كان قانون " جلاس – ستيغال " الصادر في عام 1933 في أمريكا من أهم القوانين المنظمة للنشاطات المصرفية والأعمال التجارية وما يميزه أنه كان يمنع البنوك الأمريكية من ممارسة نشاطات الاستثمار المالي ونشاطات التأمين وكل ما هو غير نشاط مصرفي بحت. وعليه كانت البنوك التجارية لا تمارس أي نشاطات تتعلق بالاستثمارات المالية أو عمليات التأمين لأن هذه النشاطات تمارس بواسطة جهات أخرى منفصلة تماما عن البنوك ولديها تراخيص مهنية محددة من سلطات أسواق المال والتأمين. و من هذا يتضح أن قانون "جلاس – ستيغال" كان به تقييد تام وتحديد لمسار النشاطات التي تمارسها البنوك. و أذكر عندما كنت أعمل في البنك المركزي العماني (العملاق) شرع أحد البنوك الأجنبية، ومن ضمن الترويج لجذب العملاء، في تقديم " وثيقة تأمين " يعطيها البنك لتغطية السفر أو العلاج.. وكان هذا الترويج جزءًا من " العرض المتكامل " الذي يقدم للزبون. و لكن في البنك المركزي لم نوافق علي هذا وأمرنا البنك المعني بتعديل عرضه وعدم ممارسة التأمين أو الترويج له كجزء من العملية المصرفية بأي طريقة من الطرق. وهذا الإجراء كان صحيحاً في حينه لأن قوانين تحرير العمل المصرفي لم تصدر في ذلك الوقت وكانت أحكام قانون " جلاس – ستيغال " هي الطاغية الناهية و تأمر البنوك بالابتعاد التام عن التأمين ... و الفصل الكامل بين السلطات. لكن مع مرور الزمن، و نتيجة لبعض الضغوط من البنوك الأمريكية الكبيرة التي كانت ترغب في توسيع دائرة نشاطاتها و لإدرار المزيد من الأرباح، تم تعديل قانون "جلاس – ستيغال " لتنفيذ ما يعرف بسياسة تحرير العمل المصرفي (دي رقيوليشن) و لتحقيق هذا التوجه تم إصدار قانون جديد اسمه "قانون قرام – ليتش – بليلي " لعام 1999. وبموجب هذا القانون، الذي وقعه كلينتون وسط زخم إعلامي كبير، تم إزاحة كل وكافة القيود عن البنوك حيث تم السماح للبنوك بممارسة عمليات الاستثمار وعمليات التأمين جنباً إلى جنب مع العمليات المصرفية التقليدية وهذا تحقيقاً لتحرير العمل المصرفي" دي رقيوليشن " وكل النشاطات الاقتصادية الأخرى لتعمل جميعها في نطاق مسار واحد . و من وقت سريان القانون الجديد أصبحت البنوك الأمريكية، و فرحا بهذا الانجاز، تقوم بممارسة العمليات المصرفية التقليدية إضافة لممارسة عمليات الاستثمار المالي وتقديم بعض الخدمات التأمينية. وفي هذا المنحى تبعتها كل البنوك العالمية الأخرى وتم إزالة وهدم المعوقات، كل المعوقات، المقيدة للانطلاق والتحرير... كما تمت إزالة وهدم " سور برلين " ... و منذ ذلك الوقت تجد كل الخدمات المصرفية والاستثمارية والتجارية تحت سقف واحد عليه اسم البنك "الفلاني"... ، ومثلا في بنك البحرين والكويت تجد من يقدم لك كل العمليات المصرفية التقليدية كما تجد من يقدم لك عمليات الاستثمار المختلفة والوساطة المالية عبر أيادينا وعقولنا الاستثمارية وكما تجد بجانبهم من يقدم لك عمليات التأمين وبرنامج "سكيورا" من أشهر برامج "البنكأشورنس" في المنطقة وكل هذا يتم على قدم وساق بترخيص و على مرأى ومسمع من بنك البحرين المركزي والسلطات الإشرافية الأخرى ... وهكذا يجد العميل كل الخدمات تحت سقف واحد ويقدمها له موظفو البنك من أصحاب التخصصات المختلفة. وهكذا، أصبح العمل المصرفي يغطي كل النشاطات بدون قيود أو موانع بالرغم مما كان يعتري هذه النشاطات من تنافس شرس بل نظرات ريبة وعداوات مبطنة فيما بينها في بعض الأوقات ... و لكن مع زيادة الأزمات المصرفية و تورط من يعمل فيها في العديد من الممارسات غير السليمة والمخالفة للقانون ولأخلاقيات المهنية والممارسات المصرفية السليمة، فهناك من ينادي بضرورة مراجعة سياسة "تحرير" العمل المصرفي والعدول عنها أو النظر بجدية في إمكانية وضع بعض الضوابط الكابحة للتحرير التام و ذلك لاعتقادهم بأن التحرير التام هو الذي أدي إلى حدوث التجاوزات وحدوث المخالفات الجسيمة بل وإلى تلوث المهنة المصرفية لأنها أصبحت مفتوحة لكل شيء... و ما حدث من هزات قاتلة للبنوك الأمريكية الكبيرة والأوربية قبل سنوات ما زالت آثارها موجودة في كل أطراف العالم بل دخلت في كل بيت وهزت أركانه . و أيضًا ما حدث قبل أشهر في بنك باركليز و هو "من شيوخ البنوك الانجليزية" من تلاعب بمؤشر الفائدة "الليبور" بين البنوك وما كان من آثاره السالبة على كل البنوك والعملاء في العالم ، وكذلك ما تبعته في نفس الفترة من فضائح "أتش أس بي سي " و " باري با بنك " وهما من البنوك الكبيرة وما قاما به من تسهيلات لعمليات غسل الأموال عبر فروعهما المنتشرة في كل الاتجاهات في العالم وهذا بالإضافة لتمويل الإرهاب عبر شحن ملايين الدولارات "نقدا" لزعماء العصابات ومجرمي الحروب لمساعدتهم في ممارسة إجرامهم ... وغير هذا وذاك من التجاوزات غير السليمة والمنافية لأبسط الأسس والقواعد والممارسات المصرفية... و التي تحدث الآن علي مدار الساعة في أوربا و آسيا و في غيرهما . مع ملاحظة ، أن معظم هذه التجاوزات قد تمت أو تتم من داخل البنوك الاستثمارية "الكبيرة" التي تلعق وتنغمس في هذه الاستثمارات و بريقها وتبعد تماما عن العمليات المصرفية التقليدية ذات العوائد التقليدية "البسيطة" في نظرها... و هنا يطرأ سؤال هل نحتاج إلي " قانون جلاس – ستيغال " ؟ أو ما يشابهه من جديد حتى نمنع البنوك و المهنة المصرفية من الانهيار والانحطاط الذي تمارسه الآن بعض البنوك المسماة بالكبيرة و يمارسه بعض من يعمل بها من ضعاف النفوس و عديمي الضمير ...؟ وهل تعود البنوك الحالية لممارسة العمليات المصرفية التقليدية العادية والتفرغ لممارستها هي فقط مع ترك نشاطات الاستثمارات والوساطة المالية والتأمين لسواها، خاصة وأن هذه الممارسات متشعبة مما قد يسهل اختراقها عن عمد و سوء نية لتحقيق مآرب شخصية وتنفيذ مخططات إجرامية تستغل فيها البنوك و المهنة المصرفية الشريفة، من دون وعي أو علم ؟. من دون أدنى شك ، هناك فوائد لا تحصى لسياسة " تحرير " العمل المصرفي حيث نلاحظ إنشاء بنوك كبيرة وبرؤوس أموال كبيرة جداً لخدمة العملاء والشركات العملاقة ولتوفير الخدمات المصرفية الشاملة في مكان واحد وتحت إدارة واحدة في سقف واحد. ولكن، من دون أدنى شك ، أيضا فإن هذا الانفتاح أدى إلى التشعب المتعدد الأبعاد و إلى التنوع المتنامي بدون حدود مما أدى لاختلاط الحابل بالنابل في العديد من الممارسات التي تحتاج إلى ضوابط تنظيمية وفق ممارسة مهنية عالية وأسس تشريعية قوية تمكن المهنة المصرفية من تجاوز السلبيات و نبذ كل ما يشوه أو "يشوش" العمل المصرفي السليم . و ليبقي " التحرير " للصناعة المصرفية و لنفسح لها المجال الكافي ، ولكن ، يجب أن يتم هذا في ظل ضمانات قانونية ومصرفية كافية مع توفر النية الصادقة المقرونة بالعمل الجاد في الامتثال والالتزام بهذه المعايير الضرورية، ومع هذا ضرورة وجود الردع القوي والفوري لكل من يتجاوز هذه الضمانات والممارسات... و ليعمل الجميع من أجل مهنة مصرفية متحررة سليمة ونظيفة لتعود لها سيرتها الأولى . د. عبد القادر ورسمه غالب المستشار القانوني و أستاذ قوانين الأعمال و التجارة بالجامعة الأمريكيةبالبحرين Email: هذا البريد الإلكتروني محمي من المتطفلين و برامج التطفل، تحتاج إلى تفعيل جافا سكريبت لتتمكن من مشاهدته