إن الإنسان يبدأ طفلاً ثم صبيا ثم رجلاً ثم شيخاً، ويبدأ العنفوان وبداية التفكير ورجاحة العقل والمنطق في عنفوان الشباب الذي يحفز بالانطلاق والتحدي لتحقيق الأمل والأمان. فقد كلفت بمهمة عمل لإحدى الدوائر التابعة لوزارة المالية والاقتصاد الوطني بأم درمان وعندما مررت بجانب منزل المغفور له القائد إسماعيل الأزهري رأس الدولة ووجدت حشداً من الناس يتحدثون ويطوفون بمنزله وهم يضحكون ويعلقون مما استدعاني للنزول من السيارة لمعرفة حقيقية الأمر فعلمت أن الأمر يتعلق ببناء منزله والافتخار به والأمل في تطويره وكان في الوقت ذلك يعد المنزل قصراً، فاختنقت وبكيت مع نفسي وتساءلت كيف يستقيم العقل أن يترك رأس الدولة عمله في منتصف النهار ويقف أمام منزله ومن شدة الأمل وبزوغ روح التهور وذهبت لإحدى الجرائد اليومية وكتبت مقالاً مطولاً يتلخص في الآتي: كيف يترك رأس الدولة عمله بالدولة ويقف أمام منزله مع جمهرة من المواطنين. هل كان يملك مثل هذا المنزل لو لم يكن يعمل رأساً للدولة. ج-قامت زوبعة من مقالات القراء، الكل معارض لهذا التصرف وتمت المبالغة بأن هذا طريق الفقر وانهيار الاقتصاد السوداني. وفجأة بعد عدة أيام حضر لي بوزارة المالية والاقتصاد الوطني أربعة من كرام القوم وبكل أدب ولطف أخبروني بأن الريس عايز يقابلني غداً بالقصر الجمهوري في تمام الساعة العاشرة صباحاً فاضطربت وانتابني الخوف وقمت بالاتصال بالأهل وأخبرتهم بما حدث وسولت لي نفسي بأن النية مبيتة لاعتقالي والتحقيق معي وفي حالة من القلق آثرت على نفسي وذهبت للقاء رأس الدولة بالقصر الجمهوري وكان نظري متعلقاً صوب الساعة التي ارتديها ووصلت القصر وتم أخذي لمكتبه وفي تمام الساعة العاشرة إلا خمس دقائق دخل رأس الدولة مبتسماً حاملاً ملفاً متوسط الحجم وبعد السلام والتحية تم تقديم المرطبات طالباً من الحضور بتركنا على انفراد ثم اعتدل في جلسته قائلاً بصوت تشوبه الرأفة والحنية قائلاً لقد قرأت ما كتبته عن منزلي، والزوبعة التي حدثت، والوطنية التي إبداها البعض وكنت آمل قبل أن تكتب ذلك أن تحضر بمنزلي الذي هو دائماً مفتوح لاستقبال الزوار ولكن قدر الله ما شاء فعل خذ اقرأ هذا الملف الذي أعطاني إياه. وكنت مازلت أرتعش رهبة وخوفا ورأسي يزيد في توقعات ما سيحصل وبدأت أتصفح الملف وأقرأ ما فيه ووجدت الآتي: 1-إن رأس الدولة مدين سلفيات عديدة لأكثر من بنك. 2- وجدت صور لشيكات لمبالغ لبعض رجال الأعمال. 3- استغراق بناء المنزل فترات زمنية طويلة. 4- أشار قائلاً كان من ضمن من رأيتهم أمام منزلي من له استحقاقات مالية "ديون" لبناء المنزل. وبعد أن تأكد من مستندات الملف ترقرقت دموعي، ولا أبالغ بارتفاع صوتي بالبكاء وتقدمت باعتذاري وأسفي لما حدث مني. وتلوت قوله تعالي{ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)}"سورة النحل" وقوله تعالى:{ أَتَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَتَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَأَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتَابَ أَفَلَا تَعْقِلُونَ (44)}"سورة البقرة". وغادرت القصر الجمهوري وفي عيني غمامة سوداء تنذر بسقوط المطر وبدأت أردد قصيدة خالنا الشاعر السوداني جيلي عبد الرحمن والتي تحمل عنوان "يد": كل المعاني يا صديقي بقلبك المتورد.. كل المعاني في العيون الظامئات إلى الغد.. ويعود يلفحني السؤال من الحنان الحاقد.