:: النقد شيء والانتقاد شيء آخر (نقيض للنقد).. وفي عوالم الأدب والفن، عندما ينتقد الناقد عملاً أدبياً فعليه أن يستوعبه سمعاً أو قراءةً أو مشاهدةً، أي حسب نوع العمل والقالب الذي وُضع فيه.. وبعد الاستيعاب، عليه أن يدرس كل جوانب هذا العمل ويحللها ويفسرها ثم يظهر كل مكامن القوة والضعف التي فيه بمنتهى الحياد، وبهذا يكون قد قدم للقارئ -ولصاحب العمل- نقداً موضوعياً، بلا أي أحكام صادرة عنه.. فالحُكم على الأعمال الأدبية والفنية -من خلال النقد الموضوعي- مسؤولية المتلقي فقط لا غير..!! :: وللأسف، يوم الثلاثاء الفائت، صديقنا يوسف عبدالمنان، الكاتب بالمجهر السياسي، لم ينقد رواية "شوق الدرويش"، لكاتبها حمور زيادة، بمعايير النقد المعروفة لكل ناقد، بل كتب ما يشير إلى أنه (انتقاد)، أي التقليل من شأن الرواية، ثم الهجوم على الكاتب واتهامه بالعمالة والارتزاق، وغيرها من الاتهامات الرائجة في (سوق السياسة).. حمور زيادة لم يكتب مقالاً سياسياً، بل حكى حكاية شيقة وشائكة وقابلة للتأويل والاختلاف حول مقاصد الكاتب، وما يريد أن يقوله عبر الحكاية، وهكذا حال أي عمل روائي ناضج.. وكان على الأخ يوسف أن يكتفي بتأويله دون أن ينسبه إلى الكاتب، ثم يفرضه على المتلقي ثم يصدر كل تلك الأحكام والاتهامات..!! :: والمؤسف في (انتقاد يوسف)، يبدو أنه حكم على "شوق الدرويش" وكاتبها بأحكام استباقية، أي قبل أن يقرأ الرواية أو قبل أن يستوعب رسائلها، بدليل هذه المقدمة: (حمور زيادة روائي مغمور، لا يعرفه في السودان، إلا ثلة من مرتادي مقهى بائعة الشاي حليوة، في شرق الخرطوم، وبعض من مجالس المثقفين -جيل الرفض-، الذي يسمي نفسه بجيل الثورة والتغيير)، هكذا حمور زيادة في مخيلة يوسف.. أي محكوم عليه -مسبقاً- بالمغمور الذي لا يعرفه إلا ثلة من مرتادي المقاهي، والداعين إلى الثورة والتغيير.. وبهذا العقل السياسي الجائر قرأ يوسف الرواية، ثم حكم على الكاتب بالعمالة والارتزاق.. فالعمالة هنا أدلتها ليست هي (فصول الرواية)، بل هي تلك المقاهي وتفاصيلها السياسية..!! :: وليس في أمر تلك الأحكام الاستباقية عجب، فلدينا حكمة شعبية تبرر مثل هذه الأحكام بالنص القائل: (الما بدورك في الضلمة بيحدر ليك).. رواية "شوق درويش" التي قرأتها -وربما هناك نسخة مختلفة قرأها الأخ يوسف- لم تُمجد الاستعمار (من قريب أو من بعيد)، ولم تتغزل في المصريين (لا تصريحاً ولا تلميحاً)، بل هي صدمت الحاضر ببعض الحقائق السودانية المسكوت عنها، تحت غطاء (دفن الرؤوس في الرمال).. وبالمناسبة، لو خرجت كل حقائق التاريخ -كما هي- لبحث الحاضر والمستقبل في بلادنا عن (تاريخ آخر).. وعلى الأخ يوسف أن يعلم بأن سيل الوعي الجارف غمر العقول، لحد إرغامها على البحث عن كل الحقائق المحشوة في دهاليز التاريخ، ثم سردها (كما هي).. وما تفاصيل "شوق درويش" إلا مثقال ذرة من الحقائق المسكوت عنها.. ولحسن حظهما، لم ينشر المغفور له بإذن الله، بابكر بدري (حياتي)، في عامنا هذا، ولا يكتب عمنا شوقي بدري في التاريخ كثيراً، وإلا لأعلن فيهما الأخ يوسف عبدالمنان (الجهاد)..!!