كان حوش مدرسة المؤتمر الثانوية في أمدرمان في نهاية الستينيات يضج بالحياة وصخب الشباب، لكنه يبدو خاوياً وقت الضحى، فقد أوى التلاميذ إلى فصولهم، وبدأ من بعيد التلميذ معتصم فضل عبد القادر يهرول لاهث النفس حتى وقف أمام باب الفصل وكانت الحصة محاضرة للناظر عن فن الدراما. البدايات الأولى رسخت تلك المحاضرة في ذهن التلميذ معتصم، ولعلها كانت دليله على مدى 42 عاماً قضاها في حوش الإذاعة السودانية حتى ترجل من مقعد المدير العام لها الأسبوع الماضي. وهنا تبرز ملاحظة فحواها أن الأستاذ معتصم فضل خلال رحلته في ردهات الإذاعة السودانية كان مهموما في البحث عن مواصفات البرنامج الإذاعي، من دون التركيز على اسم معين. وتستمد هذه الملاحظة مشروعيتها من جهة أن معتصم فضل يتكئ على ثلاث ركائز، الأولى: خبرة عملية تمتد لأكثر من أربعين عاما داخل حوش الإذاعة، والثانية: دراسة أكاديمية ضمت كشكولا من المواد النظرية المتنوعة شملت علوم الدنيا والآخرة في فترة انتقالية عاشتها جامعة أمدرمان الإسلامية إبان تلك الأيام التي كان معتصم طالبا فيها. والثالثة: إتقان جيد لأكثر من لغة أجنبية مكنته من حضور مؤتمرات ودورات علمية في عدة دول أوروبية. ؛؛؛ المحاضرة التي قدمها ناظر المدرسة عن فن الدراما رسخت في ذهن التلميذ معتصم، وكانت دليله على مدى 42 عاماً قضاها الإذاعة حتى ترجل ؛؛؛ شهد العام 1972 تخرج معتصم فضل ضمن دفعة ضمت 80 خريجاً في كلية الدراسات العربية والإسلامية، وكان هذا الاسم قد أطلقته ثورة 25 مايو 1969 في طبعتها الشيوعية الأولى على جامعة أمدرمان الإسلامية. التحق 77 منهم بوزارة الحكم الشعبي، ليعملوا ضباطاً إداريين ضمن مشروع (الضباط السيارة) الذي ابتدعه المرحوم الدكتور جعفر محمد علي بخيت. أما الثلاثة الذين لم يصبحوا ضباطاً فهم: أ.دعبد الله حمدنا الله متعه الله بالصحة والعافية، والصحفي المخضرم محمد علي محمد خير، والأستاذ معتصم فضل محور هذه السطور. مظاهر التميز لعل أول مظاهر تفرد إذاعة معتصم فضل نجاحها في تخطي عقبة أن المجتمع السوداني مجتمع احتفالي، تسيطر عليه ثقافة الاحتفال، بكل قيمه الاجتماعية والاقتصادية والسياسية. والمقصود بثقافة الاحتفال أن المشاريع كفكرة تأخذ كرنفالاً أكبر من تنفيذ المشروع ذاته، وأن المسؤول عن المشروع يتبوأ حجماً أكبر من الفكرة والأثر الذي تخلفه. والدليل على تخطي هذه العقبة يبدو جلياً في نشرة أخبار السابعة صباحاً، إذ برع الفريق العامل في إعداد النشرة في تجاوز كل محاذير ما يعرف عند أهل الإعلام بسيطرة (أخبار البروتوكول)، بل نجح في تقديم وجبة أخبارية دسمة تقدم أخبار الدولة والمجتمع في توازن معقول وتدعم أخبارها بتقارير وشهادات سماعية حية ومباشرة من مختصين وخبراء في المجالات المختلفة. ؛؛؛ الدليل على تخطي عقبة الاحتفال يبدو جلياً في نشرة أخبار السابعة صباحاً، التي تجاوزت كل محاذير ما يعرف عند أهل الإعلام بسيطرة (أخبار البروتوكول) ؛؛؛ ألوان الطيف شاهد التطور الأول في إذاعة معتصم أن البرامج تغطي حسب طبيعة البرنامج كافة ألوان الطيف السياسي والثقافي والاجتماعي في البلاد، ذلك أنني شككت في أذني أكثر من مرة حينما استمعت إلى صوت السيد الصادق المهدي يتحدث أكثر من مرة بما معناه أن الحوار مع المؤتمر الوطني (مضيعة للوقت ولا بد من تفكيك النظام). وكذلك الأستاذ عبد الله البشير، وهو كاتب شاب ألف كتاباً ضخماً عن الأستاذ محمود محمد طه. كانت دهشته بالغة ومتأثراً جداً حين قال لسادن التوثيق الفذ أ.د قاسم عثمان نور في برنامجه كاتب ومؤلف "إن الإذاعة السودانية كانت أول وسيلة إعلامية سودانية تستضيفه عن هذا المؤلف والراحل محمود". الصعيد المهني على الصعيد المهني ثابرت نشرة السابعة على تقديم وجبتها الإخبارية خلال فترة زمنية محددة وثابتة قدرها 40 دقيقة تحتوي على نشرة إخبارية ثم تقارير ولقاءات محلية ثم نشرة عالمية مدعمة بتقارير صوتية لمراسلي الإذاعة السودانية. ولعل شاهد التطور هنا أن الإذاعة السودانية تسعى لتخطي محاذير النقل عن آخرين باعتماد مراسلين في دول الجوار يهتمون بالشأن السوداني في تلك الدول، ثم يقدمون التقارير الخاصة بالقضايا الأخرى للإذاعة السودانية. وقد يقلل من هذه الخصوصية في بعض الأحيان لجوء بعض مراسلي الإذاعة إلى تطويل التقرير وحشوه بتفاصيل ليست هناك حاجة لسردها. ولعل الظروف الاقتصادية الأخيرة قد أدت إلى غياب نشاط المراسلين حالياً. ؛؛؛ العمل الإذاعي بأنواعه يحتاج إلى الإبداع العميق، وهذا الإبداع يجب أن يكون قائماً على أصول متشابكة ومعقدة فيها الكثير من الموهبة المدعومة بالخبرة والمعرفة ؛؛؛ حرية الرأي على أن أهم نجاح لإذاعة هنا أمدرمان في عهد معتصم فضل هو مثابرتها على تطوير مفهوم حرية الرأي المسؤولة لدى المؤسسة الإعلامية الرسمية. ودون الخوض في تفاصيل الاختلاف حول القصد من عبارة (حرية مسؤولة)، فإن الإذاعة عبر العديد من البرامج تشجع على التفكير بصوت عال في مختلف القضايا، ولعل هذا التشجيع يسهم في بناء سقف لحرية الرأي، يتميز بالوضوح، ويحرسه تشريع وقانون من أهم مبادئه احترام حرمة المقدسات، وحماية أمن الوطن، والشواهد كثيرة لعل أبرزها الاتصالات الهاتفية المباشرة من المواطنين حول الكثير من القضايا والهموم التي تصادف في حياتهم. الإبداع العميق يحتاج العمل الإذاعي بأنواعه إلى الإبداع العميق، وهذا الإبداع يجب أن يكون قائماً على أصول متشابكة ومعقدة فيها الكثير من الموهبة المدعومة بالخبرة والمعرفة حتى يمكن للعمل أن ينجح جماهيرياً. ولا خلاف في أن من يضع كل هذا الإبداع على الورق ويجهزه للانطلاق هو الكاتب معد البرنامج، وليس المذيع أو الممثل أو المخرج أو المنتج. وواقع الحال يفيد أن البيئة في إذاعة معتصم فضل نوعا ما جاذبة مادياً ومعنوياً للمبدعين. ولا غرو في ذلك فقد أطلق شعار (الإذاعة السودانية - ذاكرة أمة). وقد تعمد الأستاذ معتصم فضل حسب (ونسة) قديمة التركيز عبر الشعار على (إعلاء قيم المهنية والعمل)، مؤكداً أن "الإذاعة السودانية ذاكرة الأمة، لأن مكتبتها تحتوي على 100 ألف شريط مسجل تختلط فيها أصوات الزعماء والمفكرين والسياسيين وأهل الفن والرياضة وكافة ضروب الإبداع التي تملأ حياة أهل السودان". ؛؛؛ الإذاعة السودانية ذاكرة الأمة، لأن مكتبتها تحتوي على 100 ألف شريط مسجل تختلط فيها أصوات الزعماء والمفكرين والسياسيين وأهل الفن والرياضة وكافة ضروب الإبداع ؛؛؛ وضرب مثلاً بأن "محتويات المكتبة تتيح للمستمع أن يراجع مع أ.دعبد الله الطيب تفسيره للقرآن الكريم، وأن يستمع إلى طه حمدتو في وصف حي لمباراة في أدغال أفريقيا تنقل إلى الخرطوم عبر الهاتف عن طريق لندن". إذاعة معتصم فضل لسنا في حاجة إلى توضيح أن إذاعة معتصم فضل قصد بها الإذاعة السودانية في الحقبة الزمنية التي أدارها فيها معتصم، وهي فترة خصبة ومفصلية في تاريخ السودان، ويستمد هذا الاسم مشروعيته من تلمس الإذاعة لافتنان المستمعين بالبرامج التي تقدمها، وهذا أولاً. أما ثانياً، فإن معتصم فضل جلس قضى في ردهاتها 42 عاماً كانت مثل جلسة نهارية ساهرة وسعيدة في استديو الموسيقى، لم يشعر بالزمن راقب بلا ملل حركة صناعة الوعي وصور بث الوفاء مثل صوت الموج وبقع الضوء ممزوجة بالرذاذ في بحر يتسع أمامه كل ضيق، لا يقيم حدوداً، فيشرح الصدر هذا الهواء. نسأل الله أن يلبسه ثوب الصحة والعافية.