محمد أحمد بشيري حكى إعرابي وفد إلى حضر من باديته: أنه حضر حفل عرس في المدينة علت فيه أصوات الحضور بالثناء على شاب، فخرج وجاء بخشبة عيناها في صدرها، فيها خيوط، ثم استخرج عوداً رقيقاً عرك به الخيوط، فنطقت ورب الكعبة، وإذا هي أحسن أمة مغنية، فأطربني حتى استخفني من مجلسي، فوثبت وجلست بين يديه- وقلت: "بأبي أنت وأمي- ما هذه الدابة! فقال هذا البربط "العود" ومن لم يستخف طرباً حينما يجسسه ويداعب أوتاره بأنامله، حتى يخال أنه ينطق، ومن لم يتمايل طرباً في حسن غنائه، ورخامة صوته، حتى يكاد ينفطر القلب شجناً!! وقد امتلك ناصية الغناء في وقت مبكر من عمره، وأصبح جزءا من وجدان الشعب، ولد في قرية صواردة، وفقد والديه وهو لم يزل طفلاً غريراً، وكما ذكرت في مناسبة سابقة أن القرية هي المنجم، الذي يضم بين جوانحه معظم الكنوز البشرية في الحياة والتاريخ الحديث. ومن هذا المنجم خرج وردي، بعد أن استنشق عبير النباتات الطفيلية الرقيقة التي تنبت وسط أعواد القمح وسيقان الذرة، وبعد أن ملأ رئتيه بنسيمات النيل، وصقل حنجرته بالغناء وهو مستلق على التكم يحس الثور على تحريك دولاب الساقية "الأرقديك". إن مشاعر الوفاء للقرية من أبناء الشمال والحنين إليها لا تخفى على أحد، وهم يتمسكون بلهجتهم، ويصعب على الكثيرين التخلص من الرطانة، وإيقاعها مهما بلغوا من مراتب العلم والتمدن، وهذا يجعل البعض في حيرة من أمرهم في مجتمعات لا تتعاطى الرطانة، ولذلك يرسمون على وجوههم تقطيبة مصطنعة يحاولون تعويض ما يعتبرونه نقصاً. وفي هذه القرى والجزر التي تكسوها الخضرة اليانعة، وتحفها أشجار النخيل الباسقة يراود الكثيرين من قاطنيها من الشباب حلم الغناء بآلة الطمبور ذات الأوتار الخمسة، التي تشبه نغماتها أصوات أنين السواقي التي استبدلت بماكينات الديزل لرفع المياه. الدهشة وحب الاستطلاع دفعا الشاب اليتيم إلى التقصي والتحري عن هذه النغمات، التي مست شغاف قلبه فأخذ يراقب الأجانب الذين يفدون إلى بلدته الصغيرة لأغراض التجارة أو أعمال البناء "الطيانة" حيث يجيدون العزف على الطمبور والغناء في ساعات راحتهم أو القيلولة. ومن خلال سيرة وردي الذاتية، نجد المؤثرات الفاعلة التي تحرك الحواس وتنمي المواهب وتدفع بالوجدان البكر إلى الابتكار والإبداع منها النيل العظيم الذي يتسع مجراه في هذه المنطقة ويلبس ثوباً من العظمة والوقار حيث يكون في عنفوان سريانه سافلاً. والمراكب التي تطفو على صفحة هذا العملاق ومن أجمل المشاهد وأغربها، تلك الكناتين المتنقلة بالمراكب الشراعية، حيث ينصب كشك من الأخشاب وسط المركب، يحمل بمختلف البضائع ويجوب بها القرى على شاطئ النيل. ومن تلك المؤثرات أيضاً مواسم الحصاد حيث يجمعون الفلال والثمار في تعاون "فزع" مع مشاعرهم الدافئة بصاحب المحصول، وتمنياتهم الصادقة بمزيد من الإنتاج. ومن تلك المؤثرات مراسم الزواج، وطقوس ختان الصبيان. وعندما طرق الفنان وردي أبواب الغناء لم يكن هناك ما يستعصي عليه، حيث استمد حضوره من هذا الإرث، وجراءته في مواجهة الجماهير من وقوفه أمام أشقياء صغار يلقنهم العلم لا يقلون شراسة عن جماهير غاضبة، ومنهم تعلم العبر وتقلب على وسادته على الرغم من قصر المدة التي عمل فيها معلماً. واحتمل عنت وتجبر مطاردته من أفراد أمن مايو بجلد وصبر، ودفع الثمن تشديداً وحبساً. وكنت حضوراً في حفل له بمسرح البالون بالقاهرة في النصف الأول من ثمانينات القرن الماضي، وقد امتلأ المسرح حتى لم يبق موضع لقدم، وكان من بين الحضور عدد من أفراد جهاز الأمن حضروا خصيصاً من العاصمة لمتابعته، وهكذا هزت كلمات وأغاني وردي الوطنية نظام مايو الشمولي، وتقضي مضجعه حتى ذهب النظام إلى غير رجعة. وكان أول صدام مع السلطات الحكومية مطلع الستينات مع حكومة المرحوم عبود في مسألة موطنه وادي حلفا، وقد وصلت هذه المواجهات ذروتها في عهد المايويين. حينما اختط لنفسه نهجاً سياسياً مقرراً أن يوظف إمكاناته الفنية لخدمة رؤيته السياسية، فكان أول فنان سوداني يتحف المتلقين بهذا الكم الهائل من الأناشيد والأغاني الوطنية، ولعله من الغرائب أن يتساوى التجاوب الجماهيري قبل أن تتقاذفه التساؤلات والحيرة: أيهما أفضل في الورديات الأغاني العاطفية أم الأهازيج الوطنية؟ والمعروف أن الأغاني والأناشيد الوطنية مكانها وزمن بثها وغنائها في المناسبات المعنية بتلك الأغاني، ولكن وردي كالشاعر الذي يمسك بناصية الشعر وبراعة النثر في ناحية أخرى، أغانيه الوطنية والعاطفية صنوان، كلاهما تهزان المشاعر، وتدغدغان الحواس، وتنفثان الآهات من الصدور قسراً، ولا يمكن لأحد مهما أوتي من معرفة وخبر مسالك ودروب الفن أن يفسر هذا الإقبال الجماهيري والمحبة الزاخرة لأعمال وردي وبالتالي لشخصه، وسبحان الله فقد بدأت الرابطة بينه والجماهير قوية في الساعات الأولى من سطوع نجمه، فقد حالفني الحظ وكنت حضوراً في حفل بهيج بمنزل عبقري الغناء إبراهيم الكاشف بحي الزهور في النصف الأول من الستينات، أمانة الفنان الكبير بعد أن رزقه الله بولد، ودعا أعلام الموسيقى والطرب آنئذ وللمرء أن يتصور حفلا غنائيا في دار ملك الغناء والطرب وكان من بين هذه الكوكبة من الفنانين - وردي- ولم يمض على ظهوره سوى سنوات قليلة، ولكنه كان حديث الجماهير، الذين تململوا في مقاعدهم يستعجلون ظهوره، منتظرين وصلته الغنائية بفارغ صبر، وعندما حان دوره انسحب العازفون بكامل عدتهم وعتادهم رافضين مصاحبته بالعزف لأسباب لم تكن تستوعبها، وكاد أن يعتذر بدوره للفنان الكبير، ولكنه انصاع لإرادة الجماهير، وغنى بمصاحبة العود فقط كما لم يغن من قبل وقدم أغنيته الجديدة، التي ذاع صيتها وعم القرى والحضر: بعد أيه جيت تصالحني بعد ايه، كلمات إسماعيل حسن وعدد من أغانيه، حيث انتشى الجمهور وتمايل طرباً وحملت على الأعناق عقب انتهاء الحفل. رحم الله محمد عثمان حسن وردي، الذي عرف ذوق الشعب ومزاجه، ومشاعر الجماهير، ولذلك تربت لديه حاسة تمكنه من معرفة الجمهور الذي يغني له حيث قدم لهم الكثير مما يرضيهم.