تأملات في الحدث الأمريكي.. قانون زواج المثليين (الشذوذ الجنسي) بقلم د.محمد المجذوب يأخذ مفهوم الحرية الإنسانية مكانة "المطلق" و"المقدس" في نظم منظومة الحداثة العلمانية، إذ تعتبر الحرية الفردية بمثابة الخاصية الأكثر أهمية لإنسان الحداثة بل وتشكل جوهره القار، ولذلك عدت أصلاً تأسيسياً للنزعة الفلسفية الإنسانوية الحديثة، التي تتمحور حول تصور للإنسان قوامه العقل والإرادة والحرية، ويعرف مفهوم حرية الإرادة الإنسانية في معناه الحداثي، بسعي الإنسان الجاد لهدم عالم الوصاية المضروب حوله وتدميره بمختلف تجلياته وحدوده وتبدياته الأخلاقية أو المعرفية ...إلخ. أما حرية الإرادة نفسها فتعتبر حالة من المغامرة نحو الحرية في عالم مسكون بالضرورة والحتمية المادية، فهي تأخذ من هذا المنظور صورة إرادة إنسانوية حرة تتحدى وتتقصى وتغامر لتصنع مصير الإنسان بمقدار إرادته وعلى مقياس أطياف أحلامه الدنيوية المادية البحتة، وبذلك تبلورت فكرة الحرية الفردية التي احتلت محل "المطلق" "الله" سبحانه في فلسفة الحداثة وقوامها ومقدسها الأهم، فثمة "إجماع" عند الحداثيين على مبدأ القائل بأنه "لا حداثة بلا حرية فردية"، كحرية التفكير في كل شيء، وحرية التعبير عن كل شيء وبأي عبارة أو أسلوب، وحرية البحث في كل شيء وكل مجال بلا ضابط ولا حاجز، والأهم من كل هذا حرية التحرر من كل قيمة أخلاقية أو اجتماعية ...إلخ، بوصف الحرية هي حق الإنسان المطلق والنهائي، فكانت الحرية بذلك هي المبدأ المقدس الذي أهدته فلسفة الحداثة للإنسان المعاصر. ومن هذا المنظور التأليهي والقديسي للحرية الفردية، "إله الحداثة الجديد" يتم النظر إلى ماهية الأخلاق كقيم نسبية تتغير من عصر إلى عصر، ومن مكان إلى مكان، أما القيم الدينية "الإسلامية أو المسيحية ونحوها"، فإنه يجب تجاوزها كونها أصبحت تشكل عالم الوصاية المضروب على الإنسان، ومن ثم يجب فصل الدين عن المنظومة الأخلاقية للفرد والمجتمع، فأخلاق كل زمان بحسبه، كون إن الحداثية تربط الأخلاق والقيم باللاديني وتصله بالتاريخ والزمان والمكان. وبذلك يكون أساس الأخلاق ومرجعها المعرفي هو حرية الإرادة الإنسانية أو حقوقه الطبيعة، بوصفها المطلق الذي حل محل الله لا الله، والدين كمصدر نهائي للأخلاق والعلاقات الآمرية والتعاقدية في الحياة الإنسانية. لتكون الأخلاق في المفهوم الحداثي، أخلاقا تتقاطع مع أية ثوابت أو أديان أو مطلقات، فهي مسألة فردية نسبية، تخضع للتطور والتحول، وكل إنسان أو مجتمع يرسم الأخلاق التي تناسبه. فما قد يكون فضيلة هنا، قد لا يكون كذلك في مجتمع آخر. أو بعبارة فلسفية: فالأخلاق لا علاقة لها بالفضيلة أو الاحتياجات الروحية أو المعنى، وإنما لها علاقة بالسعادة والنشوة الجسمانية وباللذة والمنفعة، وبالتالي يعُرِّف الخير والشر تعريف ماديا كميا، فالخير هو ما يدخل المنفعة واللذة والشر هو عكس ذلك هو ما يسبب الألم والضرر، والمعنى أن الحداثة ومطلقها في الحرية يجعل من الأخلاق وتجلياتها العلائقية مسألة نسبية ومجموعة قيم متغيرة دوما بتغير البنى التحتية فالمعروف هو ما تعارفت عليه قيم وعادات زمانه، والمنكر هو ما أنكره العرف الاجتماعي وقيم زمانه، لتصبح منظومة القيم الليبرالية المؤسسة على مطلق الحرية الفردية "الإله الجديد" هي تلك المنظومة ذات الأحكام البشرية التي يصدرها الفرد "الحر" كناتج لعلاقة تفاعلية بينه والأفراد "الأحرار" من حوله فهي متغيرة ومتطورة حسب الزمان والمكان. فإذا ما أدى الفرد الحر واجبه المهني مثلا على أكمل وجه فهو مواطن خير صالح جيد، أما إن تقاعس في الأداء الوظيفي وانخفضت الكفاءة فهذا هو الشر، هنا يتم قطع أية صلة بين الدين والقيم. وتتحول القيم إلى منفعة مادية. وعندئذ يمكن بل يجب تجاوز مفاهيم ومقاصد الحياة الإنسانية كمقاصد العفة واستمرار النسل وزيادة الإيمان وبناء الإنسان الصالح ...إلخ، كونها منظومة دينية تناهض لذة فاحشة الزنا والشذوذ الجنسي وزنا المحارم والسفور وسائر أشكال التعري والمجون...إلخ، كونها في النظر الديني علاقات وأحوال تمثل خطرا على مصير الإنسانية وبقائها واستمراريتها، ولا تجيز سوى علاقات عقود "الزواج" بين الذكر بالأنثى فقط، يقول تعالي: (يُرِيدُ اللّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَيَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِن قَبْلِكُمْ وَيَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَاللّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ * وَاللّهُ يُرِيدُ أَن يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَيُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَوَاتِ أَن تَمِيلُواْ مَيْلاً عَظِيمًا * يُرِيدُ اللّهُ أَن يُخَفِّفَ عَنكُمْ وَخُلِقَ الإِنسَانُ ضَعِيفًا) { النساء 26/28}. وبذلك تتجاوز الحضارة الغربية "الحداثية" – وبغير كثير مفاجأة - في كل يوم جديد واحدا أو أكثر من المفاهيم الدينية الأخلاقية، ومثالها أن مسألة الشذوذ الجنسي وزواج المثليين – وفق منظور الحرية الفردية الحداثي - يعتبر حقا من حقوق الإنسان، فكان أن سيطر الشواذ على أهم المواقع الإستراتيجية في الكثير من بلدان "الحداثة" في أوروبا وأمريكا بل وفي اللجان التابعة للأمم المتحدة، وهكذا يظهر تهافت مذهب الحرية الفردية وخطره على مصير الإنسانية وعدم قدرته على وضع نظام أخلاقي للإنسان ولو من باب شرعة حقوق الإنسان، لنقرر أن الدين الإلهي هو منبع الأخلاق ومصدرها لأنه من عند الله، وصانع الشيء أقدر على وضع النظام الأمثل لسيره وعمله وصيانته، فالنظام الأخلاقي الصحيح موجود في القرآن الكريم وفي السنة المطهرة ولذلك كان النبي صلى الله عليه وسلم خُلقه القرآن وبعث ليتم مكارم الأخلاق. ودلالة ذلك إننا يجب علينا وجوبا أخلاقيا أن ندافع عن فلسفة الأخلاق في الأديان والإسلام على وجه الخصوص، كمنظومة جامعة للقيم الأخلاقية للإنسانية، بحيث يجب أن يكون المرجع لمنشأ القيمة الأخلاقية فيها مرجعاً خارجاً عن وضع الإنسان، بيد أنه من وحي الله وأوامره المنزلة. بمعنى أن تقرير كون الفطرة اللاحقة أو عدم كونها مصدراً للآمرية الأخلاقية، بين البشر ينبغي أن يتم بالنسبة إلى حالة الإنسان التي هي حالته الخلقية، لا بالنسبة إلى حالة حرية طبيعية "متوهمة"، أو تصور مفترض للتفكير "الحقوقي" فيها والحكم على مراحل تاريخها، وهكذا بالنسبة لكل قراءة للحرية الإنسانية تضفي بعض الصفات غير المهمة، وتعطيها صفات الأصالة، وفي معزل عن حالة الإنسان المتخلق بالأخلاق الإلهية، فإنها بالضرورة قراءة ناقصة ومشوهة لمصدر الأخلاق والحرية والكرامة الإنسانية.