عندما نشر ميشيل فوكو كتابه "الكلمات والأشياء" في عام 1966م، فإنه كان يحاول أن يفهم القاعدة المفاهيمية والشروط التاريخية التي تطورت انطلاقاً منها العلوم الإنسانية في الغرب. وهُنا زعزع تحليله عدة حقول معرفية ضمن مرتكزاتها الأساسية، على رأسها الأثنولوجيا، التي مثل بالنسبة لفوكو مظهراً نموذجياً ل "العقل الغربي" وعلاقته الأساسية بثقافات أخرى، يرتبط بها دائماً "على المستوى النظري المحض". تشكك فوكو في "علم الشعوب التي بلا تاريخ"، التي وُلدت في الإطار الاستعماري، ومع ذلك ساهمت في هيمنة أوروبا على مجتمعات غير غربية. وهنا سار نقده في الستينيات جنباً إلى جنب مع الحركات التاريخية المناهضة للاستعمار. ؛؛؛ الفشل الذي لازم "الاشتراكيات الأفريقية" – سوكو توري، رئيس غينيا ، ونكروما رئيس غانا، تخلّى مثقفو العالم الثالث تدريجياً عن التفسير المادي للتاريخ ؛؛؛ خيبة أمل لكن تعلق نجاحه المتزايد عند المُستعَمر السابق بخيبة أمل هذا الأخير في الماركسية، بوصفها شبكة تحليل وأدوات للتحرر. فبعد قمع الثورات الشعبية من قبل الاتحاد السوفياتي في بودابست 1956م، ومن ثم في براغ بعد 12 عاماً. ومع فشل "الاشتراكيات الأفريقية" – سوكو توري، رئيس غينيا 1958-1984م، ونكروما رئيس غانا 1960-1966م- تخلى مثقفو العالم الثالث تدريجياً عن التفسير المادي للتاريخ، من أجل تحليل سلطة الآيديولوجيا ضمن العلاقات بين الشعوب. لكن، بشكل أبعد من أن يكون تعبيراً بسيطاً، تبعاً للمصطلح الماركسي، لعلاقات أو أنماط إنتاج اقتصادي، فإنه على النقيض من التفسير الماركسي، يمكن أن تؤثر الأفكار والصور على أنماط الإنتاج الاقتصادي، وتلعب بالتالي دوراً مهماً في ممارسات بعض أشكال الهيمنة. وفي هذا السياق، أثارت تأملات فوكو حول العلاقات بين المعرفة والسلطة، التي طورها في كتابه "حفريات المعرفة" الذي صدر عام 1969م، ومن ثم تعريفه للخطاب بوصفه نظام ممارسة ينتهي إلى السيطرة والإقصاء والهيمنة، الذي طرحه في كتابه "نظام الخطاب" 1970م، أثارت اهتماماً متزايداً لدى المثقفين في العالم الثالث، على إثر خروج الاستعمار الأوروبي، حتى لو كانت تقلبات تاريخهم القومي قد أجبرتهم على الهجرة السياسية إلى الولاياتالمتحدة الأميركية. ؛؛؛ أعمال فوكو طورت حقلاً جديداً للبحث، يتقاطع مع العلوم السياسية، الفلسفة، التحليل النفسي، النقد الأدبي، يسمى ب "دراسات ما بعد الاستعمار" ؛؛؛ سعيد على الدرب كان أول من اعلن تأثره بفوكو، هو الفلسطيني- الأميركي إدوارد سعيد (1935-2003م)، أستاذ الأدب بجامعة كولومبيا ونيويورك. ففي كتابه "الاستشراق": الشرق مبتكر من قبل الغرب 1978م، درس المكان المحدد للشرقيين في مخيلة الغربيين- مكان يستخدمه الغربيون كجزء من لوحة للتعريف، وتباين هويتهم. وكشف أن الأدب والدراسات الشرقية استُخدمت كذلك لتبرير الغزو ومن ثم التفوق الاستعماري. من الجانب الأفريقي، أعلن الفيلسوف الكنغولي فالتين ييف مودمبي (1941م)، والمؤرخ الكاميروني أشيل أمبمبي (1957م) تأثرهما صراحة بفكر فوكو لكيما يكشفا التمثيل الغربي لأفريقيا بوصفها رمزاً للبدائية، ولقارة متوحشة تهيأت للتمدن من خلال استخدام أراضيها، أجسادها، وأرواحها. في الثمانينيات، سمحت أعمال فوكو لعدة كليات جامعية أميركية أن تطور حقلاً جديداً للبحث، يتقاطع مع العلوم السياسية، الفلسفة، التحليل النفسي، النقد الأدبي، يسمى ب "دراسات ما بعد الاستعمار". ؛؛؛ المفكر ميشيل فوكو اهتم قليلاً بالمؤلفين والأعمال، التي يسميها ب "التناسق الخطابي": هذه الاهتمامات الفكرية، المفاهيم، مقاربات لعدة حقول معرفية تُكوِّن نظاماً عاماً للمعرفة ؛؛؛ ترميم "المؤلف".. أليس ثمة مفارقة أن ينتقد مفكرون غير غربيين الغرب انطلاقاً من أعمال مفكر فرنسي، لم يكن من جهة أخرى مهتماً على الإطلاق بمجتمعات غير أوروبية – حتى إذا كان قد أقام بتونس أستاذاً زائراً في الفلسفة؟ بالتأكيد لم يغب ذلك عن ذاكرة مفكري ما بعد الاستعمار، وتظل قراءتهم لأعمال فوكو قبل كل شيء قراءة نقدية. إذا وصف إدوارد سعيد على سبيل المثال الاستشراق بكونه خطاباً بالمعنى الفوكوي، أي نسقاً كلامياً لحقيقة غريبة من أجل سيطرة أفضل، فإنه لم يدرس أبداً هذا الخطاب على أنه مجموعة وثائق جماعية مجهولة. في الواقع، كان فوكو يهتم قليلاً بالمؤلفين والأعمال، التي يسميها ب "التناسق الخطابي": هذه الاهتمامات الفكرية، المفاهيم، مقاربات لعدة حقول معرفية تُكوِّن نظاماً عاماً للمعرفة في حقبة ما، وهو ما يطلق عليه مصطلح الابستمية. ؛؛؛ المفكر إدوارد سعيد شدد على التأثير الحاسم للأعمال الأدبية، الفلسفية، التاريخية، التي ترسم خطوط سير "خطاب ما تجاه الآخر"، التي يمكنها أن تعدل مضمونه ؛؛؛ التأثير الحاسم للأدب شدد إدوارد سعيد على نحو متزايد على التأثير الحاسم للأعمال الأدبية، الفلسفية، التاريخية، التي ترسم خطوط سير "خطاب ما تجاه الآخر"، التي يمكنها أن تعدل مضمونه بصورة ملموسة. وكان قد أعاد بذلك ترميماً "للمؤلف"، على نقيض المحو الذي يمارسه فوكو في حفرياته. على غرار المفكر الفلسطيني، ردّ موديمبي وامبمبي الاعتبار ل "الذات" على مستوى الحقوق والواجبات، أي ضمن استخداماتها للعقل. ففي كتابه "اختراع أفريقيا"، استبدل موديمبي مفهوم فوكو للابستمية بال gnosis – كلمة إغريقية تعني المعرفة، التي يتم توظيفها بواسطة ذات ما. في حين أن الابستمية episteme عند فوكو تشير إلى ما يسبق في الوجود الذات، وخطابها، وعلى النقيض من ذلك يرتبط ال gnosis بالمسيرة الشخصية والإرادية، وينطوي على بُعد نسبي، ذلك لأن في مقدوره أن يصف (معرفة الآخر) أو على الأقل بعض الأُلفة معها. ؛؛؛ المفكرون الذين ينتمون ل(ما بعد الاستعمار) أكدوا أن الأثنولوجيا نسبية، وأنها تتشكل تاريخياً من التأثير المتبادل أو من تأثيرات متبادلة مع ثقافات أخرى ؛؛؛ نسبية فلسفية هنا يكمن دون شك الانحراف الأساسي الذي فرضه فكر ما بعد الاستعمار على فوكو، الذي يتعلق بتحدي نسبية الفلسفة. في الواقع، كان مؤلف "الكلمات والأشياء" قد اقترح "حفراً في العلوم الإنسانية"، وعرّف في الأثنولوجيا "بعض مواقع العقل الغربي"، وهو ما سمح له بأن يقابل هذا الأخير بإطار معرفي آخر، أو بتشكلات عقلية أخرى. لكن كشف مفكرو ما بعد الاستعمار أنفسهم أن الأثنولوجيا هي قبل كل شيء نسبية، وأنها تتشكل تاريخياً من التأثير المتبادل أو من تأثيرات متبادلة مع ثقافات أخرى، أي ابستميات أخرى "عربية، إسلامية، يهودية، صينية.. إلخ". لكن، لنكن دقيقين. إن هذا التشديد من قبل مفكري ما بعد الاستعمار على الذات والبُعد النسبي، وبالتالي الأخلاقي، لكل معرفة تظهر في أيامنا هذه، هو قريب جداً من آخر أعمال فوكو، ومحاضراته الأخيرة في college de france التي سميت ب "حافز الحقيقة" 2009م، التي كانت قد تناولت هذه الأسئلة. انطوني مانجون، أستاذ الأدب الفرانكفوني بجامعة السوربون. مؤلف كتاب "الفكر الأسود والغرب: من الببلوغرافية الاستعمارية إلى باراك أوباما، 2010م".