ثمة بون شاسع بين ما هو استراتيجي وما هو تكتيكي، وهو ما يضطرنا، بداهة، لاستبعاد أن تكون الحكومة بحديثها عن وجود (خلايا نائمة) سواء في عتمة ليالي الخرطوم أو نهاراتها المفعمة بضوء وحرارة الشمس اللافحة، هادفة لصناعة (فزّاعة) تضع فيها وجودها مقابلاً موضوعياً لنوام تلك الخلايا، متذرِّعة في ذلك بمقدراتها العالية على ال(هدهدة)، ومسندةً ظهرها على حائط القوة، الموجود في قمته قرون استشعار حساسة تحول دون استيقاظ المارد النائم. كذلك، فمن غير الراجح أن تكون الغاية النهائية لأحاديث الحكومة، تصويب (العين الحمراء) للمعارضين ليفكروا آلاف المرات قبيل خطوهم خطوة تقربهم من تحالف الجبهة الثورية (تحالف كاودا) أو أفكاره الداعية لاقتلاع النظام عبر آلية السلاح. مخاطر ومخاوف ؛؛؛ الخرطوم، المدينة التي كانت لا تعلم عن التخريب شيئاً يبدو أنها مهددة بأخطار حقيقية فمجرَّد دخول أدب إعمال السلاح ضد المواطن يمثل ضربة موجعة لمدينة (اللاءات الثلاث) ؛؛؛عليه، وطالما علمنا يقيناً بامتلاك الحكومة خبراتٍ تراكمت طيلة 23 عاماً، فحري بنا أن نأخذ دعواتها القائلة بنمو (خلايا نائمة) في نسيج المجتمع، انتظاراً للحظة صفر محددة -لا يعرف أيان مرساها- لتنتفض فيها من سباتها العميق مشيعةً الدمار والخراب في آصرة مجتمعٍ ظل ديدنه التسامح رغماً عن معتركات السياسة؛ مأخذ الجد. وتنبع خطورة الخلايا النائمة، من إمكانية تحول أشخاص عاديين يستقلون المواصلات العامة، ويجادلون في محكمي مباريات قمة الكرة (الهلال والمريخ)، وتعلو شفاههم البسمات وتستلطف مؤانستهم، في علاقة قطيعة كاملة لما تبثه القنوات الفضائية في ثنايا تحذيرها من الإرهاب بتصويرها القائمين على أمره -في العراق تحديداً- بأنهم أشخاص مضطربون ذهنياً ومشوشون نفسياً، ويتحولون بيسرٍ بالغ إلى قنابل متفجرة بالغة الخطورة، حال تلقيهم أوامر بذلك، متناسين -لربما عمداً- أن الإيمان بقضية ما، غض الطرف عن عدالتها قد يدفع منسوبوها وفي سبيل مناصرتها للإتيان بأفعال غاية في العنف والغرائبية. الخرطوم، المدينة التي لا تعلم عن التخريب سوى صفات تلحق بمحاولات لا محل لها من إعراب الواقع وتستوطن فقط في أضابير الشرطة وسوَّد صحائف العاصمة؛ يبدوها هذه المرة مهددة بأخطار حقيقية -وإن تحت السيطرة- فمجرَّد دخول أدب إعمال السلاح ضد المواطن ومقدراته من باب الخلط المتعمد بين مناطحة النظام وتدمير المستودع الوطني الذي يحفظ ممتلكاته المصاغة من أموال دافع الضريبة؛ يمثل ضربة موجعة لمدينة (اللاءات الثلاث) في صميم تعايش وسمّها على امتداد تاريخها، إذ تحتشد سجلاتها بقائمة طويلة من الوشائج الاجتماعية المائزة التي ربطت مختلف مكوناتها السكانية، وهذا مبحث يطول أعدّ للكتابة عنه بتفصيلية -إن مدّ الله في الآجال- خلال وقتٍ لاحق. إطار مفاهيمي وبالانتقال للتعريفات، نجد أن مفهوم الخلايا النائمة ارتبط عندنا -وإلى وقتٍ قريب- بالجماعات المتشددة، التي تصنف المخالفين ضمن قوائم الكفار الواجب مجاهدتهم بشعب الإيمان ال 70 بما فيها أعلاها رتبة أي التغيير باليد، ولذا يجوز لنا وضع الخليفي، وعباس الباقر، وخلية (السلمة) ضمن عقد الخلايا النائمة التي دبت الحياة في أوصالها فجأة لتصيب الخرطوم بمواتٍ وهلع ما زال أثره متصلاً إلى يومنا هذا. أما اليوم فتنحو سبابة الاتهام جهة مكونات الجبهة الثورية بامتلاكها خلايا نائمة، فالتحالف الذي يضم في طياته عدداً من الحركات المناوئة لنظام الخرطوم، والمستقوية بدولة جنوب السودان، يبدو أنه لا يراعي إلاً ولا ذمة ولا مانع لديه من التذرُّع بقاعدة (الغاية تبرر الوسيلة) في سبيل الإطاحة بحكومة القاعدة العريضة المشكلة في الخرطوم. ؛؛؛ الجبهة الثورية متهمة بامتلاكها لخلايا نائمة، فالتحالف يتذرُّع بقاعدة (الغاية تبرر الوسيلة) في سبيل الإطاحة بحكومة القاعدة العريضة المشكلة في الخرطوم ؛؛؛ وبمقاربة بسيطة، يمكن أن نقول إن الخلايا النائمة المنطلقة من منصات دينية، أخف ضرراً على المجتمع من نظيرتها السياسية، وما من سبب سواء وسطية أهل السودان التي جعلتهم بمنأى عن الغلو والتطرف الديني، وبالتالي أبعدتهم عن فوهات بنادق التكفيريين التي وجهت لصدر المجتمع -في مرات نادرة- ارتبطت بتصفية حسابات مذهبية، معظمها وافد، أو بانت نواجذها على هيئة معاداة بيِّنة للوجود الأجنبي سيما بعثات الأممالمتحدة. ومن باب لازم الفائدة دعونا نذّكر بجون غرانفيل موظف المعونة الأميركي، وقتيل رأس سنة 2008م. التطرُّف الديني والسياسي سبب آخر يجعل المتطرِّفة يمسكون بأيديهم عن المجتمع، ومتعلق بإسلامية الدولة، إذ أن الإنقاذ وفي مختلف طبعاتها صبغت جلدها ب(كرياتنين) الإسلام، هذا إلى جانب أن معظم دساتير الأحزاب تتخذ الشريعة الإسلامية مصدراً من مصادر التشريع، مع ملاحظة أن الصوت العلماني شديد الخفوت، بل ويتلبس جلّ الأحايين لبوس الدولة المدنية التي لا تتمنع عن الأخذ بتعاليم الشريعة الإسلامية، إلى جانب الدساتير الوضعية وكريم المعتقدات، دون إغفالٍ لحركة الأسلمة التي تجتاح المجتمع، والذي يكاد يكون خلواً من حركات مقاومة لتوجهات الدولة الإسلامية، ولم يظهر منه -على الأقل إلى اليوم- معاداة لما تذهب إليه. وغير بعيدٍ مما ذكرناه، ومن باب وضع الأمور في نصابها، نقول باستبعادنا للصراعات المتواترة بين المتصوِّفة وأنصار السنة من تأطيرات الخلايا النائمة، بحسبانها صراعات معلومة -بالضرورة- ويمكن كبح جماحها -شأنها شأن التكفير- بالتناظر والحوار الهادئ المستنير، أو بإحكام السيطرة والرقابة الأمنية على أفرادها من خلال العمل الوقائي الاستباقي، أو حتى بشق برزخ بين الفرق المتشاكسة تحول دون أن يبغي أحدها على الآخر، مع ملاحظة أن مواسم الخلافات الدينية معروفة كاحتفاليات مولده صلى الله عليه وسلم، وأيان صدور أي قرارات أممية مستهدفة للخرطوم وقادتها، ما تعده تلك الجماعات نوعاً من محاولات التركيع لأمة مسلمة من قبيل أخرى كافرة. أما الخلايا السياسية، فخطرها يتزايد من مبرراتها ال(براغماتية)، التي تجلت بوضوح في بيان ياسر عرمان أحد المضلعات الرئيسة في تحالف الجبهة الثورية، إذ بدا ياسر سعيد بضرب حقل هجليج النفطي، بحسبانه مدخلاً لتجويع الشعب السوداني، وفجاً سالكاً لوصولهم سدة الحكم، هذا بالطبع بعد ثورة الشارع على الأوضاع الاقتصادية المتردية ونظام الخرطوم. خطورة متزايدة وبإسقاط البيان على الواقع، نجده ينبئ بشرٍ مستطير حال انتوت الجبهة الثورية تفعيل خلاياها النائمة، فلا نستبعد ضربها المؤسسات الحيوية، وافتعال الفوضى بطرق عدة منها الإقدام على ترويع الأهالي الآمنين ويتبادر إلى الذهن عمليات (التفجير والتفخيخ)، ما يعني توقف دولاب الحياة، وفي أفضل السيناريوهات المحتملة: بثّ الشائعات التي من شأنها إثارة الرعب في أوصال المجتمع وانسحاب ذلك على أحواله الاقتصادية -المتأثرة جداً بالانفصال- والعمل على مفاقمتها بواسطة ثلة تجار جشعين يستثمرون في كل شيء، بما في ذلك الأزمات. ؛؛؛ الخلايا السياسية، خطرها يتزايد من مبرراتها ال(براغماتية)، التي تجلت بوضوح في بيان ياسر عرمان أحد المضلعات الرئيسة في تحالف الجبهة الثورية ؛؛؛ وطبقاً للتحذيرات الحكومية القائلة بوجود خلايا نائمة على وسائد وبطانات السياسة، فإنه من الراجح أن تكون استمدت -أي الخلايا- قدرتها على النوام مما تعارف عليه بأدبيات صراع (المركز والهامش)، ونعضدّ حديثنا الآنف بتصريحات قادة حركات مسلحة أبانوا فيها نيتهم نقل معاركهم مع الحكومة لقلب الخرطوم، سواء شئت ب (قلب) موطن نبضها وحياتها، أو تبديل أوضاعها عكسياً (رأساً على عقب). بيد أن الخطير في المسألة، هو قدرة الحركات المسلحة على تجييش أهالي الهامش، ودفعهم لخوض حروبات استنزاف مميتة ضد المركز بدعوى استئثاره بكل خيرات البلاد بما فيها خيراتهم وتوزيعها أنّا شاء. بدورها الحروب توّلد شحنات كراهية وغبن كبيرة لدى جزيئات ضمن شريحة غير المشاركين في الحرب والتقتيل من بوابة الاحتجاج المكتوم على ما يرونه قمع المركز لبني جلدتهم -يصوره المركز في المقابل نوعاً من فرض السيادة المشروع- وهو ما يصنع منهم مشاريع خلايا نائمة بامتياز، وما يزيد الطين بلة، هو إغفال قادة العمل المسلح وأهالي الهامش سواء في مواطنهم أو خارجها لوقوع أهالي المركز أنفسهم داخل (تروس) عجلة آلة اقتصاد السوق الحر الطاحنة التي يزيد من طاقتها تغذيها على وقود الحرب، الحرب التي لا تتوج بمنتصر، والجميع يخسر فيها ولكن بدرجات متفاوتة. رعايا الجنوب في الخط ومؤخراً، حشرت المساجلات السياسية والعسكرية، مواطني كلاً من جوباوالخرطوم ضمن معادلة البلدين السياسية، ما يعد مصدر خطورة جديد وجاد، ولكوننا معنيين بالخرطوم، فالأخيرة كمثال ضبطت خلية نائمة قوامها 17 فرداً من أبناء دولة الجنوب داخل منزل نائب رئيسه، د. رياك مشار، بإحدى ضواحي الخرطوم الراقية قبيل تنفيذهم مخطط تخريبي يهدف لإثارة البلبلة، طبقاً لكل صحف الخرطوم الصادرة في يوم (17/ أبريل/ 2012م). ؛؛؛ المواطن (الخرطومي) وبعد عدة تجارب مريرة، امتلأ هلعاً وبات لا يتوانى في الاستعصام بمنزله أو حتى مغادرة العاصمة برمتها لمجرَّد شائعات تبث هنا وهناك ؛؛؛ وبناءً عليه، فمن غير المستبعد وجود خلايا أخرى شبيهة، ظروف انتاجها المناخ العكر الذي صنعه الانفصال بتحويله كل الجنوبيين أجانب، وما يتطلبه ذلك من تكييفات قانونية فقد بموجبها جلّهم وظائفه ضمن طاقم موظفي وعمال حكومة السودان الموحد، زّد على ذلك حالة الخوف الناجمة من طريقة تعامل الخرطوم الرسمي مع أعدادهم الكبيرة والمتزايدة، آخذين في الحسبان أفعال حكومتهم غير المحسوبة تجاه الشمال عموماً ورعاياه في الجنوب على نحو خاص وإمكانية مقابلة ذلك داخل العاصمة بردات فعل شبيهة أو حتى أقوى، ينضاف لكل ذلك وجود تيار شعبي لا يتورّع في ملاقاة تفلتات بعض أبناء الجنوب بتفلتات مضادة، ولكم في حادثة حي "أبو آدم" الأخيرة (25/ أبريل/ 2012م) دليل وبرهان، وبالتالي فإن عوامل الخوف من المستقبل والتبطل والعوز قد تدفع الجنوبيين الممالين -بالطبع- لدولتهم الوليدة التي تجدْ للمفارقة في إبقائهم شمالاً، تدفعهم لارتكاب خطايا لا تغتفر بحق الشمال وشعبه. أين هو الحق؟ وبنقل الكرة لملعبٍ آخر، نستعرض فيما يلي إذا ما كانت الخرطوم محقة بإعلانها وجود خلايا نائمة ضمن نطاقها الجغرافي؟ ونقول بوجود رأيين متضادين في المسألة، الأول يثني على شجاعة أساطينها في الاعتراف بوجود مهددات أمنية قابعة تحت الأرض، كون ذلك يحوّل المواطن لشريك جاد في عملية الأمن القومي، وتحوّله لمستريب جيد من أية أمور غير مألوفة تقع تحت ناظريه ما يعين السلطات في حروبها الوقائية التي أشرنا لها آنفاً كما يمكن للإعلان وعلى طريقة (أعنيك يا جارة) تعطيل مشاريع عنف محتملة لخلايا نائمة تعلم يقيناً بأن السلطات الأمنية والأهالي على حدٍّ سواء في كامل يقظتهم، بينما ينحو الرأي الثاني لخطأ ما ذهبت إليه الحكومة. بحسبان أن المواطن (الخرطومي) وبعد عدة تجارب مريرة، امتلأ هلعاً وبات لا يتوانى في الاستعصام بمنزله أو حتى مغادرة العاصمة برمتها لمجرَّد شائعات تبث هنا وهناك (موسم الهجرة إلى الأقاليم إبان الانتخابات نموذجاً) في صورة ذهنية مخالفة تماماً لأهل تلودي الذين استمسكوا بمدينتهم على الرغم من اعتداءات الجيش الشعبي المتكررة، وبالتالي فإن الإعلان الحكومي يزيد فقط من أوار مخاوف أصلاً موجودة، بوقتٍ كان حقيق على القائمين بالأمر معالجة القضية بمعزل عن النشر والعلانية، كخطوة مهمة في إسكات وتهدئة أصوات الخوف، وإعادة أهالي ملتقى النيلين سيرتهم الأولى في الزود عن مدينتهم بالغالي والنفيس. حلول وقبل أن نخط ختامية المقال، كان لازماً علينا وضع مقترحات حلٍّ، نبعثها في بريد مختلف الأطراف، لجهة تفكيك الخلايا النائمة، أو حتى تركها تغط في سباتٍ عميق يضاهي الموت، ومما ننادي به: المسارعة في ضبط وتقنين ومراقبة الوجود الأجنبي والجنوبي بصفة خاصة لطبيعة العلاقات المتوترة بين الخرطوموجوبا، تحوطاً لمكافحة أي مخاطر محتملة في أطوارها الأولية. تدعيم وتطوير الأجهزة الشرطية والأمنية لمحاربة مهددات الأمن القومي كافة، مع قيادة حملة واسعة النطاق لجمع وتحريز السلاح المملوك للأهالي. إدارة خطاب توعوي لنسف مبررات العمل المسلح، فالحرب وكما يقال تبدأ في عقول الرجال، ولذا فإن محاربتها تتطلب نسف غزلها المنسوج في الأدمغة. اتباع منهاج الحوار والتفاوض كسبيل لحلحلة مشكلات البلاد السياسية بالتركيز على صراعات الهامش والمركز، فكل يوم يمر في الاختلاف من شأنه مفاقمة الشُقة بين أطراف البيت السوداني، شريطة أن يصاحب ذلك تعهدات مغلظة بإيلاء المناطق المتأثرة بالنزاع اهتماماً خاصاً ضمن الخارطة التنموية أو ما يعرف ب (التمييز الإيجابي). محاربة الخطاب المناطقي والجهوي والقبلي، والتأكيد على الوطن كوعاء جامع لكل السودانيين. تكامل الجهدين الرسمي والشعبي، لدفع سكان العاصمة للالتفاف حول مدينتهم لتلافي مكامن الخطر، والتماسك إبان الملمات عبر عمل توعوي كبير، يستحسن أن تضطلع به منظمات المجتمع المدني.
