كان أن وقف بقامته المهيبة يتغنى بأناشيد الحرية ونحن في فجر الصبا يهدر مثلما تهدر شلالات نهر النيل من عل فيجر في دواخلنا الغضة الزهو ويحرك في دواخلنا الاعتزاز النبيل.. ينشد روائع الشعراء الأفذاذ محجوب شريف وود المكي إبراهيم وعلي عبد القيوم ومرسي صالح سراج.. فيحيل القوافي إلى براكين.. * أحبك ملاذ وناسك عزاز أحبك حقيقة وأحبك مجاز * الحقول اشتعلت قمحاً ووعداً وتمنى والكنوز انفتحت في باطن الأرض تنادي * أي الأناشيد السماويات لم نشدد لاعراس الجديد بشاشة أوتارها * ونغني لك يا وطني مثلما غنى الخليل مثلما غنت مهيرة تلهم الأجيال جيلاً بعد جيل * طرب النيل لديها فتثنى كان يغني لا كما يغني المغنون.. فهل رأيت مساماً تغني؟ أم هل شهدت ذرى الجبال تغني.. أم هل رأيت النيل يغني؟ أم هل رأيت التاريخ يغني؟ أم هل سمعت الوطن يغني؟ فكيف بالله أحدث ذلك النوبي القادم من أقصى الشمال السوداني كل تلك الجلجلة الخلاقة وكل ذاك الصخب الجميل؟ كان إن نثر الشدو خالصاً للشجن والحب حرك في شراييننا البرح ولواعج الغرام: بالله يا طير قبلما ترحل تمر على بيت صغير عيونك زي سحاب صيف تجافي بلاد وتسقي بلاد. فهل ترى عناه صديق دربه وصفي روحه الراحل علي عبد القيوم إذ يقول: أيها الطارق باب الدار ليلاً جئت بالفجر وبالأمطار تهمي والبذار فسلاماً لك في دارك أعياها البوار وسلاماً لك ابنا وأبا وسلاماً لك فكراً صائباً وسلاماً لك سعياً دائباً وسلاماً لك تهدى للوطن بارق الوعد وسيف الانتصار وسلاماً لك ترقي بالوطن من مدار لمدار لمدار كان اجتياح وردي لأفئدتنا وجوانحنا في زمان العمالقة الكبار.. كان ذاك في بلادنا، زمان السامقين في ضروب الفن والإبداع الإنساني فأينما أرسلت البصر عاد إليك البصر بالفخار والكبرياء.. وكان الطريق إلى النجومية مقفولاً بالحصون العتية ولا سبيل للاجتياز والسامقون يسدون الدروب إلا بركوبك ناقة الموهبة الفذة والتفرد والعبقرية فما مكث كثيراً حتى اجتاز الحواجز والحصون وأمسك براية الإبداع الموسيقي والغنائي في البلاد والبلاد المجاورة وهكذا فعل من قبله الخليل وكلاهما انحدر إلينا من إرث حضاري إبداعي يعود للوراء لستة قرون خلت.. أما رأيت ما خلف النوبيون في التاريخ البعيد من فن تشكيلي وزخرف ونقوش على الصخر القوى؟ ونهر النيل القديم العظيم المتجدد كان هناك منذ ذلك الزمان.. تقوم وتقعد قريباً منه ممالك النوبة وهو يتحدى الحقب والعهود ويرفل في ثوب اليفاعة والشباب النضير، فما أشبه وردي بالنيل العظيم؟ وما أشبه النيل بوردي؟.. وهل تثنى النيل طرباً وهو يصل بلاد النوبة كما يقول النوبي المبدع مرسي صالح سراج؟ ما أبدع خيال الشعراء؟ طرب النيل لديها فتثنى فأروِ يا تاريخ للاجيال أنا ثائر إذ هب من غفوته ينشد العلياء في ثورته كاندفاع السيل في قوته حدثنا العالم العلامة الخبير الدولي بالمياه والنيل الدكتور يحيى عبد المجيد أن النيل وصل بلاد النوبة وهو يشق المجري من منابعه صوب مصبه في تسعة ملايين سنة فتأمل! ثم ما الذي كان بين وردي والنيل؟ أنظر كيف كان يتبتل ويتسامى وهو يذكر في غنائه النيل: "طرب النيل لديها فتثنى" وإن جيت بلاد تلقى فيها النيل بيلمع في الظلام. تأمل ما خلف وردي من غناء بديع.. هو بالمئات وقف قليلاً في إبداعاته الموسيقية الغنائية التي يرد فيها ذكر النيل وانظر كيف كان يفعل فيها مداً وجذراً وصهيلاً وإباء.. ما الذي كان بينه وبين النيل؟ هكذا هوى ذلكم الطود الذي فجر في جوانحنا الشموخ وبشرنا بزمان الحرية والصفاء النبيل.. نذر العمر أجمعه لاستشراف أمل وضيء وصباح جديد ووطن شامخ أبي.. وقد شيعه أبناء بلده دولة وشعباً في مشهد ينطق بالوفاء والتجلة فهل نقول إلا ما قال صفي عمره الشاعر الفذ علي عبد القيوم وهو يودع صديقه الراحل علي المك وكلهم مضى إلى ربه راضياً مرضياً بإذنه تعالى: لا يحتويك الغياب ولا يحتويك الرحيل تحتويك البلاد التي أوغلت في العويل يحتويك الأديم الذي شاد مجد الطوابي واستضاف فناء القماير تحتويك المدائح صداحة بين صمت المقابر هل يفتديك دعاء المريدين؟ قد زاحموا بعضهم حول نعشك هل تحيط المقابر بالنهر يركض منتعشاً ناشراً فوق كل الضفاف خميلة؟ هل يحيط الضريح بما فيك من لهف للحياة الجميلة؟ كان وردي حفياً بأهل السودان أجمعين لا ينفرد بصحبته أحد، يعرف الآلاف منهم بالاسم ويرد لهم محبتهم له بالمزاح والطرفة وجميل الكلام.. يصادقهم ويزورهم أينما كانوا ويبادلهم المحبة والود. وإن اذكر اذكر لي معه ثلاث محطات على مر الزمان.. الأولى في منتصف الستينيات ونحن في أول مدارج جامعة الخرطوم ووردي ينطلق في بداياته مثلما يفعل الصاروخ.. وكنت قد صحبت صديقنا الراحل الشاعر علي عبد القيوم وكانت تربطه وشائج ود حميم مع وردي وقد تغنى له بأغنية "بسيماتك": بسيماتك تخلي الدنيا شمسية بغمزة طفلة تنشرا وتنصرا إذا ضاريتي بالابنوس سيفناتك ووحياتك تشم ريحة الجروف مغسولة بي وهج القناديل وأشوف شفع بأشروا للقميرة التائهة دورين بالمناديل ويلعبوا في تلال خديك ومرجيحة ضفيراتك قادني علي عبد القيوم وأنا اتحرق شوقاً لرؤية المغني البديع الصاعد كما القمر في سماء البلاد.. وكان وقتها يسكن ببري المحس وسعدت بأن أتاح لي الحظ تلك النهارية الباذخة وأنا أتأمل وردي يؤانسنا بوداد واحتفاء، ويدور الزمان دورته وكلما دار يتألق وردي ويمضى صوب الثريا ويتيح لي الزمان معه المحطة الثانية في أوائل عقد الثمانينات وأنا أدير الحكم المحلي بمنطقة الفاو.. زارني هناك وأمضى معي ثلاثة أيام نعمت فيها بوداده الشفيف وبسماع ما فاتني من شدوه البديع وكنت قد عدت لتوي من لندن التي أمضيت بها زماناً طويلاً.. وقد أتاحت لي زيارته تلك الانفراد به فما كان ذاك يتسنى في الخرطوم والناس يحيطون به من كل فج عميق. والمحطة الثالثة في عام 2003م، وقد أرسلني وزير الثقافة عهدئذ عبد الباسط سبدرات بخطاب لحضور العملية التي أجريت له في الدوحة وكنت قد أمضيت فترتي هناك في ضيافة صديقي النطاس الشهير الفاضل الملك الذي أجرى العملية.. وقد أمضينا معه الساعات قبل وبعد العملية التي كللها الله بالنجاح. تلك محطات أذكرها ولغيري من الناس معه محطات ومحطات وكنت التقي به بعدها لماماً.. أزوره بمنزله من حين لحين وأصادفه مرات متباعدة في المحافل والمنتديات، ذاك هو العملاق وردي الذي رحل عنا فأحدث فراغاً مهولاً في مسيرة الموسيقى والغناء ببلادنا.. نسأل الله العلي القدير أن يتقبله قبولاً حسناً ويجعل مثواه جناته الوارفات.