سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
بمناسبة مرور «52» عاماً على حوار سيد أحمد خليفة مع جعفر نميري الصادق المهدي بارك مبادرة سيد أحمد للمصالحة مع النميري.. ومبارك الفاضل اعتقله
محجوب عروة بشَّر بعودة نميري رئيساً.. وتيتاوي وصف العودة ب«أحلام الطغاة»
لم أكن أتوقع مرور ربع قرن من الزمان على الحوار الذي رتبناه للمرحوم الأُستاذ سيد أحمد خليفة مع الرئيس الأسبق الراحل المشير جعفر نميري في القاهرة في العام 9891م، إلا حينما ذكرني بذلك الأخ الصديق الياس الأمين المايوي المعتق الذي كان له دور كبير في ترتيب هذا الحوار . فلما كتبت مقال «الوطن قصة لا تنتهي» والذي تركت بعده رئاسة التحرير، اجتر معي الأخ الياس بعض ذكريات الأيام الجميلة، وتحديداً ما كان يجمعنا والأخ الصديق المرحوم الاستاذ سيد أحمد خليفة، وتركز أكثر الحديث حول الحوار التاريخي الذي اجراه الأُستاذ سيد احمد خليفة مع الرئيس نميري يرحمهما الله في القاهرة، ولهذا الحوار قصة طويلة تستحق أن تذكر بمناسبة مرور ربع قرن على أحداثها.. ففي بداية العام 9891م نشطت حملة الرئيس نميري الإعلامية ضد حكومة السيد الصادق المهدي، وكنت اشكل رأس الرمح في هذه الحملة مع الأخوان الذين كانوا يرابطون مع الرئيس نميري في القاهرة، ومنهم اللواء احمد الطيب المحينة وعبد المطلب بابكر «طلب» وعوض جاد الرب والمرحوم محمد عثمان عبد الحميد والواثق عبدالله صالح ومحمد عبدالرحمن ومحي الدين عبد الله وغيرهم ممن يأتي ويذهب من المايويين ومن غير المايويين كذلك. رتبنا للرئيس نميري عدداً من الحوارات واللقاءات الصحافية مع صحف عربية شتى، وكانت الحكومة المصرية على عهد الرئيس الأسبق حسني مبارك قد فتحت لنا المجال بعد أن توترت العلاقات بينها وبين حكومة السيد الصادق المهدي، وكانت صحف الخرطوم تنقل ما تنشره الصحف العربية من حوارات مع جعفر نميري. واذكر أن صحيفة «الأسبوع» التي كان يرأس تحريرها الدكتور محي الدين تيتاوي، ويتولى الأستاذ احمد البلال الطيب فيها منصب المدير العام، وهما شريكان في تأسيسها، نشرت احد هذه الحوارات، وعلق عليه الاستاذ تيتاوي بكلمة عنوانها «أحلام الطغاة» ولم يرضِ هذا العنوان المايويين الذين كانوا يحسبونه منهم، وكذلك الآخرون، ويشير هؤلاء إلى مقال كتبه في صحيفة «الأيام» في العدد الذي صدر يوم الانتفاضة السادس من ابريل 5891م، وبسبب شبهة المولاة لمايو قاد الصحافيون اليساريون إضراباً في صحيفة (الأيام ) عندما برأت المحكمة ساحته مع الاستاذ احمد البلال الطيب واعيدا الى العمل في الصحيفة. رأيت في تلك الفترة التي نشطنا فيها العمل الإعلامي المعارض مع نميري في الخارج ان ننقل صوته الى الداخل ، وتداولنا الامر مع الاخ الياس الامين واستقر الرأي على محاولة اقناع الاستاذ سيد احمد خليفة لاجراء حوار صحافي مباشر مع نميري في القاهرة. واخترت الاستاذ سيداحمد لعدة اسباب. اولها جرأته وفطرته المغامرة، ثم ان صحيفته «الوطن» عرفت بالمصادمة، هذا فضلاً عن الصلة الوثيقة بيني وبينه والتي تحولت الى صداقة اسرية وكانت بدايتها في العام 1981م وكان حينها ابنه عادل طالباً في المرحلة المتوسطة وكان يشاركنا الحوار، وكان عادل اقرب اليَّ فكراً وموقفاً سياسياً من والده. ذهبت الى الاستاذ سيداحمد خليفة يرحمه الله في مكاتب صحيفة (الوطن) ودفعت له بمقال بعنوان«كشف حساب آثار مايو وآثار ابريل»، عددت فيه بعضاً من انجازات مايو واخفاقات حكومات ابريل. فنشره سيداحمد في اليوم التالي مباشرة في صفحة كاملة مع ترويج وتقديم، فعدته ثانية في يوم نشر المقال وعرضت عليه فكرة اجراء حوار مع الرئيس نميري في القاهرة فلم يتردد سيداحمد ووافق على الفور، وبحماس شديد، ووعدته أن ارتب له ذلك خلال اربع وعشرين ساعة. وبالفعل حددت له موعداً مع النميري بعد ثلاثة ايام، وفي اليوم التالي سافرت الى القاهرة لترتيب اللقاء، وفور وصولي اتصلت بالاخ الواثق عبدالله صالح ابن خال النميري وسكرتيره الخاص فاخبرني أن الاستاذ محجوب عروة في القاهرة واتصل بهم يطلب تحديد موعد مع نميري وهو ينزل في فندق شبرد، فذهبت الى الاخ محجوب في الفندق-ومحجوب تجمعني به صلات عدة وعلاقات وثيقة- فاخبرني محجوب انه عائد لتوه من لندن وانه وجد بياناً هناك اصدره نميري بمناسبة مرور عشرين عاماً على 25 مايو 1969م وان اسهم نميري صارت عالية جداً واصبح الاقرب الى العودة لحكم السودان. فخرجت من محجوب في شبرد وذهبت الى الواثق في مكتبه بشارع علي عبداللطيف المتفرع من شارع الشيخ ريحان في حي عابدين بوسط القاهرة، ووجدت معه الاخ عبدالمطلب بابكر «طلب» وطلب كان من الاخوان الذين شاركوا في معركة الجزيرة ابا مع الشهيد محمد صالح عمر والمرحوم الشيخ محمد محمد صادق الكاروري والاستاذ مهدي ابراهيم والقي القبض عليه وحكم عليه بالاعدام ولكن خفف الحكم الى المؤبد لصغر سنه، حيث كان وقتها طالباً في الثانوي وافرج عنه بعد المصالحة الوطنية وصار قريباً من الرئيس نميري، واتفقنا مع الواثق وطلب، على تحديد موعد للاستاذ محجوب عروة مساء نفس اليوم مع النميري في مقر سكنه بقصر النصر في شارع الثورة بمصر الجديدة بالقرب من قصر البارون، وجاء محجوب مساء الى نميري وقدم له عطراً هدية ماركة«BOSS» وقال له لحظة تقديم العطر«BOSS for BOSS» بدأ الحوار ساخناً بين عروة ونميري، حيث بادر نميري بشن هجوم كاسح على الاخوان المسلمين، واتهمهم بالتراجع عن الشريعة الاسلامية خلال مشاركتهم الحكم مع الاحزاب الاخري وهاجم عروة نميري في قراراته التي اتخذها ضد «الاخوان» ويعني اعتقالهم في العاشر من مارس 1985م، ولكن اللقاء انتهى ودوداً وقدم نميري الدعوة لمحجوب عروة لتناول العشاء معه مساء اليوم التالي وتم اجراء حوار مع نميري شاركت فيه مع الاخ محجوب وقمت بصياغته وتم نشره في صيحفة (السوداني) في عددها الصادر يوم الثلاثاء 13/6/1989م. بعد يومين من عودة محجوب عروة الى السودان اتصل بي الاستاذ سيداحمد خليفة تلفونياً واخبرني انه وصل لتوه من السودان وينزل في فندق«نيوريش» بشارع عبدالعزيز بالعتبة، وكان قد تأخر عن الموعد الذي اتفقنا عليه بضعة ايام فذهبت اليه في الفندق فأخبرني انه لم يتأخر تردداً ولكنه كان حريصاً على الاتصال بالسيد الصادق المهدي قبل السفر لمشاورته في الامر ولتأمين موقفه من الذين يتربصون به في الحزب، وفي مقدمتهم وزير الداخلية السيد مبارك الفاضل ومستشار الامن العميد عبدالرحمن فرح، واخبرني سيداحمد أن السيد الصادق المهدي وافق على الفكرة واعتبرها خطوة جريئة وشجاعة. حددنا مساء نفس اليوم موعداً لحوار سيد احمد خليفة مع جعفر نميري وبدأ الحوار عند الثامنة مساء واستمر حتي الخامسة صباحاً ولذلك اسماه سيداحمد يرحمه بحوار (التسع ساعات). كان اللقاء مفاجأة بالنسبة لسيد احمد خليفة، فلم يكن يتوقع أن يجد نميري متماسكاً رغم الظروف، فكان يسترسل في الحديث ساعة كاملة او يزيد دون توقف. وكان في بعض الاحيان يجعلها حول موضوع واحد وساعة يجعلها لموضوعات شتى، وكان احياناً يجيب عن ذات السؤال واحياناً اخرى بتساءل، وبعض الاحيان يتجاوز عن السمع. وتطرق الحوار الى اشياء كثيرة، وقال الرجل اشياء اكثر، ونشر سيد احمد كل الاشياء بأمانة الكلمة ومسؤولية المهنة.. عدنا مع سيد احمد عند مطلع الفجر الى الفندق على متن سيارة واحدة، ومع ذلك لم اتحدث اليه ولم يتحدث معي حتي الوصول، ولم يكن النعاس وحده الذي ألجمنا عن الحديث، ولكن المفاجأة كانت اكبر من الاستيعاب. عند العاشرة صباحاً اتصل بي سيد احمد تلفونياً وطلب مني الحضور إليه في الفندق فذهبت اليه فوجدته لم ينم غير ساعة واحدة نهض بعدها لاعداد رسالة القاهرة الاولى الى صيحفة «الوطن» في الخرطوم، وجاء في المانشيت «جئنا لنحاكم الرجل فحاكمنا»، وكانت الخطوط ملتهبة ومثيرة، وكانت رسالة القاهرة كل الصفحة الاولى من عدد اليوم التالي من «الوطن» وكانت الاشتعال الحقيقي، وكانت نهاية البداية وبداية النهاية. قال لي سيد احمد خليفة أود أن أسر اليك بأمر مهم وخطير وأريد أن اعرف وجهة نظرك الخاصة والعامة فقبل مجيئي الى القاهرة ذهبت الى السيد الصادق المهدي واقترحت عليه أن يقوم بمبادرة للصلح والتصالح مع جعفر نميري، وقلت له ان نميري عندما كان رئيساً للجمهورية وفي اوج عظمة سلطانه وقوته اتخذ قرارا بالمصالحة الوطنية وقدم يده لمصافحة الجميع وكنت انت اول المصافحين. فلماذا لا تقوم بذات الدور الآن، وانت على مقعد رئاسة الوزارة وزعامة اكبر حزب سياسي؟. واكد لي سيد احمد ان الصادق المهدي وافق على ذلك وأيد مبدأ التصالح مع نميري، ولكن حساسية الموقف لم تشجعه على ذلك وفوَّض سيداحمد للتفاكر مع نميري فإن وافق على ذلك فليقدم سيد احمد المبادرة وسوف يتبناها الصادق المهدي وسيجد لها دعماً وتأييداً داخل حزبه، ثم الجمعية التأسيسية من خلال قوة الحزب البرلمانية وبالتنسيق مع حلفائه. قلت لسيد احمد إن الموضوع بشكله العام يعتبر دعماً لوحدة الصف الوطني في البلاد ولكنه يحتاج الى مصداقية واعتقد أن القطيعة بين الطرفين اضافة الى الحملة الاعلامية المتبادلة تشكل حاجزاً على الأقل في المرحلة الحالية- ولكن يمكن تجاوز ذلك بتقديم حسن النوايا من جانب الحكومة ووعدته بمناقشة الامر مع نميري لتهيئته، ولم يكن رأي نميري بعيداً عما قلت به، ولكنه زاد بأنه لا يثق في السيد الصادق المهدي ولن يدخل معه في أي حوار تصالح ما لم يثبت حُسن النية. واقترح نميري اطلاق سراح المايويين المعتقلين ووقف الحملة الاعلامية ضد مايو ورموزها. عاد سيد احمد خليفة الى الخرطوم وظل يوالي نشر حلقات الحوار الملتهب مع نميري، وكان يتصل بنا يومياً ويقرأ لنا ما يُكتب وكان الياس الامين وبعض المايويين يرسلون لنا صحيفة «الوطن» عبر الفاكس. وفي يوم 18 يونيو 1989م كنت مقرراً العودة الى السودان، فحذرني الاخ سيد احمد يرحمه الله من العودة لأن الاجهزة الامنية علمت بدوري في ترتيب اللقاء بينه وبين نميري، لكنني رفضت ذلك وكنت مُصراً على العودة الى أن جاءنا اتصال آخر يفيد بكشف محاولة انقلاب لصالح الرئيس نميري واعتقال قادتها العميد احمد فضل الله والعميد الزبير محمد صالح، والعميد كمال مقلد وآخرين، واعتقل الاستاذان سيد احمد خليفة ومحجوب عروة، مع مجموعة من السياسيين المايويين الذين اشرف على اعتقالهم وزير الداخلية السيد مبارك الفاضل ولم يشفع للاستاذ سيد احمد خليفة إذنه من السيد الصادق المهدي، وكنت ضمن المطلوبين للاعتقال..