كان الخطاب المختصر الصغير يخرج من برلين إلى إحدى بلديات بافاريا يطلب توفير معلومات عن المواطن الألماني رولف أشتاينر الذي توفي قبل سنوات للتنقيب عن مذكراته وأرشيفه الشخصي لأغراض البحث الأكاديمي. كان رد البلدية مفاجأة صاعقة لصديقي الألماني رومان ديكرت وهو يواصل بحوثه لإنجاز رسالة الدكتوراة عن العلاقات السودانية الألمانية. كان رد سلطات البلدية مختصرا أيضا ويؤكد أنه حسب السجلات الرسمية فإن السيد أشتاينر مازال حيا يرزق ويعيش في إحدى المدن الصغيرة بمنطقة بافاريا وأرفق مع الخطاب عنوان سكنه ورقم هاتف المنزل. كل المصادر المفتوحة تشير إلى أنه مات منذ بداية عقد الثمانينيات. الآن يبلغ أشتاينر بطل المغامرة الشهيرة في 1970 التي تصدرت صفحات الصحف العالمية ثلاثة وثمانين عاما وهو يقاتل مع حركة الأنانيا بقيادة جوزيف لاقو حتى تم القبض عليه بواسطة السلطات اليوغندية وتسلميه للرئيس جعفر نميري في الخرطوم. عندما زاره صديقي رومان ديكرت قبل ثلاث سنوات وجد ذاكرته قوية ومتوهجة رغم تقدم السنون وانحناء الظهر، وهو شديد الاعتداد بنفسه وتجربته ولم يعتبر نفسه مرتزقا بل محاربا من أجل الحرية مع شعب جنوب السودان، ولم تكن في لهجته أي نبرة إعتذارية. كان مملوءا بالنموذج الجيفاري لدعم الحركات الثورية في أفريقيا والحركات التحررية في العالم. والشيوعي الأشهر محجوب عثمان رحمه الله أول وزير إعلام في حكومة مايو وسفير السودان في يوغندا في بداية عام 1970 يقول إنه أجرى مباحثات مضنية مع حكومة الرئيس أبوتي حتى وافقت على تسليمه للسودان فجاءت طائرة خاصة إلى كمبالا تحمل معها وزير الدفاع حينها اللواء محمد الباقر فوقع على أوراق التسليم ومنح السفير محجوب عثمان حقيبة مكدسة بالدولارات مكافأة على نجاحه في تأمين تسليمه للسودان فردها شاكرا وقال له إن كل مصروفات العملية تمت من ميزانية السفارة (يا حليل ميزانيات السفارات التي كانت تطلق سراح المرتزقة الأجانب). وتبدأ صحيفة الصحافة في أغسطس 2008 سلسلة تحقيقات عن قصة أول مرتزق أجنبي في السودان، ويدلي اللواء كمال أبشر مدير الإستخبارات حينها بمعلومات عن قصة تحقيقاته مع أشتاينر الذي التقى به ثلاث مرات في بتري قائلا: "هو رجل قوي البنية، مؤمن بهدفه، لم نشعر بأنه يكذب.. كان متعاونا في التحقيق الى درجة بعيدة". وأسحق أحمد فضل الله يقول في في 2010 " ومايو تعتقل وتحاكم المرتزق أشتاينر صعلوك ألماني لا يساوي شيئا".وأشتاينر حسب المعلومات المتوفرة لم يكن صعلوكا قذفت به رياح التمرد والفوضي والمغامرات الشخصية إلى تلك المنطقة، بل جاء إليها لتحقيق هدف مركزي وهو السيطرة على توجهات حركة التمرد السودانية أثناء الترتيبات الإقليمية الجارية لإحداث نظم موالية للغرب بعد حمى حركات التحرر الوطنية ذات التوجهات اليسارية في المنطقة وتعقيدات الحرب الباردة وكذلك ترتيبات انتقال السلطة في يوغندا.عندما وقف أشتاينر أمام المحكمة العسكرية في الخرطوم برئاسة العميد اركان حرب فضل الله حماد في يوم الاحد 25 يوليو 1971م بقاعة الشعب في الخرطوم قال «نعم كنت اقوم بإعداد الطلبة الحربيين نفسياً على تحمل اعبائهم في حركة الانانيا، وكنت ايضا اعلمهم عمل الخرائط الارضية بمقاسات الرسم، وعلمتهم ايضا القذائف والمتفجرات، وضرب النار". مازال أشتاينر وهو يعيش الآن بأقليم بافاريا بألمانيا يعيد ترديد ذات العبارات التي قالها أمام المحكمة العسكرية، وكذلك في التحقيقات مع الاستخبارات العسكرية وهو أنه لم يقاتل مع الأنانيا لمكسب شخصي أو لتحقيق طموحات ذاتية، بل لدعم حركات التحرر الأفريقية. يقول صديقي رومان ديكرت إنه أثناء مقابلته للسيد أشتاينر لم تصدر منه عبارة ندم واحدة جراء فعلته ودوره في دعم حركة الأنانيا، ولكنه كان ناقما على فترة السجن وظروف اعتقاله. وقال إنها كانت أسوأ فترات حياته على الإطلاق، ولكن يكشف أرشيف الوثائق القومية بواشنطون وبريطانيا أن أشتاينر كان عميلا للمخابرات الخارجية البريطانية (أم أي سكس) ، مع بعض الصلات الغامضة مع الموساد. وكانت المخابرات البريطانية شديدة الاهتمام بتطورات الأوضاع في يوغندا في ظل الانتقال الحاد بين حكم أبوتي وعيدي أمين.وكان وجود أشتاينر في تلك المنطقة تأكيدا على اهتمام بريطانيا بالسيطرة على توجهات حركات التمرد في المنطقة في إطار خطة الدول الأوروبية لإحداث نظم موالية للغرب ومنع التمدد الشيوعي واليساري في القارة. رصد رومان ديكرت من أرشيف وزارة الخارجية الألمانية أن مبعوثا ألمانيا رفيع المستوي قابل الرئيس نميري لإطلاق سراح أشتاينر إلا أن النميري رده قائلا "سيمكث معنا في السجن عامين ومن ثم سأطلق سراحه بعفو رئاسي نظرا لظروفه الصحية. ولكن جاءت حركة يوليو بقيادة هاشم العطا، فوجد نفسه محمولا على الطائرة ليعيش بقية حياته في أقليم بافاريا بألمانيا يجتر الذكريات ومرارة السجن بالسودان. استلهمت إحدى القصص الصادرة في سلسلة الروايات عن مغامرات الأوروبيين في أفريقيا تجربة ومغامرات أشتاينر في السودان، كما تم إنتاج فيلم وثائقي مستلهما تجربته ومغامراته أيضا في السودان. أجرت مجلة جنوبألمانيا مقابلة مطولة مع أشتاينر نشرت على خمس حلقات في العام 2012، قال فيها إنه يعارض انفصال جنوب السودان وأنه لم يقاتل مع حركة التمرد في جنوب السودان للمطالبة بالانفصال بل للاعتراف بحقوقهم ومساواتهم مع بقية أفراد الشعب السوداني. وأعترف أشتاينر أنه ساهم في إقناع جوزيف لاقو بضرورة التوقيع على اتفاقية أديس أبابا للسلام عام 1972، كما أقنع بقية قادة الحركة الذين يقدرون دوره وتضحياته من أجل قضيتهم بأن يتوحدوا خلف قيادة جوزيف لاقو. لقد كان أشتاينر عميلا للمخابرات الخارجية البريطانية وكان جوزيف لاقو عميلا للموساد كما كشف بنفسه لصحيفة هارتس الإسرائيلية عام 2011، فهل جزء من تاريخ الصراع والنزاعات في بلادنا هو صنيعة المخابرات الأجنبية أم كما قال جون قرنق " إذا الناموسية بتاعك ما مقفل كويس ما تسأل البعوض ده جاء من وين"؟. أرسل تحية خاصة للباحث الألماني الناشط رومان ديكرت وهو يسبر غور التأريخ وبطون الوثائق ويستنطق الشهود لوضع العلاقات السودانية الألمانية في مساقها التاريخي الصحيح، وهو صاحب المقولة الشهيرة " كل تاريخ ألمانيا في أفريقيا يمر عبر بوابة السودان". وذلك ما سنتعرض له في مقالات قادمة بإذن الله.