إرادة الحياة معروفة، وهي أكثر تداولاً في التعبير عن حال الأفراد (يُظهرون قدراً جديراً بالإعجاب من البسالة في مواجهة مهدِّدات الحياة) منها في التعبير عن حال الشعوب والأمم (تُظهر الشيء نفسه في مواجهة المعضلة ذاتها). ولكن إرادة الحياة متفشية في الشعوب والأمم بدرجة ليست أقلّ وضوحاً عند الاستقراء قياساً بانتشارها كظاهرة بين الأفراد لولا أننا لا نلقي بالاً في العادة لتتبُّع سِيَر البشر مجتمعين مثلما نفعل ونحن نلاحظ سلوكهم فرادى وأيٌّ منهم يمتٌّ لأيٍّ منّا بهذه الصلة أو تلك من صلات الرحم أو الصداقة أو الجوار أو حتى مجرّد الوقوع في محيط أبصارنا وملاحظاتنا بدون علاقة وطيدة وأحياناً بلا علاقة على الإطلاق. إرادة الحياة تتجلّى لدى الأمم أظهر ما تتجلّى بعد الحروب مباشرة، والأدق في تقديري أن تلك الإرادة أكثر ظهوراً خلال الحروب.. خاصة تلك التي تمتدّ ردَحاً من الزمان يُقدَّر بالسنوات أو العقود، فالأمة الأوهى إرادةً للحياة تتخذ الحرب ذريعة للقعود حتى تصبح حياتها مع الحرب أشبه بالموت، وإذا كانت الحرب بالفعل عذراً لا يخلو من الوجاهة لتبرير التقاعس عن العمل الجادّ المعتاد في ظلال السلام فإن الأمة المتقاعسة إلى حدّ السكون أو الانهزام شبه الكامل أمام العمل في حالات الحرب غالباً ما تجد مع السلم ذرائع أخرى تبرِّر بها مستويات أدنى من الأداء في الحياة العملية. الشعوب التي تتحلّى بإرادة الحياة تجد مع الحرب متسعاً للعمل باتخاذ أساليب حياة مختلفة إنْ عن طريق حِيَل من قبيل إعادة الانتشار في المكان أو باصطناع خطط متبدّلة للإنتاج والتوزيع تستغل الفسح المتاحة خلال الهدنة بين غارة وأخرى سواءٌ أكانت الهدنة لساعات أو أيام أو ما وراء ذلك من الزمان. غير أن من الأمم ما يتجاوز إرادة الحياة إلى إرادة الإبداع فيكون همّه أن يُنتج على غير مثال واضح سبقه، الأعجب أن يكون ذلك ديدن الأمة حتى وهي في حالة حرب.. أو ما يشبه الحرب. وكنت في موضع سابق قد أبديت تقديراً كبيراً للروح المصرية التي أصرّت على الإبداع في تفاصيل ثورة محتدمة حتى إذا كانت فكرة الثورة نفسها قد استلهمتها من أمة مجاورة (تونس) أقلّ عدداً وعتاداً. وبرغم الفرق الذي أرجو أن يكون واضحاً بين إرادة الحياة وما أعنيه بإرادة الإبداع فإن الأخيرة تستوجب الأولى بالضرورة، فالأمة المتحلِّية بإرادة الإبداع لا بدّ أن تكون متحلِّية سلفاً بإرادة الحياة.. والعكس غير صحيح بالضرورة، فإرادة الحياة ليست كافية لضمان إرادة الإبداع. ساقني إلى الاستقراء أعلاه إدمان الوقوف على حالنا وحال الشعوب والأمم من حولنا وعقد المقارنات التي يستتبعها ذلك الوقوف المتكرر في إصرار. وكثيراً ما كان بعضنا.. بل أكثرنا (وأكاد أقول كلّنا باستثناءات جدّ معدودة) يقفز بالمقارنة إلى المثل العليا المشتهاة في الحياة العملية لدى بعض الدول وشعوبها متجاوزاً المُثل الأدنى إلى التحقق على الجوار.. ليس الجغرافي بالضرورة، ففي محيطنا الإقليمي ما يتجاوزنا بكثير. لا أودّ أن أبدو محبطاً فوق الاحتمال، ولكن إذا كانت إرادة الإبداع ليست متحققة عندنا (وأرجو أن لا يكون ذلك محلّاً لخلاف كبير) فإن تفشي إرادة الحياة نفسها فيما بيننا هو موضع شك إذا كان المقصود الحياة المدنية الحديثة وليس مواجهة تحدِّيات الهلاك بأبسط مقوِّمات العيش مما يحق لأهل بوادينا وقرانا المتواضعة أن يتيهوا به على مرّ تاريخنا. وإذا كان تعريف الإبداع في البادية مربكاً بحق لأن البوادي جُبلت على التقليد، فإن هذا الإرباك في التعريف يمتد ليطال القرى التي لا يتجاوز إبداعها الإضافات المتمهِّلة على استحياء للفلكلور. هكذا يبدو الإبداع كما لو كان بحاجة إلى مدينة ينهض على أكتافها، ولا يجب أن يُحسب هذا المنطق مقلوباً، فحاضنة الإبداع هي البيئة التي لا تسمح فقط بالتجديد وإنما تحض عليه حضاً، وهو أمر لا يكون سوى في الحياة المدنية المعقدة، حتى إذا نشأت فكرة الإبداع وترعرعت أصبحت العلاقة بين الحياة المدنية المعقدة وبين الإبداع متبادلة من حيث التغذية والانتفاع بحيث تتحقق الحضارة وتنهض في أيٍّ من أشكالها ومستوياتها. الأمر لدينا إذن خطير لأننا نمارس إبداعنا في المدينة على إحدى طريقتين: إما الاستنساخ من غيرنا من الأمم (المجاورة تحديداً) وحساب ذلك إبداعاً بوصفه جديداً على الحياة في بلادنا، وإما من باب الإضافات المتمهلة على استحياء للفلكور مما هو خليق بالبوادي والقرى وموافق لأنماط عيشها على مرّ العصور، ولا تحفُّظ عندي في الجملة الأخيرة سوى أن القرية باتت جزءاً أصيلاً من المدينة في الحضارة الحديثة لا امتداداً للبادية كما هو حالنا وحال كثير ممن حولنا. على أن إرادة الإبداع ليست منتهى أمل الأمم في معرض السموّ الحضاري، فالخطوة التالية هي إرادة الإلهام، وهي إرادة معنية بالتأثير على الآخرين إلى حدّ الاقتداء. في المحيط العربي لن أقول إن مصر هي النموذج الأظهر لذلك فحسب بل إنها تكاد تكون النموذج الأوحد، وهي عندي عموماً مثال غريب على الولع بالتأثير على الآخرين حتى إذا كان ذلك من خلال إبداع مأخوذ عن الغير ومُذاع للآخر على طريقة إعادة التصدير.. أو حتى إعادة التدوير. وإذا كان الإبداع العربي عموماً في مأزق أمام الإبداع العالمي، وكانت الحال نفسها منطبقة على غير العرب في محيطنا الإقليمي وغيره، فإننا في السودان لا نزال أمام معضلة كبيرة مع إرادة الحياة فضلاً عن إرادتي الإبداع والإلهام، وذلك في المدينة تحديداً كما أسلفنا.. لا لشيء سوى أننا لا نزال نضمر فيما يبدو رغبة دفينة وعنيدة في العيش داخل البادية.. أو القرية على أبعد حدود المغامرة الحضارية.