اختتم صالون الراحل سيدأحمد خليفة امسايته الرمضانية بصالة النادي العائلي بالخرطوم مساء الاثنين الأخير من شهر رمضان، الليلة التي تمادت فيها قوائم الإبداع السوداني، وأينعت طرباً بمشاركة كبار الفنانين، وأثمرت شكراً وعرفاناً تبادلته الأجيال في حالة إنسانية شفافة وبديعة. الليلة شهدت حواراً وطنياً هادئاً على مائدة الصالون التي كان يديرها الأستاذ جمال عنقرة، وعلى أحد أطرافها يجلس مساعد رئيس الجمهورية عبدالرحمن الصادق المهدي، وعلى الطرف الآخر الدكتور أحمد بلال وزير الثقافة والإعلام. لغة الصالون الجميلة والروب الهادئة التي أدير بها الحوار السياسي السوداني قال عنها الجميع إنها هي ما يحتاجه الوطن. والوطن الكبير برغم اتساعه وتنوعه حمله صالون الوطن بحجمه الصغير لتثبت الوطن الصحيفة أن النفوس إذا تطايبت سيسعنا هذا البلد، وفقط نحن نحتاج أن نجلس ونستمع لمحمد أحمد عوض أو إبراهيم عوض لنخلق مزاج سوداني خاص يتم من بعده التحاور. فأماسي الصالون كان من روادها الدائمين تابيتا بطرس والسفير عبدالمحمود وجمال عنقرة الذين يمثلون رسماً مصغراً لتنوع هذا البلد وتعدد ثقافاته، اتفقوا بحب على عثمان حسين والشفيع، وغرقوا طرباً في أغنية الذكريات وهي تغني «للقبل الأربعة» في السودان، وتبادلوا العناق والرقصات بإحساس واحد وشجن واحد ووجدان موحد. الأمسية الأخيرة أثبتت أننا لا نحتاج «لثامبيو امبيكي» وسيطاً أو أي فاعل خير آخر .. نحن نحتاج لمحمد الأمين أو الكابلي أو صلاح بن البادية أو أبو عركي البخيت ليكون وسيط، فالسلام في الوطن كما في صالون الوطن يحتاج لمزاج وشجن ووجدان واحد. ٭ أول قُبْلَة الأستاذ جمال عنقرة كان أول المتحدثين كالعادة الصالونية الدائمة، وهو يقدم الافتتاحية مرحباً بالضيوف وأطراف الحوار السوداني الطروب في اختصار سلس، ومقدماً أول متحدثيه المشرف على الصالون الأستاذ/ عادل سيدأحمد خليفة رئيس تحرير صحيفة الوطن، الذي قال: ظللنا لأربعة أسابيع نقاتل في محراب الثقافة والأدب، ونحتفل بثقافة السودانيين الراقية، ونكرم قدر الإمكان كل مبدع وفنان ومثقف قدم للسودان، وها نحن في أمسيتنا الرمضانية الأخيرة نحتفل بجبابرة الغناء السوداني، الشاعر الكبير عبدالرحمن الريح، والفنان الذري إبراهيم عوض، ورائد الغناء الشعبي محمد أحمد عوض، ونجمل حفل التكريم هذا بالعائد إلى أرض الوطن الطيب عبدالله، والمذيعة إحسان عبدالمتعال. ولعلنا بهذا الفعل نكون سائرين على درب والدنا الراحل سيدأحمد خليفة، وفي طريق تحقيق ما كان يتمناه. عادل أعقبه بالحديث وزير الثقافة والإعلام: تجمعني بالراحل سيدأحمد خليفة علاقة مميزة، لم تنقطع منذ الديمقراطية الثالثة، وهو الصحفي المتميز الذي يحترم مهنته، وبالتالي يحترمه الآخرون، ويسعدني أن أكون ضيفاً على صالونه الذي اعتقد أنه فكرة رائعة وحلقة للحوار الوطني الموسع الذي يجمع كل أطياف السياسة السودانية، وهو حوار من القلب وبعمق ومؤسس، ونحن نتطلع لذلك لأننا نعلم أسن ما يصدر في الصالون من آراء ترفد القارئ بكثير من المعلومات. أحمد بلال أجاب عن سؤال الصالون حول سياسة وزارته الجديدة قائلا: نعم، ساعتمد لغة الحوار، وانتهج منهجكم، لأن الحوار عندما يكون من جهة محايدة ويرتادها الجميع يكون مقبولاً، لأنها تكون مؤهلة لإسدارة الحوارات في نظر الآخرين. أما ثالث المتحدثين، وهو السفير عبدالمحمود، قال عن الأمسية: ختامها مسك، وهي تجسيد لقدرة الصالون في انتقاء الدرر، واعتقد أن ما قدم خلال رمضان يضع أساساً قوياً وإبداعياً للعمل الثقافي. واعتقد أن المرحلة القادمة ستشهد عملاً ثقافياً كبيراً، ونأمل أن تستمر عبقرية الصالون في إيجاد الحلول، والتي كان آخرها إثبات نظرية أن السودانيين مهما تابعدوا هم أقرب من حبل الوريد، ونتمنى أن يستمر هذا الصالون لأنه تمرين إبداعي يتمكن فيه الجميع من إيجاد الطريق لتسجيل أهداف في المباريات الرسمية، ونتمنى أن يستمر الصالون أيضا لأنه في رأينا أصبح يجسد طموحات الراحل سيدأحمد خليفة. العقيد عبدالرحمن الصادق المهدي مساعد رئيس الجمهورية قسم حديثه، أولاً تحدث في السياسة، وقال شكراً لأبناء الراحل سيدأحمد خليفة ولصالونه، لأنه فتح باب الحوار الوطني، وعزز الانتماء الوطني بهذا المنبر السياسي الثقافي المتميز، فهذا ما نحتاجه في هذه الظروف، الحوار بروح الحب والاختلاف بروح الإخوة. ابن المهدي اختصر حديث السياسة، وأفاض في حديث الأدب «فدوبى» وقرأ شعراً لعظماء وكبار البلد، وأنهى جولته الأدبية بقراءات الشاعر «عكير الدامر»، وشكر مرة أخرى الصالون على استضافته، ووعد بأن يكون من رواد الصالون. ٭ قُبْلَة بطعم الطرب أول المغنين في الأمسية كان الفنان «ود البكري»، والذي غنى بمزاجية الريف السوداني الفطرية، وألحانه التي تحمل «ريحة ناس البلد»، وهي مليئة بالعافية، نقل بها الحضور إلى أهاليهم، ونسي الجميع مشاحنات الخرطوم وصور الطين (والحبوبات) تضج بالذاكرة وتعبق المكان. لم يسكت ود البكري إلا ليصرح فؤاد القصاص بذرية إبراهيم عوض وغنائيه المعجبين، وهو يصدح (يا غايب عن عيني مع إنك في قلبي) ليحدث الفرق في الزمان والمكان ثم يجدد المصير عبر رائعة سيف الدين الدسوقي وبصوت ما ترك فيه شيئاً لإبراهيم عوض. القصاص أشاع الطرب لدرجة أن رئيس التحرير عادل سيد أحمد اقتسم معه (المايكرفون) والأغنية ليتغنيا سوياً «لو داير تسيبنا جرب وإنت سيبنا .. ولو داير تحب .. حب وأنساه ردينا». الجميل فصيل الصحافة صدح في تعافٍ صادح بأغنيات الطيب عبد الله، وغرد مضيفاً إلى الحوار الوطني شخصاً آخر وهو يغني للمغتربين (الغريب عن وطنو مهما طال غيابو)، وأغنية أخرى وثالثة أزهى بها لغة الصالون، لكأنما كان يغني بقلب أبيض يشابه بذته التي كان يرتديها. قُبْلَة الاعتراف بالجميل الأمسية شهدت تكريم الفنان الذري إبراهيم عوض، وتكريم الكبير محمد أحمد عوض، والشاعر الفذ عبد الرحمن الريح، وتكريم الفنان العائد بعد طول غياب الطيب عبد الله، والإعلامية الجميلة إحسان عبد المتعال، التي قالت: شكراً للصالون على هذا التكريم (وارتعد صوتها وهي تغالب الدموع) لم أصدق نفسي عندما قال لي السفير عبد المحمود إنني من ضمن المكرمين، وأنا أعلم أن التكريم يضم عبد الرحمن والريح وكبار الفنانين، وكيف لي أن أكرم بقرب تكريم الطيب عبد الله، شكراً لهذا التقدير لأنني اعتبر أن وجودي في الصالون من ضمن الحضور هو أكبر تكريم بالنسبة لي. الفنان الطيب عبد الله تحدث بامتياز ومشاعر جياشة خرجت من بين ثنايا كلماته الهادئة: نعم عدت أخيراً، وساحاول أن أشكركم بطريقتي الخاصة، وسأغني لمعجبي ولكم، وأوعدكم بأنني سأغني في هذا الصالون وفي حفلات كثيرة بإذن الله، شكراً لكم مرة أخرى، وشكراً لكل الحضور على الاحتفاء والتقدير والاحترام. آخر قبلة: الصالون - وخلال كل أمسيات السياسة والفن والطرب - كان محتشداً بالحضور الفني والصحفي والمبدع، فكان الصحفيون ياسر عركي وصباح محمد الحسن والهضيبي حضوراً زاد الصالون بهاء،ً أما شيخ النقاد ميرغني البكري، فقد كان حضوراً لافتاً بكلماته ونقده المتزن والمبدع، آخر الليالي انقضت وانفض سامر الصالون الرمضاني، لكن الجلسات مستمرة بعد العيد، والتحايا للشركة الراعية (مام القابضة)، ولأسرة النادي العائلي ورئيسة، ولكل مرتادية، والوعد أن تمتد لقاءات الصالون الفكرية والثقافية إلى ما بعد العيد، فأحلام الراحل وأمنياته لازالت موجوده، وأبنائه عازمون على تحقيقها. -- مشاهدات بمعنى القُبَل: ٭ العناق الحار بين عبد الرحمن الصادق وأحمد بلال فتح نافذة الأمل. ٭ لحظة دخول الفنان الطيب عبد الله، قطع الجمهور حديث مساعد رئيس الجمهورية وهو يقف ويصفق تأكيداً على حب وتقدير الشعب السوداني للفن والفنانين الكبار، وأنه شعب لا ينسى الجميل. ٭ دموع إحسان عبد المتعال، وصوتها المتهدج، وحديثها المهذب لحظة تكريمها، هو صورة تعكس أدب وأخلاق وتواضع حواء السودن. ٭ تحية مساعد رئيس الجمهورية للطيب عبد الله جعله «يحت» كل سنوات الغياب عن ظهره. ٭ زوجة الأستاذ عادل سيد أحمد وأم أولاده كانت تصفق وتضحك عندما غنى هو مع المغني (لو عايز تسيبنا جرب وإنت سيبنا .. لو عايز تحب حب وأنساه ريدنا). ٭ حامد ابن الشاعر محمد عوض الكريم القرشي عانق الطيب عبد الله، وبكيا طويلاً، فالغناء والفن علاقة أقوى من الدم والنسب. ٭ شنان الإداري والمسئول عن المنتديات بالنادي العائلي أعياه الطيب والإبداع طوال الشهر، فشكر الصالون وبادلته أسرة الوطن التحية، فالرجل يحب الثقافة والفن ويجتهد في خدمة منتداه، له التحايا. ٭ أحد أبناء مدينة الأبيض، ومن كبار رجالات الثقافة فيها، أتى خصيصاً من عروس الرمال ليكون حضوراً في أمسية تكريم الشفيع والقرشي، وهو بلاشك تكريم إنساني أسعد أسرة الشاعر القرشي.