وعيد ميلادي ثلاثة مشاهد لها دلالات متعارضة وقعت في ذلك اليوم الموافق 19ديسمبر 1955م، فحين كان النائب دبكة ينادي باستقلال السودان من داخل البرلمان كنت أصرخ صراخ امتلاء الرئة بأوكسجين الحياة واقدم أوراق اعتمادي للحياة وليدا جديدا مكان ميلاده قرية تنقاسي الرويس، وفي نفس اللحظة أيضا كان جدي محمد أحمد ود الرزوقة يلفظ آخر ما تبقى من أنفاسه ويغادر الحياة في نفس اللحظة التي أطل فيها على الدنيا. جدي محمد أحمد ود الرزوقة كما يروي معاصروه كان فظا للغاية نذر حياته بإخلاص للنخل والبرسيم والجداول لكنه كان رقيقا جدا مع النساء فكلما رأى امرأة جميلة صاح: يا الله الكريم وين أمشي يا خالق الحريم وين أمشي لم أرث من جدي المتوفى يوم ولادتي طبائعه الغليظة، وليس نخله في مجراي، لكننى ورثت عنه اكثر نزوعاته وضاءة و(يا الله الكريم وين أمشى) قرر أعمامي وأبوتي وخيلاني ووالدي ذبح (تيس أسود) يوم سمايتي وذلك التيس في ميتيولوجيا العشيرة يرمي لنزع الشؤم عني ويبدو أنني تطبعت بالتيس في قراع الخطوب. اليوم أكملت 59عاما وصرت على بعد همسة من الشيخوخة بيد أني أحس بأنني طفل في سن العاشرة واتحسر على محطات وقفت عندها وأخريات كانت في الاماني. قرأت كثيرا وأحببت أصدقاء كثيرين شارفوا بلوغ الآلاف، وتوشقت نساء كثيرات من جنسيات الله المختلفة، وسافرت كثيرا، وعشت في مدن كبرى وانتميت لاحزاب عديدة، وغادرتها دون ضجة ولمدارس فكرية متعددة، ولاتجاهات في النقد والشعر والرواية، وتنقلت من صحيفة لاخرى لكنني لن أغادر صحيفة (السوداني) رغم أنني لا أقيم في مكان أكثر من عامين. خلال سني حياتي الموارة مكثت في الاعتقال لخمس سنوات ثلاث منها في عهد مايو وسنتين في حضرة الانقاذ، تعرفت في المعتقلات على أنضر الرجال وتعاشرنا في الملح والملاح والوطنية وهمس الشجن الهتون بوطن متماسك، صار لي أصدقاء من كل تلك الأحزاب ما تزال ندية ووضيئة وذات هم مشترك، وشاركت كشاعر في منتديات شعرية كبيرة كمهرجان القاهرة للشعر والمربد، ظفرت فيها بصداقة شوقي بزيع والمزغني وعفيفي مطر ومحمد أبودومة وعزت القمحاوي. وكتبت في صحف عربية كبيرة كالحياة والشرق الاوسط والبيان، ويسرت لي هجرتي لكندا قراءة أدب الهنود الحمر في ال(Non Fiction). وحرصت على تربية أبنائى تربية إسلامية حداثية وهم أقرب إلى روحي من وريدي خاصة (الشافعة إيمان) سندي وقوتي ونقطة ضعفي و(صامولة فؤادي)! وظللت لمدة34عاما أكابد الحياة الزوجية صعودا وهبوطا ومنجلا وفأسا ولم أعد أفكر في زوجة ثانية طالما ظلت حرمنا بهذه الصمدية. كنت أخاف الموت وأخشى سيرته ولا أذهب للمقابر إطلاقا، لكنني صرت الآن على جوار منه ولم تعد ترهبنى قسماته وشاركت في تشييع جثمانين وعلى استعداد لجثامين أخرى. لقد حصنني المرض من مخافة الموت فصرت أعده صديقا مثل آلاف أصدقائي. حين رفع الطبيب الكندي حاجبيه وأخبرني بأننى مصاب بالسرطان تنزَّلت غيوم الشجاعة على قلبي فأسرتْه داخل نياطه فصار الموت صديقا، لكننى أذكر أنه حين أخبرني بمرض لم أتذكر من آلاف الاصدقاء سوى (أمير صديق).. شاب يعمل لقناة الجزيرة.. اجتمعنا على حب السودان والناس وأطلقنا الاشرعة لكل الفضاءات الجميلة. 19ديسمبر يوم ولادتي، واستقلال السودان من البرلمان، وموت جدي، إنها ثلاثية الميلاد والموت والانعتاق.