سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.
لم تكن الأولى وربما لن تكون الأخيرة إستقالات القضاة في السودان - حالة رئيس المحكمة الدستورية
هيئات التحكيم لا يجوز لها نظر قضايا ذات طابع جنائي
أشهر استقالة لرئيس قضاء حولته إلى عضو بمجلس قيادة ثورة مايو
حبس السودانيون أنفاسهم مساء الإثنين الماضي عندما بدأت الوسائط الإعلامية تتناقل خبر قبول السيد رئيس الجمهورية المشير عمر حسن أحمد البشير استقاله السيد رئيس المحكمة الدستورية مولانا عبد الله أحمد عبد الله بابكر ومبعث حبس الأنفاس هو أن بعض المجالس والمنتديات العامة كانت قد ربطت هذه الاستقالة بقضية الأقطان الشهيرة التي تنظرها محكمة الخرطوم شمال الجنائية والتي تمت إحالتها وسط دهشة القانونيين إلى هيئة تحكيم ترأسها رئيس المحكمة الدستورية المستقيل برغم أن القاصي والداني يعلم أن القواعد العامة لقانون التحكيم في السودان وغيره تخرج القضايا ذات الطابع الجنائي من اختصاصها وسأفصل هذه الجزئية لاحقا في هذا المقال. وكان رئيس الجمهورية في 31 يناير من العام الماضي قد أعاد تشكيل المحكمة الدستورية برئاسة مولانا عبد الله أحمد عبد الله بابكر وعضوية ثمانية آخرين إذ من المعروف وحسب نصوص الدستور أن المحكمة الدستورية تتكون من تسعة قضاة يعينهم رئيس الجمهورية بناء على توصية من المفوضية القومية للخدمة القضائية وموافقة ثلثي مجلس الولايات الذي يمثل الغرفة الثانية في الهيئة القومية التشريعية. استقالات سابقة استقالات القضاة في السودان كثيرة شأنها شأن كل المهن وتتعدد وتتنوع أسبابها فمنها ما هو شخصي ومنها ما هو متعلق باستقلال القضاء ومهنية القضاة وهذا يعني أن استقالة رئيس المحكمة الدستورية لم تكن الأولى وربما لن تكون الأخيرة. وقد شهدت خمسة العقود الماضية استقالات فردية ذات طابع شخصي للقضاة بمختلف درجاتهم وذلك بغرض تحسين أوضاعهم المعيشية وذلك بالهجرة إلى المملكة العربية السعودية ودولة قطر ودولة الإمارات العربية المتحدة ودولة الكويت وسلطنة عمان ومملكة البحرين وقد آثر البعض الآخر من القضاة المستقيلين الهجرة إلى المهاجر البعيدة وقد غير بعضهم مهنهم وصولا إلى هدف تحسين الوضع وهناك نوع آخر من الاستقالات خلال خمسة العقو د الماضية ارتبطت بأسباب سياسية ذات علاقة باستقلال القضاء. ولكن من الملفت للنظر أن السيد رئيس الجمهورية المشير عمر حسن أحمد البشير قد قبل استقالة رئيس القضاء السابق مولانا جلال الدين محمد عثمان بشكل مفاجئ في بدايات العام 3102م وقد كان التبرير الرسمي للاستقالة لأسباب صحية برغم أن بعض التقارير الإعلامية لا سيما في بعض المواقع الإلكترونية قد أشارت إلى إنها إقالة وليست استقالة لكنها لم تستفيض في ذلك الأمر من حيث إيراد أسباب الإقالة وإن أشارت إلى إشارات ظنية- في ظني الخاص- لم تقف على قدمين من إدلة الإثبات. استقالة شهيرة لرئيس قضاء شهير لعل استقالة رئيس القضاء الأسبق مولانا بابكر عوض الله التي دفع بها لمجلس السيادة الذي يمثل رأس الدولة في 71 مايو 7691م على خلفية الأحداث السياسية التي رافقت واقعة حل الحزب الشيوعي السوداني تمثل الاستقالة الأشهر لرؤساء القضاء في السودان. حيث ختم خطاب استقالته بكلمات قوية ومؤثرة حيث قال: «ولا أريد لنفسي أن أبقى على رأس الجهاز القضائي لأشهد عملية تصفيته وتقطيع أوصاله وكتابة الفصل المحزن الأخير من فصول تأريخه» وغني عن القول إن هذه الأزمة بتفاصيلها المعلومة قد انتهت إلى انهيار الديمقراطية الثانية 4691م -9691م حيث استولى عدد من ضباط الجيش السوداني بقيادة العقيد أركان حرب- وقتها- جعفر محمد نميري على السلطة في البلاد وظهر في تشكيل مجلس قيادة الثورة رئيس القضاء الأسبق مولانا بابكر عوض الله والذي تم تعيينه نائبا لرئيس مجلس قيادة الثورة في ظاهرة لم ير لها مثيل في تأريخ الانقلابات العسكرية في السودان أو غيره بأن يتولى أحد المدنيين منصبا رفيعا في مجلس قيادة الانقلاب. ولكن التفسير المنطقي لما حدث أن مولانا بابكر عوض الله رئيس القضاء المستقيل أراد أن يثأر للإهانة التي تعرض إليها القضاء السوداني ورئيسه من قبل السلطتين التشريعية والتنفيذية اللتين رفضتا إنفاذ قرار المحكمة العليا الذي قضى ببطلان قرار حل الحزب الشيوعي السوداني وطرد نوابه من البرلمان وذلك بناء على تعديل الدستور واستصدار قانون بموجبه تحاكم أي منظمة أو حزب ينادي بالإلحاد، إلا أن السلطتين التشريعية والتنفيذية لم ترفضا تنفيذ قرار السلطة القضائية القاضي ببطلان حل الحزب الشيوعي السوداني وطرد نوابه من البرلمان فحسب بل وجهت آراء قادحة في حق السلطة القضائية ومهينة لها عبر بيانات وتصريحات نشرتها الصحف في ذلك الوقت. استقالة رئيس المحكمة الدستورية وبالعودة إلى استقالة رئيس المحكمة الدستورية مولانا عبد الله أحمد عبد الله بابكر والتي كان من الممكن أن تأخذ شكلها الطبيعي والعادي وأن تسبب بأي أسباب ولكنها من سوء الطالع ارتبطت بواحدة من أعقد وأشهر قضايا الفساد المالي والتي تتنظرها المحكمة الجنائية المختصة حيث تمت إحالة القضية لهيئة تحكيم ترأسها رئيس المحكمة الدستورية المستقيل مما جعل جملة من الأسئلة المهمة والمشروعة تقفز إلى الأذهان ويمكن تخليصها في الآتي: ٭٭ هل يجوز وفقا للقواعد العامة لقانون التحكيم السوداني لسنة 5002 لأية هيئة تحكيم النظر في قضية يغلب عليها الطابع الجنائي وإن تراضى أطرافها على ذلك؟. ٭٭ هل يفسر قبول رئيس المحكمة الدستورية المستقبل رئيسا لهيئة التحكيم في قضية الأقطان وهو لم يزل رئيسا للمحكمة الدستورية انتقاصا من المواصفات التي ينبغي أن يتحلى بها أي قاضي دعك من قاضي محكمة دستورية بل رئيسها والتي من بينها يحظر على القاضي ممارسة أي عمل أو نشاط لا يتفق مع واجبات الوظيفة القضائية واستقلالية محكمته. وأحاول في هذه الأسطر الإجابة عن هذه الأسئلة بالآتي: بالنسبة للسؤال الأول: بدا واضحا أن هناك خطأً شكلياً وجوهرياً قد وقعت فيه أطراف القضية التحكيمية وذلك لأن المادة 4 من قانون التحكيم لسنة 5002م ق عرفت التحكيم بأنه يقصد به اتفاق الأطراف في المنازعات ذات الطبيعية المدنية على إحالة ما نشأ بينهم من نزاع بخصوص تنفيذ عقد معين أو على إحالة أي نزاع قائم بينهم ليحل عن طريق هيئات أو أفراد يتم اختيارهم بإرادتهم واتفاقهم». ومن اللافت أن القضية المثارة ذات طبيعة جنائية في معظم أجزائها وذلك يتضح من خلال الآتي: ٭٭ القضية هي محل نظر بواسطة المحكمة الجنائية المختصة وتمت إحالتها إليها بناء على توصيات لجنة التحري التي شكلها السيد وزير العدل للنظر في مخالفات شركة السودان للأقطان المحدودة وقد توصلت اللجنة في خلاصة تحرياتها- والتي استمرت عاما أو يزيد بقليل- إلى وجود مخالفات واضحة لبعض نصوص القانون الجنائي لسنة 1991م وتم تقييد دعوى جنائية بالنمرة 6812\3102م وتم تحويلها إلى المحكمة الجنائية المختصة. باشرت المحكمة الجنائية المختصة إجراءاتها في محاكمة المتهمين تحت المواد 12،52،62 88 321 771 2 من القانون الجنائي والمواد 617 من قانون الثراء الحرام والمشبوه وهي ذات المسائل التي ناقشتها هيئة التحكيم التي يحظر عليها قانون التحكيم السوداني النظر في مسائل ذات طبيعية جنائية. هناك عدد من الشواهد تدلّ على أن القضية المحالة إلى هيئة التحكيم طبيعتها جنائية بدليل تحلل بعض المتهمين من أموال ثبت أنها ثراء حرام وقيام بعض أعضاء هيئة التحكيم في الترافع عن بعض المتهمين أمام المحكمة الجنائية المختصة. أما بالنسبة للسؤال الثاني فإن ما حدث من رئيس المحكمة الدستورية المستقيل وبرغم أن قانون التحكيم لم يحدد شروطا مقيدة لمن يتولى رئاسة هيئة التحكيم سواء أكان عاملا في القضاء أو أية مهنة أخرى إلا أن البعض عدّ أن مجرد قبوله المهمة وهو في أعلى رأس المحكمة الدستورية يمثل انتقاصا من المواصفات التي يتحلى بها أي قاضٍ، وهي ألا يمارس أي عمل أو نشاط لا يتفق مع واجبات وظيفته وقد عزز ذلك أن اتفاق التحكيم في هذه القضية قد حدد مبلغ ثلاثة ملايين جنيه أي ثلاثة مليارات جنيه «أتعاب» لرئيس وعضوي هيئة التحكيم وقد رأى البعض أن ذلك مثل سببا كافيا لرئيس الجمهورية لقبول استقالة رئيس المحكمة الدستورية رئيس هيئة التحكيم في هذه القضية على نحو سريع ولم يخضعه إلى المراجعة. عموما وفي تقديري الخاص إن مجرد تقديم السيد رئيس المحكمة الدستورية لاستقالته وقبولها على خلفية تداعيات قضية الأقطان يمثل مؤشرا إيجابيا يمكن استثماره لصالح تحقيق العدالة واستقلال القضاء كما يمكن أن تكون هذه الاستقالة وقبولها تصحيحا لمسار قضية شركة الأقطان المحدود ة التي شغلت الرأي العام طويلا والتي لا يهمنا في نهاية الأمر إلا أن تنتهي على نحو صحيح يكفل من خلاله للمتهمين فرص الدفاع عن أنفسهم وتمكين المحكمة المختصة من الفراغ من إجراءاتها والتي لا يساورني شك بأنها ستأتي متفقة مع صحيح القانون وتحقيق العدالة.