مبدأ التعامل بالمثل، لا يعني كل ما يتعلق بالشؤون الدبلوماسية وعلاقات الدول الخارجية فقط، إنما يذهب لأبعد وأخطر من ذلك بكثير.. حينما تقدم دولة دعماً لمتمردين ومسلحين ضد دولة أخرى، تتعامل الأخيرة بذات المفهوم والمنطلق فتقدم دعمها للغاضبين من متمردين وحركات مسلحة ضد الدولة الأولى. كنت أتساءل، والمشهد العام لدولة الجنوب يتضح يوماً بعد يوم ويتعقد موقف الخرطوم أكثر فأكثر، أي من أطراف الصراع الثلاثة أفضل بأن تتولى قيادة الدولة الوليدة، بالنسبة لشعبها، وأيضا للسودان؟ الحكومة تتهم على ألسن قيادتها حكومة سلفاكير بدعم قطاع الشمال وتمويله، ورغم ذلك تعلن أنها مع الشرعية المتمثلة في سلفا، وتستقبل في ذات الوقت القيادي المتمرد رياك مشار، وسترحب أيضًا بزيارة باقان أموم القريبة إلى الخرطوم.!! لم تتعامل الخرطوم بالمثل في دعم أي من أطراف الصراع، أو هذا ما بدا ظاهراً، وهو موقف يحسب لها داخلياً، وستقدره دولة الجنوب والمجتمع الدولي الذي تترقب فيه بعض الدول فرصة تؤخذ على السودان بحجة تدخله في شؤون الآخرين. ولكن بدأ الوضع يتعقد من نواحٍ كثيرة.. إنتاج النفط تراجع للثلث، والعائدات المالية التي تعتمد عليها الحكومتان في ميزانيتهما قلت أيضاً، والمشكلة أن الإنتاج قد يتوقف في أي لحظة. ليس صحيحاً أن مشار قد يأمر بحرق وتعطيل آبار النفط، إنما قواته قد تفعل ذلك دون إذنه أو انتظار أمره.! قوات مشار، لا أظن أنها تدين بالولاء المطلق لقائدها، فهي تشعر أنها المكتوية بالنار هناك في الميدان، وترى الأسلحة القادمة من يوغندا مقابل تلك الآبار التي أمامها، وحرقها وإتلافها هو القرار الأسهل، فلا مكان للصين وشركاتها، أو للسودان ومصالحه في تلك الحسابات.! ولم يكن مشار ليطلب من قواته قتل المواطنين الشماليين في المسجد، إنما هي التفاصيل التي لا يملك عليها أمراً، ولا تنتظر قواته فيها إذناً.. هي فقط حسابات المعركة الدائرة في الميدان. ولايات الاستوائية بات ثوارها يرفعون شعار الفيدرالية، ومشار استطاع أن يقنع شعب الجنوب أن المعركة ليست قبلية، الأمر الذي جعل قيادات عديدة عسكرية وسياسية من بحر الغزال تنضم له. آلفريد لادو قوري زعيم قبائل الباريا هو نائب مشار الآن، وبيتر عبدالرحمن سولي لازال تحت الإقامة الجبرية بجوبا. الخريف، سينتقل هناك إلى مكان الحرب، ولن تستطيع دبابات الجيش الشعبي ومركباته وآلياته الثقيلة الصمود في وجه التضاريس الجغرافية والأراضي الوعرة لإدارة معركة، ويبدو أن طريقة حرب العصابات هي الخيار الأمثل.! ومع ذلك، لا يبدو أن دعم مشار من قبل بعض الأطراف قد يسهم في حل الأزمة، فطرف الصراع الآخر، لازال مسلحاً وموجوداً ولن يستسلم.! باقان أموم ومجموعته، انشقت من سلفا كير وأبدت قرباً من مشار لكنها سرعان ما نأت بنفسها عنه وانتهجت طريقةً مسالمة، السلاح ليس أحد أدواتها.! ورغم ذلك لا تحظى المجموعة بسند كافٍ، إلا من الولاياتالمتحدة وبعض الشخصيات الدولية. مجرد أسئلة تطرح نفسها، هل الحياد هو الخيار الأمثل حتى النهاية؟ كيف سيتعامل أي طرف مع الخرطوم حينما يتولى الحكم؟ وهل إمكانات سلفا ووضعه الميداني والسياسي يؤهله للاستمرار؟ وهل دعم مشار قد يكون يوماً خياراً مناسباً؟ وماذا عن أبناء قرنق.. هل لهم حظوظ؟ دعم أي طرف مادياً وعسكريًا فيه خسارة جديدة للسودان واستنزاف لأموال أخرى يحتاج لها الشعب والدولة، وعدم تحديد الموقف ربما فيه تداعيات عديدة ستلقي بظلالها على المصالح الاقتصادية، بعد أن عبرت العلاقات الاجتماعية إلى بر الأمان.!