سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
مصر والسودان ..جدلية السياسة والتاريخ«4» الأزهري اسقطوا حكومته في البرلمان.. فدعا لاحترام رأي الأغلبية
في عام 1958م طالبت مصر بحلايب وماحولها.. وهكذا ردّ عليها عبدالله خليل
عندما لاحت بوادر الاستقلال وهبت نسائمه شهدت الساحة السياسية في السودان حدثاً عظيماً، إذ التقى ولأول مرة منذ عام 1946م السيدان عبدالرحمن المهدي إمام الأنصار وعلي الميرغني زعيم الختمية، وتم ذلك بمبادرة من السيد عبدالله الفاضل المهدي عندما اقترح عليه زيارة السيد عبدالرحمن في داره، فوافق السيد علي، فلما أخطر السيد الفاضل السيد عبدالرحمن بذلك بادر السيد عبدالرحمن وقام بزيارة السيد علي في منزله ببحري، فأحسن الميرغني استقبال السيد المهدي وضيوفه، ورد الميرغني الزيارة للسيد المهدي بداره بالخرطوم وأصدر السيدان بيانا مشتركا جاء فيه «الآن وقد شاء الله فتحقق الأمل العظيم الذي ظلت تنشده البلاد منذ أمد، فالتقينا وتضامنا ابتغاء مرضاة الله، يسعدنا أن نعلن عزمنا على الوقوف متكاتفين في كل ما يعود على الأمة السودانية الكريمة بالخير والسعادة والحرية والسيادة الكاملة.. وإننا إذ نحرص على تجاوز هذه المرحلة الدقيقة بطمأنينة وسلام إلى مصيرها العظيم المأمول، نُهيب بالمواطنين جميعا أن ينسوا ذواتهم في سبيل خدمة وطنهم العزيز، وتحقيق أمانيه الكبرى حتى يتوفر الاستقرار والطمأنينة الضروريان في هذا الظرف العصيب، ونرجو أن يتهيأ بذلك الجو الملائم لتعاون جميع أحبابنا على قيام حكومة قومية تكون صمام الأمان لكل ذلك، ونستطيع انقاذ البلاد من كل خطر متوقع والله المستعان والموفق لما فيه الخير والصواب». التقى السيد إسماعيل الأزهري مع السيد علي الميرغني ونقل له موافقته على الحكومة القومية التي اتفق عليها السيدان، واقترح الأزهري أن تقوم هذه الحكومة القومية بإعلان الاستقلال عن طريق البرلمان بدلاً عن الاستفتاء أو عن طريق جمعية تأسيسية منتخبة، ثم اجتمعت اللجنة التنفيذية والهيئة البرلمانية للحزب الوطني الاتحادي وأعلنت قبول الحزب بالحكومة القومية وأصدرت بياناً بذلك، وبعث برسائل للأحزاب الممثلة في البرلمان يطلب منها تحديد الزمان والمكان لعقد اجتماع مشترك لبحث موضوع الحكومة القومية ،وأسس تشكيلها ،وبالمقابل أصدر السيد عبدالله خليل أمين عام حزب الأمة بيانا جاء فيه «إننا نريد الحكومة القومية لتأمين استقلالنا وإذا ما قامت الحكومة القومية الصحيحة، فأننا لا نتهيب من إعلان البرلمان الحالي للمصير.. والحكومة القومية تضمن تقرير المصير في نزاهة تامة، من غير أن يتلاعب به حزب من الأحزاب، وإذا ما قامت هذه الحكومة فإن الجو يكون مهيأ لأن ندرس الاقتراح القائل بتقرير البرلمان الحالي للمصير، والمبدأ الذي نسير ونصرُّ عليه هو ألا يكون لأي حزب أغلبية في الوزارة القومية» وبرغم اتفاق الجميع على فكرة ومبدأ الحكومة القومية الا أن هناك تباين واضح بين الأحزاب لاسيما الحزب الوطني الاتحادي وحزب الأمة، وأكثر ما اعترضت عليه الأحزاب في بيان الحزب الوطني الاتحادي اشتراطه لقيام الحكومة القومية موافقة الدولتين «بريطانيا ومصر» على تقرير البرلمان الحالي المصير وتحقيق الاستقلال. وبينما كانت الاجتماعات تتواصل بين الأحزاب لبحث سبل قيام الحكومة بين الأحزاب القومية فاجأ الحاكم العام للسودان الأوساط السياسية بإعلان استقالته التي قال إنها لأسباب شخصية فشهدت الساحة تحركات واسعة لاتخاذ الموقف الملائم ، وكان أبرز تلك الحركة الزيارة التي قام بها السيد عبدالرحمن المهدي إمام الأنصار للسيد علي الميرغني زعيم الختمية ، وعقدهما اجتماعا دام لنحو ساعة ونصف تقريباً، وتوالت الأحداث إلى أن نهض السيد عبدالرحمن محمد دبكة نائب دائرة (بقارة) نيالا غرب عن حزب الأمة بتقديم اقتراح بالاستقلال ثناه السيد مشاور جمعة سهل نائب دائرة( دار حامد) غرب عن الحزب الوطني الاتحادي وفي اليوم الأول من يناير عام 1956م يعقد الشيوخ والنواب جلسة مشتركة ويتلو السيد إسماعيل الأزهري خطابين: أحدهما من الرئيس المصري جمال عبدالناصر، والثاني من «مستر سلوين لويد» وزير الدولة بوزاة الخارجية البريطانية ويقول الخطاب المصري:« إن الحكومة وعملاً بنواياها التي جاهرت بها وبمسعاها الذي جاهدت من أجله لتحقيق الحرية لشعب السودان نعلن فوراً الاعتراف بالسودان دولة مستقلة ذات سيادة.. وتأمل حكومة جمه ورية مصر في الوقت الذي تعترف فيه باستقلال السودان أن تستمر حكومة السودان في رعاية الاتفاقات والوفاقات التي عقدتها دولتا الإدارة الثنائية نيابة عن السودان أو اتفقتا على تطبيقها على السودان وسيكون من دواعي سرورنا تأييد الحكومة السودانية لذلك، وترجو حكومة جمهورية مصر أن تتعاون معها حكومة السودان في كل الخطط الضرورية لتصفية الإدارة الثنائية في السودان. أما الخطاب البريطاني فجاء فيه: «لي عظيم الشرف أن أخطركم أنني قد انتدبت المستر دودز باركر الوكيل البريطاني البرلماني ليسمعكم قرار حكومة صاحبة الجلالة ملكة المملكة المتحدة وشمال ايرلندا عن استقلال السودان» وبانتهاء الاحتفالات الرسمية والشعبية بالاستقلال استأنفت الأحزاب اجتماعاتها لأجل قيام الحكومة القومية التي اتفق عليها السيدان المهدي والميرغني، وقامت الحكومة في الأسبوع الأول من فبراير عام 1956م تضم أحزاب الوطني الاتحادي، الأمة، الجمهوري الاشتراكي، والأحزاب الجنوبية. كان السفير المصري سيف اليزل خليفة أول سفير يقدم أوراق اعتماده، وكان ذلك في الرابع من يناير عام 1956م، وصار بذلك أول عميد للسلك الدبلوماسي في السودان. بعد تكوين الحكومة القومية الأولي كُثر الخلاف داخل الحزب الوطني الاتحادي ، وكان الختمية يمارسون ضغوطا على السيد إسماعيل الأزهري باعتبار أنهم يشكلون القاعدة الجماهيرية للحزب وظلوا يلوحون بالانشقاق إلى أن حققوا ذلك وأعلنوا قيام حزب الشعب الديمقراطي الذي أعلن السيد علي الميرغني مباركته ورعايته له. وفي الرابع من يوليو 1956 تقدم السيد «رحمة الله محمود» من نواب حزب الأمة باقتراح لسحب الثقة من الحكومة، واجيز بأغلبية ستين عضوا في مقابل واحد وثلاثين فأصدر السيد الأزهري بيانا بمناسبة سقوط حكومته جاء فيه «أننا نجتاز تجربة ديمقراطية فلنبرهن للعالم اجمع أن السودان المستقل الحر الذي ارتضي الديمقراطية طريقا لحكمة وتقدمه يفهم هذه الديمقراطية فهما حقيقيا ويحترم نتائج ما تتمخض عنه ويقدس مقتضياتها، فعلينا جميعا الاخلاد إلى الطمأنينة والهدوء ومواجهة جميع الاحتمالات برباطة جأش، ايمانا منّا بأن الشعب الكريم أولانا ثقته، وأيدنا بالتفافه حولنا يستطيع بالنظم الديمقراطية أن يولي شؤونه للذين يثق فيهم.. وإنِّي ارجو أن اذكر أفراد الشعب جميعا بأن عليهم أن يحترموا النظام الديمقراطي وأن يرتضوا النتائج التي تأتي مهما كانت» وتم انتخاب السيد عبدالله خليل الأمين العام لحزب الأمة رئيساً للوزراء خلفاً للأزهري، فشكل حكومته من حزبه وحزب الشعب الديمقراطي الذي اندمج فيه حزب الاستقلال الجمهوري وبعض الأحزاب الجنوبية، واستثنى الحزب الوطني الاتحادي، ثم أصدر عبدالله خليل بيانا جاء فيه «إذا قُدر أن يكون بعض الزملاء والمواطنين في صفوف المعارضة، فيجب أن يعلم الجميع أن المعارضة في ذاتها، إذا كانت بناءة، تعتبر من أقوى دعمات الدولة، وتشكل جانبا كبيرا من القوى الدافعة لدولابها الفعال.. إننا لن نعادي أحدا في الداخل أو في الخارج، ولن ندخل في احلاف عسكرية وسنحرص على صداقة جميع الدول والشعوب وسنكون أشد حرصا على أطيب وأمتن العلاقات مع جيراننا وعلى قدر احترامهم لأفهامنا وكرامتنا واستقلال بلادنا يكون تعاوننا معهم، إننا لن نجحد فضل أحد، ولن نتردد في رد الجميل، ولكننا لن نسمح لأحد أن يتدخل في شؤوننا أو المساس بكامل استقلالنا، وليثق المواطنون جميعا بأن الفرص بينهم ستكون متكافئة للغاية، وأنه لن تكون هناك محسوبية أو أي اعتبارات غير قومية، وأننا سنحرص على توفير الحريات وعلى تحقيق العدالة والمساواة والسعادة الشاملة وعلى قدر ما يؤدي المواطنون ينالون حقوقاً». وفي مطلع العام 1958م بدأت تلوح في الأفق بوادر أزمة بين السودان ومصر حينما طلبت الحكومة المصرية من السودان تسليمها منطقة حلايب وماحولها، والمنطقة الواقعة شمال خط عرض 22 لتضمينها في الدوائر الانتخابية لمشاركتها في الانتخابات المصرية المزمعة، فأجابهم رئيس الوزراء السوداني السيد عبدالله خليل بأن الحدود الحالية المبينة في الخرطوم والمعروفة للجميع هي الحدود التي أخذنا استقلالنا بموجبها، وأن تلك الحدود قائمة منذ ستين عاما دون أن ينازعنا بشأنها أحد، وقد جرت الانتخابات المصرية حتى الأخيرة منها، والاستفتاء حول شخص رئيس الجمهورية على أساس استثناء تلك المناطق باعتبارها أراض سودانية، كما أجريت انتخابات السودان الماضية بما في ذلك انتخابات الحكم الذاتي التي تمت بموجب الاتفاقية المصرية البريطانية المبرمة في فبراير 1953م وتحت إشراف لجنة دولية كانت مصر ممثلة فيها على أساس أن المناطق المذكورة سودانية أيضا واشترك أهلها في انتخاب نواب البرلمان السوداني.. ثم أنه عندما نال السودان استقلاله، كانت أولى التحفظات التي أبداها لدولتي الحكم الثنائي أنه لن يكون ملزماً بأي معاهدات أو اتفاقات أبرمت نيابة عنه قبل الاستقلال مالم تعرض عليه تلك المعاهدات والاتفاقات ويقرها، وذلك في بيان السيد رئيس الوزراء السابق الذي القاه بالبرلمان السوداني أول يناير 1956م،فلو كان لحكومة جمهورية مصر وجهة نظر خاصة بالحدود لسارعت بتقديمها.أما قبل الاستقلال أو عند تسلمها الكتاب الذي بعث به السيد رئيس الوزراء السابق في الثالث من يناير 1956م إلى الرئيس جمال عبدالناصر.