تتداول المجالس وتترقب إعلان التشكيل الحكومي الجديد وفي كل يوم تترى أخبار عن دنو أجل إعلان الرئيس البشير عن حكومته التقشفية الجديدة وظل الجميع في انتظار اليومين المقبلين التي تحدث بها النائب الأول لرئيس الجمهورية علي عثمان محمد طه أثناء مخاطبته أعضاء البرلمان عقب إجازة وثيقة تعديل الموازنة فيما مضى رئيس الهيئة التشريعية القومية احمد ابراهيم الطاهر في ذات اتجاه النائب الأول حيث قال إن الحكومة الجديدة خلال ساعات، الأمر الذي فتح الباب واسعاً أمام الشائعات التي روجت لعراقيل تضعها القيادات أمام تقليص الجهاز التنفيذي ودمغوا حجتهم بحديث سابق لتلك القيادات عن ضرورة توسيع المشاركة في الحكم. المؤتمر الوطني سارع لردم الهوة الزمانية وجاء تعليقه على لسان رئيس قطاعه للعلاقات الخارجية إبراهيم غندور بالقول إن حزبه ما يزال يجري مشاورات بشأن الحكومة مع ائتلاف الأحزاب التي تقاسمه المناصب وتعهد غندور الأسبوع الماضي بإعلانها حال اكتمال تلك المشاورات. ملامح محسنة (شلعوها العباقرة) يبدو أنه أكثر المصطلحات التي تناسب حالة التغيير المستمر في الحكومة الاتحادية فلا يزال الجميع في صدمة عنيفة عقب تشكيل الحكومة الأخيرة التي تلت الترتيبات الدستورية عقب الانفصال والتي أضحت معروفة وسط القطاعات الشعبية بحكومة ال(77) وزيرا، في إشارة رافضة لذلك الترهل الذي يبدو أنه غير مبرر في ظل نظام حكم فيدرالي تقوم فيه السلطات والاختصاصات لدرجة تقلل المهام والاختصاصات كلما ارتفعنا الى أعلى، ولكن الجهات السياسية ربما كانت ترى في الشكل الوزاري الأخير بمثابة مرآة عاكسة لتوسيع قاعدة المشاركة في الحكم. وحين هرع الجميع صوب بوابات التقشف كانت التوقعات تشير الى أن الأحزاب المشاركة هي الضحية الأولى التي ستلقى حتفها في زحام تلك البوابات غير أن نائب رئيس المؤتمر الوطني لشئون الحزب د.نافع علي نافع سارع ببث رسائل تطمينية لأحزاب الائتلاف مؤكداً أن حزبه سيتحمل النصيب الأكبر من التقليص لافتاً الى أن ذلك يدلل على حرص المؤتمر الوطني وتمسكه بمشاركة الأحزاب وحدد نافع نسبة التقليص التي ستطال الوطني بأنها أكثر من 90%. في خضم تلك التصريحات لم ينس نافع القول إن "6" وزارات اتحادية سوف تقلص من الحكومة فيما رشحت تسريبات عن مغادرة ثمانية وزراء دولة يتبعون للمؤتمر الوطني بجانب أربعة آخرين يتبعون لبقية الأحزاب أي أن" 12" منصب وزير دولة –حسب تلك التسريبات- سوف يتم الاستغناء عنها، وأياً كانت التكهنات بشأن تلك الحكومة فإن الرهان على ألا تكون مستفزة يبقى سيد الموقف الذي يمثل كذلك اختبار مصداقية القيادة السياسية أمام الرأي العام حيث وعدت بتقليص وإعادة هيكلة الدولة. تحصيل ضريبي جملة من التحديات ستواجه "حكومة التقشف" وعلى رأسها الحالة الاقتصادية المزرية التي ألقت بظلالها على كاهل المواطن بجانب مدى جدية الحكومة في الالتزام بتطبيق السياسات الجديدة لضمان السيطرة على ما تبقى من موازنة العام الجاري وهنا يقول الخبير الاقتصادي د.محمد الناير إن العوامل الإيجابة التي تضمن اجتياز تحدي الموازنة للعام الجاري تكمن في التوسع في التحصيل الضريبي وتخفيض حجم الهياكل وتقليل الإنفاق العام وزيادة الصادرات وأبدى تحفظاً شديداً تجاه رفع الدعم عن المحروقات داعياً لعدم زيادته في العام المقبل وقال الناير في حديثه ل(السوداني) إن هناك تراجعاً في سعر النفط العالمي يتطلب من الحكومة اجراء حسابات دقيقة رافضاً وجود أي مبرر لاستمرار سياسة رفع الدعم عن المحروقات وأشار الى زيادة "95" الف برميل نفط بنهاية العام ليقفز الإنتاج من "115" الف برميل الى "180" الف برميل يومياً الأمر الذي عده بمثابة انفراجة داخلية ودعا الحكومة المقبلة لتقييم سعر النفط العالمي على أن تطرح منه تكلفة الصادر والقيمة الفعلية للبرميل وكلفة المصفاة وشدد على ضرورة أن تأخذ الحكومة ضريبة واحدة فقط هي "القيمة المضافة" لتقوم بعد ذلك بطرحه للمستهلك ولفت الى أن أي انحراف في زيادة او نقصان يؤثر على تعرفة المواصلات وحركة النقل والبضائع ولم ينس الناير الإشارة الى أن مهمة الحكومة "توفير الوقود"، ومضى قائلاً إن واحدة من التحديات التي ستواجه الحكومة الجديدة هي مسألة التضخم لافتاً الى أن ما تبقى من العام سيتجاوز المستهدف (25%)، قائلاً إن التضخم الفعلي تجاوز المعدل المشار إليه بكثير وربط بين التضخم والنقد الأجنبي مؤكداً أن ما قام به بنك السودان المركزي من حوافز للمصدرين والمستثمرين إن لم يتوافق مع السعر الموازي لن تضمن تدفقات المستثمرين. انفراج سياسي لم يتوقف المراقبون بالداخل من توصيف الأزمة الاقتصادية بأنها تعبير حقيقي عن أزمة سياسية وأكدوا أن حلها يرتبط بإحداث انفراج سياسي قوامه التوافق بين الحكومة والمعارضة وبعيداً عن توصيف المراقبين فإن التغيرات الأخيرة التي طرأت على الوضع الداخلي لاشك أنها ستباعد كثيراً بين حزب المؤتمر الوطني الذي يمثل الأغلبية في الحكومة والمعارضة ففي الوقت الذي يصر فيه الأول على مناقشة قضايا وطنية عامة في مقدمتها إجازة دستور دائم للبلاد تركن الثانية الى تحقيق ذلك ببرلمان انتقالي وحكومة مشابهة له وقد تجلى تباعد الرؤى والمواقف السياسية في حالة الاستقاطاب السياسي التي تشهدها الساحة الداخلية منذ إجازة وثيقة التقشف من قبل الحكومة وبرلمانها الأمر الذي قاد لانقسام داخل المعارضة نفسها ففي الوقت الذي ترى بعض أحزابها أن الضائقة الاقتصادية ربما تقود الحكومة لخطوات متعقلة ترى أحزاب أخرى في الضائقة الاقتصادية مناخاً مواتياً لاقتلاع الحكومة عبر ثورة شعبية، فيما يرى المؤتمر الوطني أن الضائقة الاقتصادية مؤقتة متهماً الأحزاب بمحاولة استغلالها وعدم طرحها لبدائل اقتصادية. حصة وزارية أستاذ العلوم السياسية بجامعة أم درمان الإسلامية د.عبدالقادر يعقوب قال في تشريحه للأزمة الماثلة وتحدياتها على "حكومة التقشف" إن الحالة الاقتصادية المعقدة ماعادت تجدي معها أية جراحات وأشار الى أن الحزمة الاقتصادية الأخيرة لن تؤدي لانفراجه اقتصادية مشيراً الى أن المسألة الاقتصادية برمتها ستلقي بظلالها على الحوار والبدائل السياسية المتوقعة بين الحكومة والقوى السياسية الأخرى ويرى عبدالقادر في حديثه ل(السوداني) أن تنظر كل من الحكومة والمعارضة لمصلحة السودان بجانب النظر للبلدان التي أتاها الربيع العربي وتلك التي لم يأتيها ودعا لأن تكون نظرتهما مصحوبة بالكثير من التوافق والزهد في السلطة قائلاً إن الوضع يحتاج لتغيير واستحب عبدالقادر أن يبدأ ذلك من المؤتمر الوطني وأن يأخذ التغيير بداخله دورة كاملة واعتبر مساعي الأحزاب للضغط على النظام بالحراك الشعبي او إسقاطه غير واردة مشيراً الى أن موقف الأحزاب أمام المؤتمر الوطني ضعيف للغاية بعد عجزها عن حشد الشارع لتغيير النظام ولفت الى أن الأحزاب كانت ستمتلك الكثير من الأوراق التي تمكنها من ممارسة الضغط على الحكومة إن نجحت في حشد الشارع ويرى أن المعادلة الحالية بين الحكومة والمعارضة ستظل مستعصية وباقية دون حل مالم تظهر الحكومة الجديدة جهدا بإتاحة الفرصة للمعارضة ومنحها أكثر من 30% من السلطة لحين انتهاء ولاية الرئيس البشير الحالية. عقبات خارجية ميراث من القطيعة والمدافعة ستجده حكومة التقشف ماثلاً أماهها فيما يتعلق بإدارة الشئون الخارجية ليس أقلها إعادة ترتيب أوراق علاقات السودان الخارجية حيث أضحى "التنين" الصيني بعيداً بعض الشيئ فيما يسعى "الدب" الروسي للدخول الى المناطق الدافئة بجانب ذلك تظل علاقة السودان مع أوروبا وأميركا عالقة الشيئ الذي يعيق استفادة السودان من أموال المستثمرين ومساعدات تلك الدول غير أن أعقد الملفات التي ستواجه الحكومة هي قضية محكمة الجنايات الدولية ورغماً عن تصريحات وزير العدل والنائب العام محمد بشارة دوسة في البرلمان أمس والتي قال فيها إن وزارته تدير هذا الملف داخلياً وخارجياً بصورة ممتازة، إلا أن الحقائق تشير الى أن الجنايات الدولية أضحت ورقة ابتزاز سياسي شديدة التأثير على مسار العلاقات الخارجية والتي صارت تشهر في وجه السودان كلما أطلت أزمة بينه وأروبا وأمريكا اللتين تبذلان جهودا حقيقية لاختراق الجدار العازل الذي يحمي السودان عربيا وافريقيا وفي هذه القضية وكيفية إدارة الحكومة لها يقول الخبير القانوني ووكيل نقابة المحامين تيسيرمدثر سليمان إن اختراق أي جهة للإقرار بوضع المحكمة القانوني يختلف عن الاختراق لوجود مؤيدين ومناصرين لتلك الجهات في ادعاءات كاذبة وذات غرض بعد أن أضحى موضوع المحكمة مسخرا لأغراض سياسية قال إنها باتت مفضوحة للرأي العام وتساءل مدثر في حديثه ل(السوداني) عما يمكن أن تفعله المحكمة أكثر من الذي فعلته. القضية الثانية التي ستواجهها الحكومة تتمثل في كيفية الخروج من نفق الأزمة بينها ودولة الجنوب وضمان الوصول لتفاهمات مرضية عبر محادثات أديس أبابا بما يمكن السودان من امتصاص الاهتزازات الداخلية بفعل الاقتصاد بجانب إبعاد شبح العقوبات والتدخل الدولي بجانب ذلك تحتاج حكومة التقشف المقبلة الى إدارة موافقتها على المبادرة الثلاثية لتمرير المساعدات الانسانية في ولايتي جنوب كردفان والنيل الأزرق وتحصين تلك الموافقة من الانزلاق فيما لاتريد او الدخول في مواجهات مع العالم الخارجي على غرار ماحدث في دارفور ويؤكد تيسير مدثر أن سياسة السودان من صميم عمل الحكومة التي إن أرادت لهذه الإغاثة أن تتم عن طريق الآلية الثلاثية فلها ذلك لكونها معنية بحماية واستقلال البلاد وقال إن دوائر أجنبية أثبتت أنها تسعى للاستفادة من بعض المنظمات لتمرير تدخلاتها في الشأن السوداني بشكل يمس سيادته مشيراً الى أن في اختيار الحكومة لتلك الجهات لتمرير الإغاثة يدلل على أنها تمنح ذلك لمن ترى أنه لا يمثل تهديداً أو خطراً على استقلال البلاد ومضى مدثر للقول بعدم وجود أي توترات بين الحكومة ودول الإقليمين العربي والافريقي.