لست من مشاهير التاريخ حتى أكتب ذكرياتي، ولكن لأنها تجارب وحصاد سنين، وأسرار مهنة التعليم في الزمن الجميل وهي المهنة الرسالية، التي دخلناها هواة واحترفناه وعشقناها، رأيت أن أضعها أمام الأجيال اللاحقة من رسل المحبة والتربية والتعليم، وحمائم السلام، دعاة القيم الفاضلة وأكد أن أكبر ظلم للمعلم الحالي، حصره في ولاية واحدة، وحرم فوائد الاسفار ومتعة التجوال، في بيئات السودان المختلفة وربوعه الجغرافية المتعددة، التي رأها التربوي الأجنبي مستر جريفث الذي أسس معهد بخت الرضا بمدينة الدويم في 4291م ، والذي فعلاً يمثل كل بيئات السودان، وفقدت الأجيال اللاحقة من المعلمين، متعة جنوب السودان الذي قرر مصيره بأن يكون دولة مجاورة، ولانملك نحن الذين استمتعنا بمدينة يامبيو البعيدة التي قدّم لنا فيها منقو زمبيري الكبيدة واستمتعنا بأراضي الزاندي، التي تغيب عنها الشمس كثيراً وعلى ذكر تنقلاتنا الكثيرة من 2691م حتى 7791م في كل أنحاء السودان، لم نضج ولم نثور يوماً لهذه التنقلات لأنها كانت في السودان كله في المرحلة المتوسطة في يد معلم قد لا يعرف القبلية ولا الجهوية ولاتجد المجاملة سبيلها إلى أصالته كمعلم قومي، لايعرف إلا مصلحة العمل وإتقانه وإخلاصه له وما رأيت في حياتي العملية كلها أعدل من هذا الرجل القامة المعلم المربي الاستاذ (دهب عبدالجبار) الذي توفي لرحمة مولاه في أكتوبر 4791م، والعبارة التي لاتفارق شفتيه (أنا مقتنع بظروفك ولكن ظروف العمل لا تسمح بتحقيق رغبتك - رحم الله دهب بقدر ما قدم من نموذج للمعلم المثالي وأحسن إليه - ولازالت كلماته ترن في أذني عندما نقلنا من بخت الرضا إلى (عد الغنم في دارفور) واسمها فيما بعد أصبح (عد الفرسان، وقد شعرت في كل مرة نقلت فيها بعد وفاة هذا الدهب إلى خارج الخرطوم بغين شديد تحس أن فيها القصد وعدم العدالة، إلا أننا نفونا في كل المرات. فمثلاً عندما كنت ناظراً على مدرسة النيل ، أحرزت كأس المدارس المتوسطة الأولى 7791م بعد تغلبها على مدارس الخرطوم حكومية وأهلية ولعب سنترليق المديرية، وتغلبت على مدرسة المستقبل (السراج أخوان - عيسى وسعيد) أذ كانت النيل بقيادة اللاعب الفذ الطالب كمال عبدالغني لاعب جلاس والمريخ وكابتن السودان لاحقاً، ونجوم آخرين، وأذكر أنني في كنترول الشهادة الابتدائية، تحت إشراف الأستاذ سيد علي وفي ذات الوقت هو المشرف على المدرسة، وطبعاً كانت المدارس في العطلة النهائية، وفي أمسية من أمسيات الكنترول، جاء الأستاذ المربي الصديق السر محمد إبراهيم مدير المرحلة المتوسطة بالولاية، وطلب مني الحضور إليه في مكتب الناظرة، وحضرت ومعي الأخ الأستاذ (سيد علي). وسألني مباشرة عند عدم حضور مدرستي اليوم لدار الرياضة لاستلام الكأس وأخبرته أنني هنا في الكنترول والمدرسة مؤجزة، ولكنها استلمت الإخطار، المهم قال لي أحرجتمونا أمام الوزير، ونحن سلمنا الكأس والجوائز لثاني الخرطوم مدرسة الحلة الجديدة، وسوف تتم محاسبتكم، قلت له المحاسبة حبابها عشرة، ولكن القرار الصادر بحرمان تلاميذ المدرسة من الكأس والجوائز، قرار غير تربوي، وغير مقبول، وسوف نستأنفه، إنتهى الكنترول وذهبنا لتصحيح الشهادة المتوسطة في مدرسة المؤتمر الثانوية أم درمان، وكانت العادة أن يذاع كشف التنقلات في إذاعة العاشرة وفي يوم من أيام التصحيح، جاء الأستاذ الكبير متعه الله بالصحة والعافية حاملاً معه راديو وأمام جمع من المعلمين والمعلمات استمعنا إلى كشف التنقلات وكان في أوله الأستاذ سيد علي الدرجة الخامسة والورقة الثانية كان اسمى وكنت في الدرجة السادسة، نقلت إلى ولاية نهر النيل، كان ذلك في 7791م بالفعل سلمت مدرسة النيل فوراً للأخ المربي المرحوم عبدالرحيم الزمزي الذي جاء منقولاً من الجزيرة ونفذت النقل (ولكن شتان بين تنقلات دهب المرحوم والتنقلات اللاحقة، وذهبت الى الدامر، والتي كان رأسها مديراً للمرحلة المتوسطة (الصديق المربي الأستاذ المرحوم حاج التوم عرديب) والرجل عملت معه في الخرطوم، فقد أكرمني بنقلي إلى مدرسة دار مالي المتوسطة بنات مدرسة داخلية أخذت فيها سبعة أيام فقط، فقد تم أستدعائي لمكتب المحافظ الأخ الكريم مختار الطيب محافظة نهر النيل، وقال لي أنت سوف ترجع الخرطوم، ونعترف هذا العام على المجلس الشعبي التنفيذي لنهر النيل بناء على أنك عضو لجنة مركزية ومكتب تنفيذي لاتحاد الشباب وكان هذا كله بفضل سعي الأخ الصديق العصامي مكاوي عوض المكاوي أمين عام اتحاد شباب السودان، وفي عام 9791م نزلت انتخابات الاتحاد الاشتراكي من الوحدة حتى المديرية، وتم اختياري، أمين التنظيم والإدارة بأمانة المديرية، وكنت الرجل الثاني تنظيمياً وسياسياً بعد أستاذي وتاج رأسي المخضرم مهدي مصطفى الهادي شفاه الله، وعند انتهاء الدورة في نهاية عام 3891م صدر قرار بفصلي وأخوه آخرين من الاتحاد الاشتراكي، أصدره الرئيس القائد المرحوم/ جعفر محمد نميري، ورجعت معلماً والعود أحمد في 5891م الى مكتب التعليم وبعد عامين، نقلت مديراً على مدرسة الخرطومجنوب (2) المتوسطة، وفي عام 8891م أخترت لتصحيح الشهادة المتوسطة بمدرسة الأميرية بنات، وكان كبير المصححين الأستاذ الكبير والنقابي الشيوعي عبدالمنعم سلمان، وكان التصحيح في شهر رمضان وكان الاتفاق أي شعبة تنتهي من التصحيح تعطي أستحقاقها فوراً. وأنتهى الأخوة في شعبة العلوم ولم يتسلموا استحقاقهم وفي اليوم التالي انتهينا نحن وأمامنا وريقات فقط فجاء الأستاذ المرحوم وطلب منّا الاضراب والتوقف فقلت له نحن خلاص انتهينا ونحن صائمين، وأيد المعلمين والمعلمات رأيي، ولم ندخل الأضراب وانتهينا وسلمنا الكنترول الذي كان في ذلك الزمان من الثانوي ومجرد أن أنتهى التصحيح عمل الأستاذ على نقلي في الكشوفات إلى مديرية دارفور (مرة أخرى شوف الفرق بين تنقلات المرحوم دهب والمرحوم عبدالمنعم رحمهما الله رحمة واسعة وأحسن إليهما) المهم حزمت أموري وتوكلت على الدايم وسافرت إلى دارفور تركت فيها الخرطوم في خريف عاصف وسيول جارفة وذهبت إلى دارفور وهي في بداية عصر النهب المسلح.. ولكن عسى أن تكرهوا شيئاً فهو خير لكم، وجدت في الفاشر مدير التعليم الصديق الأستاذ الدنقلاوي القح صبري والذي عملنا سوياً في الاتحاد الاشتراكي، وكان عندهم تقليد وهو أن لا تسلم مكاتب التعليم لغير أبناء البلد، فوزعنا على المدارس وقد كان ثلاثتنا من الخرطوم شخصي مدير على مدرسة الفاشر الأميرية والأستاذ محمد عبداللطيف مديراً على الأهلية الفاشر ثم أختار محمد الطيب النجومي مدرسة مليط رحمهم الله أحياءً وأمواتاً. بعدها بدأت رحلة أخرى خارج التنقلات ولكنها خارج البلاد سوف أتناولها لاحقاً. هذه هي حياتنا الأولى في التعليم المتوسط راضين عنها كل الرضى.