بمناسبة اليوم العالمي للشعر: الشعر وصياغة الشخصية الإنسانية بروفيسور عبد الرحيم محمد خبير عميد كلية الدراسات العليا بجامعة بحري تمر علينا هذه الأيام الذكرى السنوية لليوم العالمي للشعر والذي يصادف الحادي والعشرين من شهر مارس. واحتفاءً بهذه الذكرى نورد أدناه ماتختزنه الذاكرة وتورده الأدبيات عن الشعر ودوره في صياغة الحياة الإنسانية سواء في الجانب النفسي أو المعرفي أو الأخلاقي, فماذا عن كل ذلك؟. الشعر، هذه المفردة الجذابة التي تختزن في أحشائها لغة سحرية تأخذ بالألباب وتسمو بالنفس الإنسانية إلى آفاق رحيبة أو على حد تعيير الشاعر اليمني عبد العزيز المقالح "إنه ملاذ الروح". فالسؤال الذي يطرح نفسه هنا، ما كُنه هذا التعبير القولي وما مدى تأثيره على المتلقي؟. نلحظ أن الكثيرين ومن مواقف متباينة يتحدثون عن الشعر دونما اتفاق على تعريف عام له. ويبدو أن العناصر المكونة للشعر هي التي جعلت له تعريفات عديدة. فهناك من يعرّفه باعتبار الموسيقى والمعنى كقدامة بن جعفر القائل "الشعر هو الكلام الموزون المقفى الذى يدل على معنى". ويرى نفر آخر أنه "الأسلوب والخيال" ك(رسكن) الذي يقول نصاً وحرفاً "الشعر عرض للبواعث النبيلة للعواطف بواسطة الخيال". وفي ذات المعنى يقول الشاعر المصري أحمد عبد المعطي حجازي "إن الشعر حدس ونبوءة وخيال واكتشاف واعتراف، معرفة شاملة نعيشها بكل ملكاتنا وحواسنا ومشاعرنا، ونتعلم فيها ونتصل بالطبيعة وبالآخرين ونطرب وننتشي". ويزعم الشاعر وردز – وورث أن الشعر "هو الحقيقة التي تصل إلى القلب رائعة بواسطة العاطفة". أما الشاعر نزار قباني فينظر إلى الشعر باعتباره عملية صدامية أو عملية استشهاد على الورق – حسب تعبيره. ووظيفة الشعر في تقديره هي العمل على تحريض الإنسان على نفسه، إذ لا يوجد شعر حقيقي كما يرى دون تحريض. ويخلص قباني إلى أن أهم إنجازات الشعر الحديث أنه حوّل القصيدة العربية من قصيدة مسطحة تعتمد من الناحية الفنية على التوازي والتناظر في تركيبها إلى قصيدة ذات أبعاد ثلاثة (مجلة العربي الكويتية, العدد 364 مارس 1989م). وكاتب هذه السطور على رأى مؤداه أن ثمة أبعاد ثلاثة معنوية هامة لا بد من التوقف عندها وهي تتعلق بالمتلقي وصلته بالشعر. وتجدر الإشارة هنا إلى الدراسة الجادة للدكتور عايش الحسن والموسومة ب "تلقي الشعر عند حازم القرطاجني". (مجلة اتحاد الجامعات العربية للآداب، العدد الأول 2008م). ويُعَرِّف الكاتب في هذه الدراسة أبعاد ثلاثة للشعر (النفسي والمعرفي والأخلاقي) وتأثيرها على المتلقي من خلال رؤية الأديب التونسي حازم القرطاجني (608-684ه). فالبعد السايكلوجي (النفسي) عند حازم القرطاجني ينبع من القوة الخيالية لدى الشاعر؛ إذ تقوم هذه القوة بتحصيل المعاني الذهنية من الأشياء الماثلة في الواقع، وتكون هذه المعاني مطابقة لصورتها في الواقع، غير أن هذه المعاني تخرج من إطار القوة إلى الفعل بواسطة أداة هي اللفظ الذي ينقل الصورة إلى المتلقي. وكما هو معلوم، فإن هذا المفهوم مستمد مما قاله الفلاسفة المسلمون حيث أشار ابن سينا إلى أن القوة المتخيلة هي إحدى قوى الإدراك الباطني ومقرّها التجويف الأوسط من الدماغ "ووظيفتها أن تركب بعض ما في الخيال مع بعض وتفصل بعضه عن بعض بحسب الإختيار". فهي قوة ذات مقدرة على التعرف على الصورة الحاصلة في الأذهان، ولا تقف هذه القوة عند حدود النقل المباشر بل لها قدرة فكرية تعمل على خلق تركيبات جديدة لا تناقض الواقع ومن هنا سميت هذه القوة "بالمفكرة بالقياس إلى النفس الإنسانية وبالقياس إلى النفس الحيوانية". وما دام الشاعر يهدف إلى استثارة المتلقي، فإن المتلقي بالتأكيد يتجاوب مع هذه الإثارة، إذ تقوم القوة النزوعية فيه باستثارة انفعالات في نفسه، فتنبسط نفسه عن أمور، ينفعل لها. وعلى هذا الأساس فإن المتلقي يتبع انفعالاته وتخيلاته أكثر مما يتبع عقله أو علمه. وتساهم هذه العملية في تحديد سلوكه بسطاً أو قبضاً. أما البعد المعرفي للمتلقي: فهو بحسب رؤية حازم القرطاجني نقل المعرفة (فلسفة وعلم) إلى المتلقي خاصة. وهي معرفة شعرية تشتمل على إدراك ذاتي للمبدع وتباين المعرفة التي تؤديها الفلسفة أو العلم. فالفلسفة تقوم على مقدمة تجريدية صادقة بمثابة معقولات صرفة، غير أن المقدمات الشعرية يمكن أن تكون صادقة أو كاذبة. فلا يسعى الشاعر إلى نقل معرفة مجردة لا تثير الانفعالات النفسية كما تسعى الفلسفة والعلم بل يعمل على إيقاع التخيل لدى المتلقي بنقل صور الأشياء إلى ذهن المتلقي في صورة محسوسة ولكنها جيدة المحاكاة. ولهذا فإن أسوأ الشعر ما كان قبيح المحاكاة والهيئة، واضح الكذب خالياً من الغرابة. فتميز الشعر لا يقاس بوزنه وقافيته إنما بقدرته على تحريك المتلقي وإثارة إنفعالاته. فالشعر ينشأ عبر علاقات جديدة متبادلة تتولد منها إثارات من التعجيب والإستغراب والإستطراف. والقول الشعري فس إطار هذا السياق ليس نسخاً للواقع أو تصويراً حرفياً له، بل هو حركة جديدة للواقع أو صورة موازية له تجعل المتلقي يعيش عالماً جديداً مبتكراً، فالشعر بإمكانه تقديم معرفة للمتلقي، لكنها معرفة متخيلة وليست مباشرة يمكن أن تترك تأثيرها في سلوكيات هذا المتلقي. وفحوى البعد الأخلاقي حسب رأي القرطاجني أن العملية الشعرية تعمل على ترك بصماتها في سلوك المتلقي، وإذا كان المتلقي يبقى متجاذباً بين اتجاهين: مصالح جسمه الفانية ومصالح نفسه الباقية، فإن الشعر الخالد هو الذي يعمل على إيجاد معادلة تجمع بين هذه الاتجاهين المتنافرين وذلك ببث الفضائل الأخلاقية وتصويرها على صوره التخيلية وذلك لتحسينها والحث على فعلها وتصوير الرذائل والشرور بأبشع صور والدعوة إلى نبذها والنأي عنها. وهنا يشكل الإيثار الفضيلة الكبرى في هذه المسألة. فبالإيثار يستطيع الشعر أن يُشَكِّل إنساناً فاضلاً يجمع كل الصفات النبيلة التي تحقق له السعادة المثلى. خلاصة القول أن الشعر يُساهم بشكل كبير في صياغة الشخصية الإنسانية عبر أبعاد عديدة إرتآها القرطاجني في ثلاثة رئيسة (سايكلوجية ومعرفية وأخلاقية). ولا ريب أن الشعر بلغته الساحرة وصوره المجازية وروحه الشفافة لقادر على إيجاد التوازن في حياة الإنسان بجانبيها البدني والنفسي طالما سعى لتهذيب النفوس وتثبيت القيم الفاضلة والمثل العليا وتنمية الإحساس بالجمال مستعيناً بأدواته الخاصة التي تثير في دواخلنا إنفعالات شتى وترتقي بأرواحنا إلى سموات عُلىَ. والله المستعان وهو الهادي إلى سواء السبيل.