الخرطوم: إشراقة مكي علاقة حميمة ربطت الفنان الراحل محمد عثمان وردي بجيرانه، فكانوا زاده والرفقة التي لم يمل منها فترك بداخلهم ذكريات وأغنيات ما بين الديم وبري المحس ومربع (3) الشجرة جنوب والكلاكلة صنقعت محطة (3) والعمارات شارع (61) وأخيراً المعمورة. في هذه المساحة نتلمس ذاكرة المكان "الحميم" وتأثير وردي على جيرانه وتأثيرهم عليه. * طيب المقام أول إقامة للفنان محمد وردي بالخرطوم كانت بمنطقة بري المحس، وعنها يقول المهندس وردي صالح حسن ابن عمه الذي تربى معه بمنزل واحد: عندما قبلت بالمعهد الفني الذي لم يكن به سكن داخلي للطلاب المقبولين من الولايات قدمت مباشرة إلى المنزل الذي كان يقيم فيه محمد وردي بمنطقة بري المحس ومن ثم انتقلت معه للإقامة بمنزل العازف علي ميرغني الذي كان يسكن بمنطقة الديم لأن والده كان موظفاً بالسكة الحديد، وبعد سنوات انتقلت معه مجدداً للإقامة في حوش كبير كان يمتلكه أحد ضباط السجون بواسطة أبو القاسم هاشم، ولكن بعد زواجه من شقيقتي (ثريا صالح) انتقل للسكن الدائم بمنطقة الكلاكلة صنقعت الذي أقام فيه منذ السبعينات حتى قيام ثورة الإنقاذ وقبل خمس سنوات انتقل إلى بيته الجديد بالمعمورة. ويؤكد المهندس وردي أن حياة ابن عمه محمد كانت حافلة بالأحداث منذ زواجه بالسيدة (علوية) عقب أحداث اكتوبر الشهيرة ويضيف: رفقتي لمحمد لم تنقطع حتى أواخر حياتي وبالرغم من أني أصغره بأربع سنوات إلا أن المرض أقعدني والتقيته قبل أسابيع وكان بصحة جيدة وأعدنا ذكريات كثيرة بيننا لأننا تربينا في بيت واحد وكان يمثل لي الأخ الأكبر، لأنه بعد وفاة والديه، رباه والدي صالح وتكفل بتعليمه، ويقول وردي صالح بعد عودتي من ألمانيا بدأت أؤسس لبيتي الخاص وبالفعل وقع اختياري على منطقة الشجرة ولكن فشلت في إقناع محمد أن يشتري إحدى القطع، إلا أنه بعد زواجه من شقيقتي وقبل أن يستقر بالكلاكلة صنقعت أقام مؤقتاً بمنزل للإيجار بالقرب منا وانتقل لآخر بنفس الشارع، ولكن في عام 1976 اشترى من قريبنا حسن سيد بيتا الكلاكلة صنقعت يقيم فيه الآن ابنه عبد الوهاب مع أسرته وشقيقته فتحية عثمان. ويقول راشد صالح إن عمه محمد عثمان وردي كانت تمتلكه روح المكان الذي أتى منه وهو الذي أتى من (دفوي وردي) بمعنى قصر وردي وهو بيت الجد الكبير الذي أصبح أنقاضا يحكي عمق التاريخ وروح الشمال وشموخ صاحبه الذي غنى للنيل والوطن والأم التي افتقدها وحبيبته، وهو ما زال باقياً بمنطقة صواردة يحكي تاريخ الأسرة ويجاور بيت الجد حسن وردي الذي نشأ في كنفه المرحوم برعاية عمه صالح الذي كان بمثابة والده. * مربع (3) رقم (267) الذي اكتشفناه بمنطقة الشجرة أن هنالك فرعا كبيرا لأبناء عمومة الفنان محمد وردي خلاف ابن عمه وردي صالح، لأن البيت الذي أقام به محمد وردي بالشجرة مدة تقل أو تزيد عن أربع سنوات ويحمل رقم(267) يجاور منزل ابنة عمه صالح السيدة سلمى، وهناك منزل يبعد عنه خطوات انتقل إليه أيضا قبل أن يفارق حي الشجرة جنوباً، ويقول لنا طه حسين سيد ابن خالته ورفيقه إن محمد عثمان وردي أتى للخرطوم أول مرة ممثلاً لنقابة معلمي حلفا حاملاً مطالب زملائه ونزل وهو في طريقه للخرطوم بالدامر أولاً، ومن ثم عندما وصل الخرطوم نزل ببيتي بالشجرة هو وأحد المعارف اسمه إبراهيم عبد الماجد وبعد الفراغ من المهمة رجع إلى أهله، وعندما عين معلماً بالخرطوم أحيا أول حفل لأسرة حلفاوية بالشجرة بمناسبة زواج حسن محمد حسن البربري قبل دخوله الإذاعة وكنت أرافقه كثيراً وأزوره بمحل إقامته بمنزل الأستاذ علي ميرغني بمنطقة الديم جوار بيوت الحجر، إلا أنه رجع إلى صواردة وسافر منها إلى مصر فترة ثم عاد مجدداً للإقامة بمدينة بري المحس بعد زواجه، ومن ثم جاء للسكن بجوارنا بالشجرة قبل انقلاب هاشم العطا بالمنزل الناصية الذي يعرفه الكل ببيت وردي. * دموع وضحكات وعن الاحداث التي شهدها بيت الشجرة اول حالة غياب لصاحبه عند اعتقال محمد عثمان وردي بعد فشل انقلاب هاشم العطا، واكتنف الغموض مصيره والرعب الذي بثه احد جيرانهم عندما قابل ابن خالته طه حسين صباحاً واخبره أن وردي انتحر في السجن، وهنا يقول طه لقد فقدت عقلي وذهبت مع عدد من الاقارب لمستشفى الخرطوم للتأكد من الخبر وبالفعل قابلت دكتور سعيد كيلاني الذي نفى وفاته، ولكن لم تطمئن نفوسنا وذهبنا إلى قريبنا العم عبد الرحيم سعيد الذي كان كبير الياورات بالقصر الجمهوري ليساعدنا في رؤيته الا انه لم يستطع أن يفعل شيئاً، ومن ثم توجهنا إلى منزل الدكتور محيي الدين صابر "بلدياتنا في شمبات" فرحب بنا وتعهد بأن يبذل ما في وسعه، الا أن محاولاته ايضاً باءت بالفشل بسبب تعنت حكومة نميري آنذاك، وفي الآخر توجهنا إلى السجن مباشرة وبعد جهد اقنعنا احد حراسه أن يسمح لنا فقط برؤيته بأعيننا من بعيد حتى نتأكد أنه حي، وعندما فتح الحارس الباب رأيناه جالسا على برش وبجواره الفنان محمد الامين وعدد من الاشخاص وهم يلعبون الورق وعندما هممنا بالدخول نهرنا العسكري بشدة واغلق الباب وهو يقول: عايزين تجيبو لي مصيبة؟ ما كفاية الولية امبارح جابت لي كفوة بسبب وردي (والذي عرفناه ويرويه طه: أن زوجة الحارس جاءها صوت وردي وهو يغني ليلاً فما كان منها الا أن جاءت تتصنت لغنائه عبر الجدار وكان المكان مظلماً ومهجورا تكثر فيه الاوساخ فأصيبت بلدغة عقرب) لهذا طردنا شر طردة. وتروي هنا السيدة سلمى صالح ابنة عم الفنان محمد وردي، أن ابن عمها فقد والدته مبكراً قبل أن يتمكن من المشي، لهذا تربى معهم تحت كنف والدها صالح حسن وردي، وتذكر أن محمد عندما فشل في العبور للمرحلة المتوسطة سافر إلى جده حسن وردي بمصر وطلب منه أن يسمح له بأن يدرس الموسيقى إلا أن جدي رفض طلبه وأمره فوراً أن يعود إلى عمه صالح حتى يمتحن من جديد ليكمل دراسته الاكاديمية، ولكن تؤكد سلمى أن حب الغناء والموسيقى كان متمكناً من روح ابن عمها لانهم وهم في سن صغيرة كان يحلو له أن يجمع اشقاءه وشقيقاته ويعزف على (الطنبور) ويغني ومن ورائه يرددون ولكن بمجرد دخول عمه صالح البيت كان يكف من امامه وتتولى سلمى مهمة إخفاء الطنبور حتى لا يتعرض وردي للعقاب بسبب حبه الجارف للغناء. وعن الذكريات الاخرى التي ما زالت عالقة عن حياة وردي يقول طه حسين ما زال الوقت مبكراً لسرد هذه الأشياء لأن جرح الفقد ما زال ساخناً وأنه يكاد الآن لا يذكر أي شيء عنه، لأن زيارته الأخيرة له مع اسرته بمنزله بالمعمورة كانت عبارة عن استعادة للايام الحلوة واللحظات السعيدة والحزينة التي مرت به، كما انه تذكر في ذلك اليوم والدته بشوق شديد وهو لا يمتلك لها صورة ولا يذكر بالطبع معالمها لانه فقدها وهو صغير، وهذا شيء كان يحز في نفسه كثيراً، ولكن الموقف الذي اذكره أن قدم لي احد الاشخاص وهو غاضب جداً وعاتب على وردي بشدة لأنه يتغنى (بنور العين) بهذا الشكل الغزلي ولم يراع مشاعره لأنه صادف أن اسم الاغنية تشبه اسم ابنته، وعندما قابله وردي أوضح له انه فنان يؤدي كلمات شاعر اعجبته وعليه أن يقابل الشاعر اسماعيل حسن ويستمع لتبريره، وبالفعل اخذناه لاسماعيل وعندما سمع شكواه رد عليه بسخرية الشايقية المعروفة: (ها زول منو القالك انا شلت اسم بتك، انا والله غنيت لنور عيني دا). * ميدان وردي البيت الاخير قطعنا مسافة نصف ساعة للوصول اليه من الشجرة ونحن نسابق الشمس حتى لا تغيب ، الا اننا وصلناه بعد مغيب الشمس، مواصلات الكلاكلة صنقعت لم تستغرق منا الكثير لكن الوقت كله اخذته جولة الشجرة مع اقارب الاستاذ الراحل، وبعد أن وصلنا محطة (3) وقطعنا الشارع سألنا عن بيته المعروف للجميع وبعد اقل من عشر دقائق وبرفقتي الصديقة منال عثمان سيراً على الاقدام وقفنا امام بيته الناصية الذي يقع بالجهة الشمالية من الميدان الذي يحمل اسمه هو والجامع، وادخلتنا إلى البيت احدى الجارات قابلناها عند الباب، واستقبلتنا رحاب حسن ابنة شقيقته فتحية التي لم نحظ بمقابلتها لأنها لم تحضر لمنزلها بعد، كما أن زوجها الاستاذ حسن عبد الماجد صديق ورفيق الراحل وردي بالمعتقل سابقاً لم تسمح ظروفه المرضية أن يجلس معنا لهذا تحدثت الينا مشكورة رحاب برغم الارهاق المتمكن منها وقالت: هذا البيت كانت تقيم به زوجته الراحلة (علوية) إلى أن وافاها الاجل وهو بيت مصمم للإقامة فيه بشكل عائلي لأن صالون الحوش يحتوي على خمسة أبواب شكلت على الطراز السكني النوبي القديم وملحق به حديقة ومسرح بمساحة 600 متر شهد كل الاحتفالات العائلية من اعياد ميلاد والختان، واقام الخال محمد وردي بهذا البيت منذ 1976 حتى 1989م ولم يفارقه الا بعد هجرته خارج الوطن واقامته بالقاهرة 14 عاماً وعاد اليه مرة اخرى في 2002م وبعد عودته الشهيرة وسفره للعلاج بدولة قطر شرع في بناء بيت المعمورة الذي استقر فيه وترك هذا البيت لبعض اقاربه وشقيقاته. وتؤكد رحاب أن الميدان الجنوبي للمنزل الذي اطلق عليه ميدان وردي وكذلك على الجامع نصب فيه اكبر صيوان عند زواج ابنته صباح، والآن المنزل يقيم به من الناحية الشرقية ابنه عبد الوهاب مع اسرته والجزء الغربي تقيم به والدتي فتحية. * تعريف الصور الملحقة بالموضوع 1. وردي صالح ابن عمه وصديقه الحميم 2. عمه صالح حسن وردي الذي رباه وتكفل بتعليمه 3. اول اقامة له بمنزل الشجرة رقم 267 4. ابن خالته طه والفاتح وراشد 5. ابنة عمه سلمى صالح اول مشجعة له 6. حفلة عدن باليمن الجنوبي الشهيرة 7. ثاني منزل يقيم به بالشجرة 8. بيت الكلاكلة صنقعت 9. انقاض دفوي وردي الجد الكبير في صواردة 10. بيت جده حسن وردي الذي ترعرع فيه وظهرت موهبته الغنائية 11. صورة نادرة للفنان وردي من استديو صبير فوتو بأسمرا المأخوذة في 12/9/1963.