الرحيل المفاجئ والفاجع للشاعر محمد الحسن سالم حميد،أربك تفاصيل الحياة في العاصمة السودانية والعديد من ولايات السودان المختلفة، فالرجل الذي كان قادما من نوري ليشهد تدشين ديوان الشاعر المتميز السر عثمان الطيب ضمن احتفالية عيد الأم، لم يكن يدري أن رحيله سوف يعيد ترتيب التفاصيل بشكل مغاير، فبدلا من أن يكون حميد جالسا في الصفوف الأمامية، رفرفت صورته على أرواح الجميع داخل وخارج قاعة الصداقة ،بل داخل وخارج مُشرع الكون الفسيح. ولم يكن حميد مجرد شاعر في بلد يكتب فيه "أي زول الشعر " كان يتصدر المشهد الشعري ،وقد أعطى اللغة العامية طاقات شعورية ضخمة وضخ في شرايينها دماء الابداع الحقيقي ،كان كثيف الانتاج ،عميق الكيف وله طريقة خاصة في إلقاء الشعر أصبحت بمثابة بصمة وماركة مسجلة باسمه أغرم بها العديد من الشعراء الشباب وصاروا يقلدونها. وإذا استطاع الفنان عثمان حسين الخروج من تصنيفات "فنان شايقي " وجعل كل الشعب السوداني يتغنى باشعاره وأعطى اللهجة الشايقية بُعدا قوميا ونفسا سودانيا خالصا،فقد فعل الشاعر محمد الحسن حميد ذلك وبصورة أكثر عمقا ،كما أنه لم يذّوب لهجته فيما يسمى بلغة الوسط أو "ستاندر ناس أمدرمان" الذي رسخ له وجود اجهزة الاعلام الرسمية في بقعة الامام المهدي. قدم حميد العديد من الاغنيات لفناني الطمبور ،لكنه انتبه مؤخرا للبعد القومي وبدأ مسيرة ناجحة مع الفنان المتجاوز لزمانه مصطفى سيد أحمد ،وتجاوز الاثنان الجدل العقيم حول أفضلية غناء الدليب او الطمبور او فلنقل الغناء بلهجة الشايقية،هل يكون بالاوركسترا أم يقتصر على تلك الآلة التي يرى كثيرون انها لاتعطي أغنية الشايقية خصوصية مطلقة لجهة ان الطمبور آلة منتشرة لدى العديد من القبائل السودانية. تميزت تجربة مصطفى وحميد في عدة جوانب ،وإضافة لماذكرت،فقد تميزت هذه التجربة ببُعد نضالي وتضامن انساني وجمالي ليس مع الغلابة والمساكين في السودان فقط ،بل اكتسبت صفة العالمية ولو قدّر لهذه الاشعار ان تترجم لوجدت نفس الرواج والقبول الذي وجدته في داخل السودان . ويلحظ المتابعون أن الكثير من الاغنيات التي جمعت بين الاثنين مشبعة بالدراما والمشاهد المتحركة ،وعلى رأسها "عم عبد الرحيم"و "يامطر عز الحريق" ونورا ،إضافة للعديد من الاشعار المطولة التي كان يعطيها بإلقائه المتميز بُعدا مسرحيا لا يخلو من الموسيقى التصويرية المعبرة. كان حميد محبا للسلام واعيا باهمية وضرورة السلام الاجتماعي الذي يبدأ من البيت لذلك فقد كان ابا لاخوته واخوانه وجميع افراد اسرته كان "ودبلد" ثم أحب كل فئات الشعب السوداني واصدر ديوانه ارضا سلاح الذي وصفه البعض بأنه لخص فيه - وفي القصيدة تحديدا - أزمة السودان ووضع خارطة الطريق للحل: اثنيت بك فهَم.. وحدُو القلم ما بزيل بلم،وعلى كيفنا ما كيف الرِمم ،يا نسوْ سلام سودانى أشم فوق القمم ،يا إمّا يا نخب الخبوب ،ذمم الهبوب النافخة دم"! رحل حميد وترك تراثا شعريا ضخمة و... بصمة واحدة فقط!