بسم الله الرحمن الرحيم التحكيم والغوغائية (2-2) عبدالدائم زمراوي * في مقالتي الأولى أوردت أن التحكيم ( قضاء خاص) ينشئه الطرفان بإراداتهما الحرة للفصل في النزاعات التي نشأت بينهما . وأوضحت أن أمر التحكيم في السودان تحكمه نصوص قانون التحكيم لسنة 2005م وبينت كيف أن ( الغوغائية) قد سطت بليل فأدارت الجدال والمماحكات حول التحكيم مستخدمة بعض الصحفيين الذين ( يهرفون بما لا يعلمون) وحسبوا أن الأمر مجرد ( طق حنك). في تلك الحلقة أحببت أن أسلط الضوء على بعض ( الجهالات) التي قِيلت في حق التحكيم والمحكمين ومن ثم أبسط القول المستند على القانون والفقه والسوابق القضائية. متابعة لذات المنهج الذي أشرت إليه آنفاً فسأواصل إيراد (الآراء الفطيرة) التي نبعت من نفوس ظنت – بغير حق- أنها مُنحت علم الأولين والآخرين فجالت – دون هدى أو بصيرة أو تخصص – ثم أنتجت غثاءً من القول سيذهب جفاء. قالوا إن هيئة التحكيم قد أحالت الأمر من المحكمة الجنائية وأنها بذلك رمت لحماية المتهمين، وما علموا أن الهيئة إنما تنظر فيما يكلفها به طرفا التحكيم , وأن ولايتها محصورة في ذلك فقط , وأنه لا سلطان لهيئة التحكيم على ما يجري في المحكمة الجنائية. و لأني أحترم سيادة حكم القانون واستقلال القضاء وعدم جواز التأثير عليه , فلن أتعرض بتفصيل لما أشار إليه البعض من عدم وجود مُشارطة تحكيم وسأكتفي بنقل ما أورده د.كامل إدريس المدير السابق للمنظمة العالمية للملكية الفكرية في مؤلفه ( قانون التحكيم السوداني لسنة 2005م (رؤية نقدية)) حيث ورد بصفحة 13 ما يلي (أضف إلى ذلك أن لاتفاق التحكيم شكلين : أولهما شرط التحكيم الذي يرد في العقد الأصلي الذي تتبين عليه الصلة القانونية , سواءً كان العقد مدنياً أم تجارياً , فيكون الاتفاق على أن أي نزاع حول تفسير العقد أو تنفيذه يحل عن طريق آلية التحكيم , يُسمى هذا الاتفاق (شرط التحكيم ) الثاني هو (مشارطة التحكيم) , إذ قد لا يتفق الطرفان على التحكيم في العقد الأصلي ولكن بعد نشوب النزاع يُبرم الطرفان اتفاقاً خاصاً لعرض هذا النزاع على مُحكم أو أكثر , يسمى هذا الاتفاق (مشارطة التحكيم). ويمكن كذلك مراجعة تعريف (اتفاق التحكيم) الوارد في المادة 4 من قانون التحكيم لسنة 2005م. آخرون قالوا كيف تستمر هيئة التحكيم في نظر النزاع في غياب أحد الأطراف؟ , ولهؤلاء أورد نص المادة 27(1) الذي يقرأ ((إذا تخلف أحد الطرفين عن الحضور دون عذر مقبول في أي مرحلة من مراحل الدعوى يجوز لهيئة التحكيم أن تستمر في الاجراءات في غيابه بناءً على طلب الطرف الآخر)). من المعلوم أن القانونيين يقبلون الاختلاف حول تفسير النص ومدلولاته وتطبيقه على الحالة موضع النظر، بل أن ذلك يتسع حتى إننا نعلم أن المحكمة العليا تتبنى رأياً مخالفاً لرأي سبق أن قالت به في سابقة قضائية مضت، دون أن يشكل ذلك طعناً في مصداقيتها أو نزاهتها . ولهذا فإن الاختلاف في إطار هذا السياق مفهوم ومقبول . ولكن غير المقبول أن نتبنى رأياً معيناً ونرمي من يخالفوننا بأنهم يسعون لغايات لا علاقة لها بالعدل أو أنهم يهدفون لمصالح خاصة، ذلك أمر غير مقبول . تبقى معنا أمر أتعاب هيئة التحكيم، وقد سال فيه مداد كثير، وطاشت فيه أسهم كثيرة، بعضهم ربما استناداً على تجربته الشخصية - ظن أن المال غاية كل حي، وأنه وفي سبيله تُداس على القيم وتُهدر الأخلاق . الأمر الجدير بالتوقف عنده هو المنهج الذي أُتخذ لمناقشة هذا الأمر، وسأطلق عليه مجازاً (منهجاً) ما دام بعض الناس يحسب التراب تبراً . فقد انطلق بعضهم للحديث عن مقدار الأتعاب ومغالاتها، آخرون سددوا رميهم نحو الجهة التي دفعت، وآخرون داسوا على ذلك كله ثم خلصوا إلى أن ذلك يشير لأمر دُبر بليل. لو كان لهؤلاء القوم قليل من الفطنة لعلموا أن المنهج القويم أن ترد الأمر لأهله، فتسأل أهل العلم والمهنة عما جرى عليه العمل وتعارف عليه أهل الصنعة ومن ثم تخرج بالخلاصات التي يمكن أن تعلق عليها ما تشاء، في إطار من النية الحسنة والمنطق المقبول. قال د. إبراهيم محمد أحمد دريج في كتابه (شرح قانون التحكيم) ص43 ما يلي ( تعد أتعاب هيئة التحكيم من المسائل المهمة في قضاء التحكيم، ولأهميته تنص كافة التشريعات على كيفية سدادها من قبل الطرفين. وذهب البعض وكذا الاتفاقيات الدولية ولوائح مراكز التحكيم المتخصصة إلى تحديد الأتعاب بنسبة في % من قيمة النزاع كما يتقرر في رسوم الدعاوى أمام المحاكم المدنية أو التجارية بحسب الحال ) . واستطرد د. دريج في ص44 قائلاً (إن تحديد الأتعاب يكون أحياناً مصدرا لتعطيل إجراءات التحكيم خاصة من جانب المدعى عليه الذي لا يكون له رغبة في إجراءات التقاضي ). أما د. كامل إدريس فذكر ما يلي في مؤلفه الذي سبقت الإشارة إليه في ص30 ( أما المبلغ الذي يقدر نظير أتعاب آلية التحكيم وأتعاب المحكمين فيراعى في تقديره حجم المبالغ التي يدور حولها النزاع ومدى تعقيد الدعوى ). إذن ومما أوردناه آنفاً فإن هنالك معايير لتحديد الأتعاب . في التحكيم موضع النظر كانت قيمة الدعوي ما يقارب ال 300 مليون (300 مليار جنيه) كما يحب بعض الصحفيين وكانت الأتعاب 3 ملايين (ثلاثة مليارات جنيه) فكم تبلغ هذه النسبة؟ وهل لها أدنى علاقة بما جرى عليه العمل !!!. لقد أشار الأستاذ عبد الله عمر الشيخ في لقاء صحفي إلى أن أتعاب المحكمين في تحكيم داخل السودان بلغت 7 ملايين جنيه (7 مليارات جنيه) وأنا أعلم -والله على ما أقول شهيد -تحكيما يجري الآن يبلغ مقدار قيمة الدعوى فيه 70 مليون جنيه (70 مليار جنيه) بلغت أتعاب هيئة التحكيم فيه مليون جنيه (مليار جنيه). لقد اتخذ البعض مسألة الأتعاب منصة للانقضاض على مصداقية ونزاهة أعضاء هيئة التحكيم (كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِبًا (5)) سورة الكهف. أما مسألة سداد أتعاب الهيئة فالأصل أن تسدد مناصفة بين طرفي الدعوى , ولما كان الطرف الآخر قد غاب دون عذر مقبول حسبما ذهبت إليه الهيئة , فإن الهيئة رأت أن يقوم الطرف الآخر بسداد كامل الأتعاب، على أن يضمن حقه في استرداد ما دفع في الحكم النهائي , وقد عللت الهيئة ذلك وقاسته على ما يجري العمل به في المحاكم المدنية من قيام المدعي بسداد كامل الرسوم , وتضمن المحكمة أي قرار بشأنه في حكمها لاحقاً . ومعلوم أن سداد الأتعاب يتم كاملاً قبل صدور الحكم , حتى لا يكون هنالك أي ارتباط بين أتعاب الهيئة وما قد يتضمنه الحكم من قرارات . و الأمر الجدير بالذكر أن الأتعاب ومقدارها والأقساط التي سُددت بها , كل ذلك مدون في محضر إجراءات التحكيم ولذلك فهو ليس أمرا خفيا يتعذر الإلمام به . لابد ليِّ في ختام الحلقة من أن أذكر أن أحكام هيئات التحكيم لابد أن تكون مسببة بوضوح تام, كما أن القانون ينص على الحق لكل الطرفين في رفع ما يُسمى بدعوى ( البطلان) أمام المحكمة المختصة . ولذلك فإن احترام الدستور والقانون ومبدأ استقلال القضاء يتطلب منا جميعاً الالتزام بالمسار الذي حدده القانون لمناهضة الأحكام , ويومياً تصدر المحاكم على اختلاف درجاتها عشرات الأحكام ويتم استئنافها فتُلغَى أو تؤيد , ويتعدد هذا الأمر بتعدد الدرجات الاستئنافية , ولم يكن إلغاء حكم أو تأييده مؤشراً للطعن في مصداقية ونزاهة المحكمة التي أصدرته. أحسب أن الأحداث التي تلت قرار هيئة التحكيم تستوجب منا النظر المتجرد لمعرفة الأسباب الحقيقية التي أدت للخروج السافر على المبادئ الدستورية المستقرة من فصل بين السلطات ومبدأ احترام استقلال القضاء. وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين عبدالدائم زمراوي - المحامي* قاضي محكمة الاستئناف الأسبق ووكيل وزارة العدل السابق