عليهم وأثر ذلك على السياق الحضاري للضيف والمضيف. أما ما دعاني إلى هذا الحديث فأؤثر إرجاءه إلى الفقرات الأخيرة من هذا المقال. مجدداً أجدني مضطراً إلى الاستسلام للذة (وسهولة؟) المقارنة مع المصريين رغم تحذيري من إدمان اتخاذهم مرجعاً قياسياً في كل مناسبة، ولكن هذه المرة تحديداً يبدو المصريون النموذج الأمثل ( لا تقتصر تلك المثالية على الجوانب الإيجابية بالضرورة) لمطالعة كيف تفعل أمّة بضيوفها وكيف يفعل بها أولئك الضيوف. أفادت مصر من ضيوفها ( ومن أولئك من كان من الضيافة في ثقل الغزاة) من طريقين رئيسين أوّلهما مباشر بالمصاهرة والثاني شبه مباشر بالتداخل الاجتماعي والثقافي. وربما كان ثمة طريق ثالث غير مباشر ولكن أكثر انتشاراً وتأثيراً وهو السماح للأمم المستضافة بأن تفرز ثقافاتها الخاصة في مجتمعاتها والإقبال على تلك المجتمعات للاستزادة من الثقافات المفرَزة على اختلاف أشكالها البعيدة عن ثقافة المجتمع المستضيف. في المقابل، نحن لم نسلك في السودان أيّاً من الطرق الثلاثة في التعامل مع ضيوفنا (وغزاتنا) على قلَّتهم، قياساً إلى مصر، بل كنا نجبر أولئك الضيوف على الانصياع لثقافتنا وطقوسها في الإبداع على شحّتها، فثقافتنا أصيلة على مدى تاريخها ولكن الإبداع بمعنى الجرأة على الإضافة ظل فيما يبدو منطبعاً في نفوسنا على أنه "بدعة" حتى قبل أن تأخذ الكلمة جلالها وخصوصيتها الدينية في مراحل متأخرة جداً بعد دخول الإسلام كضيف (عزيز لا ريب) أصبح لاحقاً سيد البيت. وإذا كان معلوماً أن المصاهرات بين الأعراق المتباينة مما ينمِّي القدرات بالمدلول البيولوجي الحرفي ، فإن تصاهر الثقافات مما يفعل الشيء ذاته بالمدلول الفكري حرفياً. وهكذا فإننا ضيّعنا فرصة الإفادة من الحضارات الوافدة علينا ولم نسمح بذلك إلّا نادراً وفيما يخص الثقافات شديدة القرب منا، قلباً وقالباً، وكانت الثقافات البعيدة هي الأولى بذلك في مقام تحسين النسل الثقافي. مصر المثقلة بالغزاة والضيوف على مرّ تاريخها لم تكن بحاجة ماسّة إلى استيراد رموز من أصول أجنبية وحقنها في شرايينها الثقافية والاجتماعية حديثاً لكنها فعلت، فرمزها الشعري الأرفع أحمد شوقي شركسي الأب يوناني الأم، بل إن أحد أشهر شعراء عاميّتها هو بيرم التونسي أصلاً لا لقباً فحسب، والمنفلوطي من أم تركية، و أحمد تيمور مؤلف قاموس العامية المصرية كرديّ الأب تركي الأم، ويحيى حقي أحد أعمدة الأدب المصري الحديث ينحدر من أسرة تركية أمّاً وأباً، وعلي أحمد باكثير يمني مُنِح الجنسية المصرية، أما نجيب الريحاني الذي يَضرب بروحه الفنية الكوميدية عميقاً في الشخصية المصرية فعراقي من أصول كلدانية، ويوسف شاهين أشهر المخرجين المصريين على الإطلاق من أب لبناني وأم من أصول يونانية، ومحمد خان أحد أهم مخرجيها الذين برزوا في ثمانينيات القرن الماضي لا يزال يحمل الجنسية الباكستانية، كما أن سعيد حامد الذي بعث فجراً جديداً للسينما المصرية بفيلم كوميدي أواخر القرن الماضي لا يزال يحمل الجنسية السودانية، وكلا خان وحامد يبدع بروح مصرية صميمة. ما سبق من رموز مصر من الأصول غير المصرية إنما هو على سبيل المثال العابر، فالقائمة التي تحوي تلك الفئة في العصر الحديث فقط بالغة الطول. ولكن الأثر الأعمق لدى المصريين للسماح بتغلغل الثقافات الوافدة في نسيج المجتمع كان فيما وراء أولئك الأفراد من الأفكار الجامعة والتفاصيل المتناثرة لهذه الحضارة وتلك مما حلّ ضيفاً على مصر لطفاً أو عنوةً على مرّ العصور. في السودان توجد لدينا أمثلة مشابهة ولكنها نادرة إلى حد كبير، لذا فإن أثرها يكاد لا يُرى في حياة السودانيين الذين ظلّوا يصرُّون على أن يكرموا ضيوفهم وغزاتهم – على حدّ سواء - بحفاوة سودانية صرفة جرياً على حكمة كان يردِّدها صديق قديم على سبيل الدعابة مفادها أن الضيوق لا يجب أن يقرِّروا كيفية استضافتهم. أعود إلى ما حداني إلى هذا الحديث، وهو ليس سوى العم الجليل شاندو لالي الشهير بكونه عميداً للجالية الهندية بالسودان، لكنه حقاً أكثر من ذلك، ولن أزيد فأقول إنه إلى هذا سوداني أصيل، فتلك باتت معروفة تماماً في دائرة المقربين من العم شاندو، بل أضيف أن الرجل نموذج فريد لاستيعاب الثقافة السودانية وتشرُّب روحها بصدق وتألُّق، وهي حالة ربما قصّر دونها كثير ممن ينتمون إلى مجتمعات مهاجرة من أصول عربية كان حاجز اللغة غير الموجود معهم أدنى إلى دفعهم إلى أداء أفضل مع الثقافة السودانية. ولكنني شديد الاحتفاء بكل المجتمعات الوافدة وسيرتها مع الثقافة السودانية، خاصة وأنا أضع اللوم على كواهل السودانيين لا من وفد عليهم في مسألة التقبُّل والتغلغل هذه. ولكن ما هو الأكثر فرادة في العم شاندو؟، أليس إصرارَه على ملاحقة الثقافة السودانية الشفهية والمكتوبة بالمتابعة والتعليق؟. كم كان كريماً من رجل في مثل مقامه وعمره – أمد الله فيه – أن لا يكتفي من محاولة مراسلة من هو أدنى عمراً وتجربة من أمثالي برسالة وسؤال غير موفَّقَي الوصول، ولكن من يعرف شاندو لالي يدرك أنه لا يكتفي من أحلامه إلّا ببلوغها، فهل تعجزه مسألة عابرة كإيصال ثنائه إلى رجل سعيد الحظ – بذلك الأمر – مثلي فيقعد دون بلوغ مرامه منها؟. الأهم في سيرة عمِّنا شاندو، ونحن نعاود قراءتها في هذا السياق، أننا للأسف لم نبذل أي جهد في التعامل مع مجتمع عريق وافد كالجالية الهندية سوى بالعادة السودانية الأصيلة في سودنة الاحتفاء والتقبُّل سودنة كاملة، وكان حرياً بنا أن نستلهم قدراً من أخلاق الهنود في العمل، وقبل ذلك قبساً من نور ثقافات معتبرة وفد ذووها علينا فظللنا كرماء معهم ولكن نزولاً على التعريف السوداني للاستضافة. عمرو منير دهب هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته