والي ولاية الخرطوم يقف على إنجاز الطوف المشترك لضبطه متعاونين مع المليشيا ومعتادي إجرام    "منطقة حرة ورخصة ذهبية" في رأس الحكمة.. في صالح الإمارات أم مصر؟    بايدن يعين"ليز جراندي" مبعوثة للشؤون الإنسانية في الشرق الأوسط    شركة توزيع الكهرباء في السودان تصدر بيانا    مصادر: البرهان قد يزور مصر قريباً    تصريحات جديدة لمسؤول سوداني بشأن النفط    برشلونة: تشافي سيواصل تدريب الفريق بعد تراجعه عن قرار الرحيل    إيفرتون يصعق ليفربول بثنائية    إقصاء الزعيم!    لطرد التابعة والعين.. جزائريون يُعلقون تمائم التفيفرة والحلتيت    حدثت في فيلم كوميدي عام 2004، بايدن كتبوا له "وقفة" ليصمت فقرأها ضمن خطابه – فيديو    تشكيل وزاري جديد في السودان ومشاورات لاختيار رئيس وزراء مدني    الحلم الذي لم يكتمل مع الزعيم؟!    الجيش يقصف مواقع الدعم في جبرة واللاجئين تدعو إلى وضع حد فوري لأعمال العنف العبثية    أحلام تدعو بالشفاء العاجل لخادم الحرمين الشريفين    السيسي: قصة كفاح المصريين من أجل سيناء ملحمة بطولة وفداء وتضحية    دخول الجنّة: بالعمل أم برحمة الله؟    السودان..رصد 3″ طائرات درون" في مروي    دبابيس ودالشريف    البيت الأبيض: يجب على الصين السماح ببيع تطبيق تيك توك    في أول تقسيمة رئيسية للمريخ..الأصفر يكسب الأحمر برعاية وتألق لافت لنجوم الشباب    كواسي إبياه سيعيد لكرتنا السودانيةهيبتها المفقودة،،    فيديو.. مشاهد ملتقطة "بطائرة درون" توضح آثار الدمار والخراب بمنطقة أم درمان القديمة    وزير الخارجية المكلف يتسلم اوراق اعتماد سفير اوكرانيا لدى السودان    خادم الحرمين الشريفين يدخل المستشفى    عملية عسكرية ومقتل 30 عنصرًا من"الشباب" في"غلمدغ"    جريمة مروّعة تهزّ السودانيين والمصريين    شاهد بالصورة والفيديو.. شاب سوداني يترك عمله في عمان ويعود للسودان ليقاتل مع الجيش في معركة الكرامة.. وثق رحلته من مسقط حتى عطبرة ليصل أم درمان ويحمل السلاح ويطمئن المواطنين    شاهد بالصورة والفيديو.. "دعامي" يظهر في أحضان حسناء عربية ويطالبها بالدعاء بأن ينصر الله "الجاهزية" على "الجيش" وساخرون: (دي بتكمل قروشك يا مسكين)    شاهد بالصورة والفيديو.. إعلامية مصرية حسناء تشارك في حفل سوداني بالقاهرة وتردد مع الفنانة إيلاف عبد العزيز أغنيتها الترند "مقادير" بصوت عذب وجميل    إثر انقلاب مركب مهاجرين قبالة جيبوتي .. 21 قتيلاً و23 مفقوداً    تطعيم مليون رأس من الماشية بالنيل الأبيض    العين إلى نهائي دوري أبطال آسيا على حساب الهلال السعودي    عن ظاهرة الترامبية    مدير شرطة ولاية نهرالنيل يشيد بمجهودات العاملين بالهيئة السودانية للمواصفات والمقاييس    إيقاف حارس مرمى إيراني بسبب واقعة "الحضن"    «الفضول» يُسقط «متعاطين» في فخ المخدرات عبر «رسائل مجهولة»    سعر الريال السعودي مقابل الجنيه السوداني من بنك الخرطوم ليوم الإثنين    نصيب (البنات).!    صلاح السعدني ابن الريف العفيف    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



تفتيش أمني في حارة المغني
نشر في السوداني يوم 25 - 12 - 2014


مع الروائية ليلى أبو العلا
تفتيش أمني في حارة المغني
مصطفى عبد العزيز البطل
هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته
(1)
انتابني شيء من الأسى الممزوج ببعض القلق، وأنا أتابع بحرص واهتمام بالغيْن، أنباء وتداعيات الضجة التي ثارت مؤخراً حول وزيرة الثقافة الفرنسية مدام فلور بيليران. مشاعر الأسى انصرفت إلى الوزيرة، إذ أحسست تجاهها بكثير من التعاطف في مواجهة موجة الانتقادات القاسية التي غمرتها من حيث لم تحتسب.
وكانت المحافل الثقافية الأوروبية قد اضطربت واصطخبت بعد أن روّعتها تصريحات الوزيرة القائمة على أمر الثقافة في فرنسا، والتي أدلت بها من خلال حوار تلفازي مع قناة كانال بلوس الفرنسية، حيث قالت الوزيرة – ويا للهول - إنها لم تقرأ رواية واحدة على مدار العامين الماضيين. ثم اعترفت بعد ملاحقة من المذيعة – وذلك هو الأنكى - بأنها لم تقرأ أي كتاب للأديب الفرنسي باتريك موديانو الذي حاز على جائزة نوبل للآداب لعام 2014، وقبلها على جائزتي الأكاديمية الفرنسية وغونكور الرفيعتيْن.
وقد أحدثت اعترافات الوزيرة صدمةً هائلةً، استحالت إلى هرج ومرج بين منسوبي قبيلة بني ثقيف في فرنسا، موطن موليير وسارتر. والفرنسيس يقدسون الثقافة، ويزهون بتفوقهم في مضاميرها. وتُعد القراءة في عقيدتهم عنصراً راكزاً من عناصر تكوين الشخصية. وتعتبر فرنسا نفسها رائدة في إنتاج واستهلاك الكلمة المقروءة.
وكذلك كان الأمر في غير فرنسا من بلدان المجموعة الأوروبية، التي رأت قطاعات مقدرة من الرأي العام فيها، أن الوزيرة ربما لم يكن لديها محصول كاف وسعة ثقافية حقيقية، تؤهلها لتولي المنصب.
(2)
هذا عن إحساس الأسى تجاه الوزيرة. أما مشاعر الانزعاج والقلق، فقد كانت من نصيبي أنا شخصياً في مبتدأ الأمر. إذ أخذتُ، وعلى عجل، أقلِّب الأضابير في عقل بالي محاولاً تذكر أية أسماء لروايات قرأتها، ومواقيت قراءتها، خلال الأشهر الاثني عشر الذاهبة.
ولكن القلق زال بأمر الله، بعد أن استوثقت من أنني قرأت خلال هذا العام رواية بعنوان (إحدى عشرة دقيقة)، لروائي وقاص برازيلي أعتقد أن اسمه باولو كويلو. كانت رواية كويلو هذه تتوهط ورق كتاب حقيقي ذي غلاف أمامي وغلاف خلفي. غير أنني تذكرت أنني عبرت أيضاً من فوق نسخ إسفيرية مقرصنة لروايات أخرى، لا داعي لذكر عناوينها لأسباب قانونية.
إذن، أنا موقفي سليم والحمد لله. صحيح أنني لست وزيراً للثقافة، مثل مدام فلور بيلوران. وصحيح أيضاً أنني شديد الحرص على المرور الآمن من تحت جميع الرادارات، فلا أدلي بأية أحاديث أو تصريحات (إلا في مجتمعات الواتساب المغلقة)، وبالتالي فلن يلومني أحد إذا عرف أنني لا أقرأ الروايات. ولكن، ومع ذلك كله، فإن الاحتياط واجب!
ومن قاعدة ذلك الحرص، وبغية تعزيز موقفي الثقافي، تحسُّباً لأي تفتيش فجائي، فقد قررت أن أضيف رواية أخرى لقراءاتي هذا العام. وهكذا وجدت نفسي مستغرقاً في مطالعة نسخة مترجمة، من رواية طار بذكرها الركبان للروائية السودانية الأستاذة ليلي أبو العلا، تحمل عنوان (حارة المغني).
ليلى مؤلفة روائية وكاتبة مسرحية، اعتمدتْها وباركتْها الدوائر العالمية والإقليمية، التي تعتمد وتبارك. تقول في مورد التعريف الشخصي بها الموسوعة الدولية، ويكيبيديا، إنها (ابنة لأول عالمة ديموغرافيا في السودان). حصلت على جائزة كين العالمية للأدب الأفريقي عن قصة لها بالإنجليزية حملت اسم (المتحف). ورُشِّحت روايتها (المئذنة) لجائزتي أورانج وايمباك للرواية الطويلة. كما شقَّ اسمها طريقاً له إلى قائمة التصفيات النهائية لجائزة الكومونوِيلث. ولا غرو أن أدرجت بعض رواياتها في قائمة أبرز مائة كتاب في تصنيف نيويورك تايمز، وما أدراك ما تصنيف نيويورك تايمز. ليلى إذن مبدعة ذات شنين ورنين في مضمار صناعة الحرف.
(3)
صدرت هذه الرواية أول أمرها باللغة الإنجليزية عام 2010 تحت مسمى (Lyrics Alley) ولم يتركها حبيبنا العالم الفذ البروفيسور بدر الدين حامد الهاشمي لحال سبيلها، فنهض إليها، وأمسك بها من فوديها، ولم يفك أسرها إلا ريثما أتاحها في حُلَّةٍ بهية زاهية لقُرَّاء العربية هذا العام 2014، عبر ترجمةٍ ناصعةٍ ماتعة حظيت بكثير من التقريظ.
وقد أفاض في الثناء على الرواية، في أصلها الإنجليزي وترجمتها العربية، نخبة من صناديد المثقفين السودانيين، كان آخرهم الأديب الغضنفر والشاعر الفحل السفير خالد محمد فرح، في مقالٍ سلطوي رفيع، جعل له عنوان (ملامح من السيرة الغيرية وومضات من التناص في رواية حارة المغني).
وحارة المغني بحسب خالد عبارة عن (معالجة روائية، يختلط فيه الواقع بالخيال المحض لسيرة الشاعر الغنائي المرهف الراحل حسن عوض أبو العلا، الذي ارتبط اسمه بتأليف باقة من أروع الأغنيات التي تغنى بها عدد من المطربين السودانيين، وعلى رأسهم عميد الفن السوداني الراحل الأستاذ أحمد المصطفى، والمطرب سيد خليفة وغيرهما).
(4)
وأنا زعيمٌ بأن هذ العمل يندرج تحت ما يعرف ب(الرواية التاريخية). وهو جنسٌ معرّف من فن الرواية، مستكن ومستقر منذ زمن فولتير وتولستوي وألكساندر دوماس الأب، ومن تبعهم بإحسان من أساطين الثقافة الغربية. من رواده في مشارقنا العربية جرجي زيدان (روايات تاريخ الإسلام)، وعلي الجارم (الشاعر الطموح). ومن المحدثين عبد الرحمن منيف (مدن الملح) وجمال الغيطاني (الزيني بركات) ومجيد طوبيا (تغريبة بني حتحوت)، وغيرهم من أماجد بني يعرب وحرافيشهم.
وفي عقيدتي أن الرواية التاريخية، تكون أكثر ثراءً وجودة وصدقية، كلما تناءت عن الحاضر، وركنت إلى البعيد والسحيق في فضاء الزمان. وتكون في المقابل شائكة ومريبة، ومثيرة للتوتر بين القارئ والنص، كلما اقترب التاريخ في الرواية من الوقائع المعاصرة. تلك التي قد يوازي أو يُضاهي علم القارئ بكلياتها وتفصيلاتها، ودرجة اتصاله بعيون مصادرها، ما عند المؤلف من زاد المعرفة ووسيلة الاتصال.
والرواية في نهاية المطاف جماع محصول إنساني، يستل مضموناته ويستلهم معانيه من خبرة الكاتب نفسه ورؤيته للعالم، بل ومن هويته الذاتية في بعض الأحيان. وهكذا يأتي التأريخ - الذي يتحول في العملية الإبداعية إلى خلق فني – ويتهادى، منقاداً ومصبوغاً بهذه الخبرة وتلك الرؤية.
وقد اختبر القارئ السوداني تلك المعاني في ثنائية الدكتور فرانسيس دينق: (طائر الشؤم) و(بذرة الخلاص). الروايتان تاريخيَّتان، بمعنى أن هنالك وقائع تاريخية معينة تنتظم حولها أحداث الرواية وتطوراتها. بل إن هنالك شخصيات تاريخية معروفة لم يجتهد فرانسيس دينق في إخفاء هويتها، مثل شخصية الرئيس الأسبق جعفر نميري، وشخصيات أخرى لعديد من السياسيِّين ورموز ذلك العهد. ولعله من نافلة القول أن مجمل أعمال فرانسيس دينق ترتبط أوثق رباط بقناعاته الفكرية وناشطيته السياسية في دائرة قضايا الهويات وصراعاتها. وقد انطبعت في الروايتين بغير شك خبراته الإنسانية ورؤاه وقناعاته السياسية.
لا يطفف ذلك بطبيعة الحال أو يعيب القيمة الكلية للعمل. الواقع أنه يمتنع عقلاً تأسيس رواية تاريخية بمفازة عن الخبرة المباشرة للمؤلف ورؤيته للعالم. ولكن الحاجة، مع ذلك، تظل ماثلة لتصويب النظر باتجاه أي توتر محتمل بين القارئ والنص. على سبيل المثال: ما الذي يحول دون انتصاب تجربة إنسانية ورؤية للعالم في ذهن قارئ ما، تخالف وتتعارض تماماً وكلياً مع التناول الإبداعي لفرانسيس دينق للأحداث والوقائع التاريخية في روايتيه؟ لا شيء!
قد يكون هذا القارئ – الذي نتمثل معارضته الافتراضية - قد شهد وعاصر ذات الحادثات (الموصوفة بالتاريخية)، أو استمدَّ حصيلته عن وقائعها من ذات رؤوس المصادر التي ثاب إليها كاتب الرواية. يجوز أن يكون قارئنا منتمياً إلى قبيلة صغيرة في جنوبي السودان. ويجوز أن يكون من غمار الناس، لا حسب له ولا نسب مثل ذلك الذي يحظى به فرانسيس دينق. وقد يصدر في رؤيته وتقويمه للوقائع والحادثات، بالتالي من منظور يخالف رؤية المؤلف الكامنة في منتجه الإبداعي وينازعها منازعة كاملة، كما أسلفنا!
(5)
لو قرأت رواية الكاتبة البريطانية/المصرية/السودانية ليلى أبو العلا – كما قرأتها أنا بمتعة لا تُضاهى – فسيعجبك بغير ريب الوصف الدقيق للحياة في مدينة أم درمان في أخريات الأربعينيات وبدايات الخمسينيات من القرن المنصرم. ستروقك الخرطوم وهي تصحو عبر الفصول تحث الخطى نحو الحداثة. ولا بد أنك ستقف ملياً أمام وصف الإسكندرية والقاهرة خلال ذات الحقبة.
الأمانة تقتضي أن أقول إنه، في حالتي الشخصية، أقلقني بعض الشيء ذلك التوتر، الذي حدثتك عنه، والذي ينشأ بين القارئ المعاصر وبين النص المتكئ على طنافس التاريخ. غير أنني أكملت القراءة على عجل، ثم ألقيت بالرواية جانباً لبعض الوقت، ولكنني رجعت إلى فصولها أمسية يوم ماطر وبدأت أعيد قراءتها.
ووجدتني أطالع هذه المرة بعينٍ تختلف عن عين الشغف الأولى برواية قد تحمل حكمة ما. لاحظت عبر الفصول - من الأول إلى السادس - مقارنةً بين السودان ومصر، تبدو خفيَّة أحياناً، ولكنها تسفر في معظم الأحيان. مقارنة بين البلدين والمجتمعين، من حيث درجات التقدم والتخلف في الحياة الاجتماعية والثقافية والاقتصادية. يظهر السودان في هذه المقارنة في شكل لا يسرّ. إذ هو بؤرة للبؤس والتخلف، بينما تبرز مصر المحروسة وهي ترفل بين وثبات التقدم والرفعة، والرفاهية وأمجاد حرية المرأة.
هل يمكن أن تكون حالة المقارنة هذه، في حد ذاتها، مصدراً للتوتر؟ سألت نفسي. لكن الإجابة جاءت قاطعة: لا، دون شك. فأنا من المحبين لمصر، وأشهد لها بالريادة والقيادة. وليس ثمة ما يزعجني في المقارنة الموضوعية بين تواضع حصيلتنا في السودان مقابل التقدم النوعي عند الآخرين.
ولكن الذي تنبهت له، عند القراءة الثانية، هو أن هذه الثنائية – أو المقارنة - انعكست بوجه مباشر في بناء الشخصيات، وملامحها ومواقفها، كما قدمتها الكاتبة. ومقدار علمي أن بناء الشخصية وتركيبها يُعد من أهم أدوات النقاد المحترفين، ولست منهم، في كشف (رؤية العالم المستقرة في النص)، كما يحلو للدكتور جابر عصفور أن يقول.
والواقع، الذي لن يخطئه القارئ، هو أن العديد من شخصيات رواية ليلى أبو العلا تتحدد ملامحها ومواقفها في إطار علاقة جدلية متينة مع هذه المقارنة الثنائية الممتدة، على طول النص بين المجتمعين السوداني والمصري. ثم في موقع كل منهما من التقدم والتخلف، الحداثة والتقليدية، العمران واليباب، المدنية والبداوة، بل الرقة والتوحش.
(6)
يلفت الانتباه بشكل خاص، بناء وتركيب الكاتبة لشخصيتين من الشخصيات المحورية في الرواية. أولهما سيدة مصرية هي الزوجة الثانية لرجل الأعمال أبو زيد. وقد اجتهدت الكاتبة في تصويرها كرمز للتقدم والمدنية والرقي. لا يسع المجال هنا لإيراد نماذج من الحالات التي صوَّرت فيها الكاتبة هذه السيدة في أبهى حُلل الحداثة وأزهى صور التقدم الاجتماعي والثقافي. أما الشخصية الثانية فهي سيدة سودانية، وهي الزوجة الأولى لرجل الأعمال أبو زيد نفسه. وقد اجتهدت الكاتبة، ما وسعها الجهد، في رسم شخصيتها كتسجيد للتخلف وتدني الوعي من أبسط أشكاله إلى أعقدها. وقد توّجت هذه الشخصية شرورها من خلال فعلة شنعاء، جعلتها تبدو كوحش بدائي فظيع في نظر رصيفتها، حتى لا نقول ضرتها، المصرية، وبالمقارنة بها.
انتهزت السيدة السودانية فرصة تغيُّب الزوجة المصرية مع زوجها، وانشغالهما باستقبال ضيوف أجانب في الخرطوم، فنفَّذت جريمتها المروعة المتمثلة في ختان ابنة زوجها من تلك المصرية، مع حفيداتها. وقد كان ذلك سبباً كافياً لهجران الأخيرة لزوجها، وعودتها إلى مصر، في صحبة بنتها، هروباً من جحيم التخلُّف وحَرِّه ووحشيَّته.
في هذا الموقع من الرواية، تُباغتك حالة التوتر المستكن مع النص (الرواية/التاريخ)؛ وتتساءل عن الموقف من ختان الإناث في مصر، مقارنةً بالسودان في ذات الحقبة الزمانية، أي نهاية الأربعينيَّات وبداية الخمسينيَّات من القرن المنصرم. عدت مرة أخرى فنظرت في الموسوعة الحرة، ويكيبيديا، ثم في بعض المراجع الأخرى المتاحة، فوجدت أن كلا البلدين يقفان في أمر الختان موقفاً لا يسرّ الخاطر.
قدَّرت منظمة اليونيسيف، أن أكثر من 125 مليون امرأة في العالم تأثرن بتلك الممارسة، أعني ختان الإناث. وعند تفحص الإحصائيات نجد – وياللعجب - أن عدد ضحايا هذه الممارسة من الإناث في مصر، قد تصدَّر قائمة اليونيسيف على الإطلاق، إذ بلغ الرقم 27 مليوناً. تلتها إثيوبيا برقم 23 مليوناً، ثم نيجيريا 20 مليوناً. وفي قاع القائمة رأيت السودان يجرجر أذياله مُسجِّلاً 12 مليوناً فقط لا غير. لا بد بطبيعة الحال أن نضع في الاعتبار الكثافة السكانية لكل قطر. ومع ذلك، فبعملية حسابية مبسطة، فسيبدو لك بجلاء، أن موقف السودان في حقيقة الأمر أفضل من موقف قرينه المصري. تلك إحصائيات زماننا الماثل، فما بالك بنهاية الأربعينيَّات وبداية الخمسينيَّات من القرن المنصرم؟!
(7)
أشارت المؤلفة في مقدمة الترجمة العربية، إلى أنها (حوّرت جوانب كثيرة تتصل بتاريخ العائلة، وأدخلت أيضاً الكثير من الشخصيات الخيالية، حتى يغدو العمل بحقٍّ عملاً روائياً متخيلاً). ولا بأس بذلك، فالفن في نهاية المطاف هو إعادة إنتاج الواقع بصورة إبداعية. وهكذا روَّضت نفسي على قبول شخصية الزوجة المصرية، بحسبانها تنتمي لطبقة من التقدميِّين أو الارستقراط، سابقة لزمانها، حتى في مصر الشقيقة.
ولكنَّ حالة التوتر تجاه النص، تبلغ مبلغاً متقدماً، حين يتخطَّى السرد مجرد المقارنة بين السودان ومصر، كبلدين ومجتمعين، من حيث التقدم والتخلف، إلى حيز مقارنة المناطق الجمالية الجسمانية عند الناس. أي جمال الأفراد من ناحية جسدية: طبيعة الشعر، لون البشرة، رقة الفم أو سعته، وغير ذلك من شواهد وحيثيات الجمال الجسدي.
عبَّرت عن بعض ذلك زوجة أبو زيد المصرية، وهي تتأمل تكوين ابنها وبنتها من هذا الرجل السوداني. وهنا أستميح القارئ في إيراد مقتطف قد يطول بعض الشيء. هاك – أعزك الله – طالع وتأمل: (يبدو فاروق [ابنها من الرجل السوداني] وهو يسير بجانبها، وكأنه طفل 'خطأ' لاختلاف لونه عنها، فهو أسمر اللون مجعّد الشعر. ألمح لها تاجر محل الخردوات بشيء من ذلك عندما رآهما معاً. قال لها: "لا أفهم كيف تكون الأمّ بهذا الجمال والابن شيء آخر". أو يقول بدهشة مبالغ فيها: "هل يمكن لكل هذا الجمال أن ينجب ابناً أسمرَ كهذا؟". مع الوقت صار البائع أكثر جرأة فقال ذات مرة: "لماذا زوَّجوك لأجنبي يا مدام؟ ما عيب رجال بلدك؟". سعدت نبيلة بتلك التلميحات والتصريحات أيما سعادة، وعدّتها جزءاً من مزاح شوارع القاهرة وروحها المرحة. تردّ وتقول: "قسمتي ونصيبي". تزيد أحياناً بالقول: "بنتي جميلة جداً. لا عيب فيها. الحمد لله شعرها ناعم". (الترجمة العربية ص448).
لا أخفي عليكَ رعاك الله: كإنسان أسمر وأجعد الشعر، يمكن أن يقول عنه الطيب صالح: "واقع الأمر، أنه لا يخلو من وسامة"؛ فقد انتابني شيء من التوتر. ولكن الحقيقة تظل في مكانها، وهي أن هذه الجمالية المركزية العرقية - إن صح التعبير - شائعة في حيواتنا بغير ريب.
(8)
بطبيعة الحال، لم يكن ذلك هو رأي المؤلِّفة، بل رأي إحدى شخصياتها. لا تثريب على ليلى إذن. لكن قفز التاريخ، كما أعرفه، إلى ذهني. معلوم أن الشعب المصري من أغزر الشعوب تسامحاً تجاه قضية العرق، وأكثرها قبولاً للآخر. انظر إلى حشود النساء المصريات اللائي تزوجن من سودانيِّين، من جنود جيش الخديوي، منذ ما يقارب القرنين. تزوجن من سودانيين من أبناء جبال النوبة وجنوبي السودان، ومن الذين انبتَّتْ علاقاتهم بقبائلهم.
ثم جاءت، في أربعينيات وخمسينيات القرن الماضي، موجات أخرى من السودانيِّين من جحافل سلاح الهجانة، حارت العسكرية المصرية الحديثة بعد ذلك في أمرهم، وقد أظلها عصر الطائرات، فكان الاستقرار في مصر خيار قطاعات واسعة من هؤلاء، وقد توافرت أمامهم سبل كسب العيش. مرة أخرى، لم تقف الجمالية العرقية حائلاً بين هؤلاء وبين الاستقرار في أيٍّ من شطري الوادي، وتربية أبنائهم وبناتهم من هذا الهجين الجميل.
(9)
خطر ببالي أنه ربما، أقول ربما، كانت الكاتبة تعبِّر في هذا الموقف على وجه التحديد عن وجهة نظر طبقة من طبقات الشعب المصري آنذاك. ذلك أن نبيلة، الزوجة المصرية لرجل الأعمال السوداني أبو زيد، تنتمي إلى أدنى الطبقة الأرستقراطية المصرية في نهاية الأربعينيات وبداية الخمسينيات، حسبما تشير شواهد عدّة من النص. تلك طبقة المتعلمين الذين ربما أصابوا شيئاً من (البكوية) بفعل اجتهادهم، ولم يبلغوا (الباشوية) بعد، حسب تراتب المواقع الاجتماعية في الحياة العامة المصرية آنذاك.
ربما قصدت ليلى أبو العلا أن تنسب هذه الآراء حول السُمرة والشعر الأجعد وغلظة الشفاه إلى تلك الفئة كطبقة بائدة، تأثرت بحكامها وسادتها من الترك ومعاييرههم الجمالية. تلك خاطرة ذات مغزى ومضمون، من حق ليلى أن تستفيد منها. ومن شأنها لو استقرت عندك – أعزك الله - كقارئ سوداني أن تقطع الطريق أمام أية إرهاصات توترية مع النص.
وفي هذا الحال، فإن بإمكانك وأنت مطمئن أن تتجاوز، وتمضي قُدُماً لتزيح عن ذهنك صور الروائية الأمريكية السوداء، صاحبة نوبل، توني موريسون، وعباراتها اللاذعة ذات الحساسية العالية حول قضايا العرق واللون. هذا إن كانت بعض صفحات ليلى أبو العلا قد استدعت إلى ذهنك، كما استدعت إلى ذهني، الروائية الثائرة توني موريسون ومواقفها المبدئية وحساسياتها المرصودة تجاه ذلك الصنف من القضايا.
هل سمعتني، أعزك الله؟ قلت، وبالله التوفيق، إنه بمقدورنا - أنا وأنت - عند هذا المنعطف، أن نستهدي بالله، ونلعن الشيطان، ونصرف النظر عن أية مقارنات.. أو توهمات!
(10)
مرحى بالروائية ليلى أبو العلا. حللتِ أهلاً ونزلتِ سهلاً.
مرحى بك يوم اقتحمت ميادين العطاء الثقافي اقتحاماً باذخاً، وارتقيت مراقي الإبداع الروائي ارتقاءً شامخاً.
مرحى بك وأنتِ تنالين الاعتراف الحر، غير المشروط، من منابر البيضان والسودان على صعيدٍ واحد. وقد نوّهت بفضلكِ، واحتفت بثمرات شجرتك المباركة الميمونة، أكبر المنابر الأمريكية والأوربية والعربية والسودانية.
وبعد، جاء في كتاب الفوائد لابن القيم: (إنما يقطع السفر ويصل المسافر بلزوم الجادة وسهر الليل).
وفي الإنجيل من سفر يشوع '43': "به يُنتهى إلى النجاح، وبكلمته يقوم الجميع".
وسلامٌ على المرسلين.


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.