من منّا لم تمر عليه لحظات نسى فيها أشياء أدخلته في حرج كبير، أو ضيعت عليه أشياء مهمة..؟ لكن صديقتي عفاف حالتها مستعصية ولها حكايات كثيرة مع النسيان، كان أفظعها وأغربها بالأمس ، حين ذهبت لزيارة بعض أقاربها في أطراف العاصمة، وعندما أرادت العودة إلى بيتها في زمن كاف قبل أن يحل الليل عليها، صادفها عند الباب ابن شقيقتها يحمل بطيخة كبيرة مغرية، وعفاف البطيخ شغفها الكبير فسال لعابها لها وتطلعت إليها في عشق، ولكنها كانت في عجلة من أمرها فتنهدت في أسف وأرادت أن تغادر إلا أن الشاب لم يتركها تذهب دون أن تذوق البطيخة وهو يعلم مدى محبة عفاف للبطيخ فاقتطع لها قطعة كبيرة فأخذتها شاكرة وبما انها أصبحت كثيرة السهو فقد حملت البطيخة في يدها وخرجت بها تأكلها في طريقها إلى موقف الحافلات.. والناس ينظرون إليها في دهشة وهي تبتسم غير منتبهة انها الآن في الشارع وركبت الحافلة ومازالت البطيخة في يدها ومازالت تأكل منها وتحمل في يدها الأخرى المحفظة وجلست في المقعد خلف السائق وتحركت العربة ومازالت عفاف تأكل حتى انتهت من أكل قطعة البطيخة العزيزة ونظرت إليها في أسف.. ثم أمسكت بها بقوة ورمت بالمحفظة من نافذة الحافلة وهي بالطبع تريد أن ترمي بقايا قطعة البطيخ وجلست في مكانها سارحة الفكر في لا شئ تقريباً.. وجاء الكمساري (يطقطق) بأصابعه ليدفع الركاب ما عليهم من أجرة الحافلة ومدت عفاف يدها لتفتح محفظتها لتخرج النقود ولكنها فوجئت بانها تمسك ببقايا قطعة البطيخ وانها رمت محفظتها من النافذة بدلا عنها وبنظرة ذاهلة محرجة تطلعت إلى الكمساري الذي ينتظر وقالت بصوت واهن : ظنيتني جدعت المحفظة )ثم وبصوت هستيري صاحت في أذن السائق قربها ليتوقف ... ونزلت تتابع سير الحافلة عائدة إلى مكانها الأول ولحسن الحظ وجدت المحفظة في دغل قريب.. وحكى لي ابني انه رمى بجواله من نافذة الحافلة بعد أن شحنه بالرصيد واحتفظ بالورقة التي كانت بها أرقام الرصيد! والشئ الغريب أن الجوال لم يتحطم على الاسفلت ولم تصطدم به السيارات العابرة فوجده سالماً... وأظرف تعليق على حالات النسيان هو كلام الطبيب للمريض الذي يشتكي من داء النسيان : أنسى كل شئ ولكن لا تنسى أجرة الطبيب( ولكن نسيان أحد معارفي بلغ حداً يعجز عنه الوصف إذ أن زوجته لا تسمح له بصحبة أطفالها إلى أي مكان دون أن تكون معهم بعد أن نسى طفله الصغير ذا الثلاث سنوات في إحدى الحافلات ونزل مواصلا حديثه التلفوني مع صديقه وتحركت الحافلة بالطفل.. ومرت بقربه وهو مازال يتحدث والغريب في الأمر انه رأى وجهاً مألوفاً يطل عليه من النافذة بعينين دامعتين خائفتين واكتفى بان يلوح لابنه وهو يصيح (أمشي لي ماما تديك حلاوة أنا ماشي الشغل وراجع وبرضوا بجيب ليك معاي حاجة حلوة ) وبابتسامة عريضة تابع حديثه مع صديقه : دا ولدي الصغير دايماً بيبكي لمن أطلع من البيت.. ااي هو راكب الحافلة مشى ..أأ) الحافلة ! وانطلق يجري محاولا اللحاق بها بعد أن تذكر أن ابنه كان في صحبته هو وانه الآن وحيداً تتحرك به الحافلة إلى المجهول .. لم يلحق بها بالطبع ولتزداد الأمور سوءاً ظهرت زوجته من مكان ما تناديه مبتسمة فرحة بلقائه صدفة.. ثم تتلفت في تساؤل يمازجه الخوف : وأين هيثم ؟ فتلعثم قريبي ولم يحر جواباً بل قلب يديه في حيرة وعجز .. جعل زوجته تصرخ في هلع : ضيعت وليدي يا حسن؟ ولم يرد عليها بل ركب الحافلة الأخرى التي توقفت قربه وعند نهاية خط سير الحافلات وجد ابنه يبكي في صحبة السائق المحتار الذي أراد أن يتوجه به إلى الشرطة .. ثم لحقت بهم زوجته واختطفت ابنها من بين يدي زوجها الذي كان يشكر السائق بحرارة وغير مصدق بلقائه بولده .. ومنذ ذلك اليوم لم تسمح له بمرافقة اطفالها إلا في صحبتها ، وعاد ابنها الكبير ذات يوم ضاحكاً يحمل حقيبة سفر كبيرة فاندهشت أمه : انها حقيبة والدك .. ألم يسافر بعد أم أجل سفره .. ضحك ابنها : بل ركب الطائرة بعد أن نسى الحقيبة بالقرب مني على المقعد في التاكسي..