وكيل الحكم الاتحادى يشيد بتجربةمحلية بحرى في خدمة المواطنين    أفراد الدعم السريع يسرقون السيارات في مطار الخرطوم مع بداية الحرب في السودان    مليشيا التمرد تواجه نقصاً حاداً في الوقود في مواقعها حول مدينة الفاشر    ضربة موجعة لمليشيا التمرد داخل معسكر كشلنقو جنوب مدينة نيالا    مدير مستشفي الشرطة دنقلا يلتقي وزير الصحة المكلف بالولاية الشمالية    شاهد بالفيديو.. شاعرة سودانية ترد على فتيات الدعم السريع وتقود "تاتشر" للجيش: (سودانا جاري في الوريد وجيشنا صامد جيش حديد دبل ليهو في يوم العيد قول ليهو نقطة سطر جديد)        ضياء الدين بلال يكتب: نحن نزرع الشوك    بالصور.. اجتماع الفريق أول ياسر العطا مساعد القائد العام للقوات المسلحة و عضو مجلس السيادة بقيادات القوة المشتركة    أقرع: مزايدات و"مطاعنات" ذكورية من نساء    وزير خارجية السودان الأسبق: علي ماذا يتفاوض الجيش والدعم السريع    شاهد بالفيديو.. خلال حفل حاشد بجوبا.. الفنانة عشة الجبل تغني لقادة الجيش (البرهان والعطا وكباشي) وتحذر الجمهور الكبير الحاضر: (مافي زول يقول لي أرفعي بلاغ دعم سريع)    شاهد بالفيديو.. سودانيون في فرنسا يحاصرون مريم الصادق المهدي ويهتفون في وجهها بعد خروجها من مؤتمر باريس والقيادية بحزب الأمة ترد عليهم: (والله ما بعتكم)    غوتيريش: الشرق الأوسط على شفير الانزلاق إلى نزاع إقليمي شامل    أنشيلوتي: ريال مدريد لا يموت أبدا.. وهذا ما قاله لي جوارديولا    سوداني أضرم النار بمسلمين في بريطانيا يحتجز لأجل غير مسمى بمستشفى    محاصرة مليوني هاتف في السوق السوداء وخلق 5 آلاف منصب عمل    غوارديولا يعلّق بعد الإقصاء أمام ريال مدريد    امين حكومة غرب كردفان يتفقد سير العمل بديوان الزكاة    نوير يبصم على إنجاز أوروبي غير مسبوق    تسلا تطالب المساهمين بالموافقة على صرف 56 مليار دولار لرئيسها التنفيذي    محافظ بنك إنجلترا : المملكة المتحدة تواجه خطر تضخم أقل من الولايات المتحدة    منتخبنا يواصل تدريباته بنجاح..أسامة والشاعر الى الإمارات ..الأولمبي يبدأ تحضيراته بقوة..باشري يتجاوز الأحزان ويعود للتدريبات    بايرن ميونخ يطيح بآرسنال من الأبطال    بالصور.. مباحث عطبرة تداهم منزل أحد أخطر معتادي الإجرام وتلقي عليه القبض بعد مقاومة وتضبط بحوزته مسروقات وكمية كبيرة من مخدر الآيس    العين يهزم الهلال في قمة ركلات الجزاء بدوري أبطال آسيا    مباحث المستهلك تضبط 110 الف كرتونة شاي مخالفة للمواصفات    قرار عاجل من النيابة بشأن حريق مول تجاري بأسوان    العليقي وماادراك ماالعليقي!!؟؟    الرئيس الإيراني: القوات المسلحة جاهزة ومستعدة لأي خطوة للدفاع عن حماية أمن البلاد    بعد سحق برشلونة..مبابي يغرق في السعادة    جبريل إبراهيم: لا توجد مجاعة في السودان    خلال ساعات.. الشرطة المغربية توقع بسارقي مجوهرات    مبارك الفاضل يعلق على تعيين" عدوي" سفيرا في القاهرة    وزير الخارجية السعودي: المنطقة لا تحتمل مزيداً من الصراعات    لمستخدمي فأرة الكمبيوتر لساعات طويلة.. انتبهوا لمتلازمة النفق الرسغي    عام الحرب في السودان: تهدمت المباني وتعززت الهوية الوطنية    مضي عام ياوطن الا يوجد صوت عقل!!!    مصدر بالصحة يكشف سبب وفاة شيرين سيف النصر: امتنعت عن الأكل في آخر أيامها    واشنطن: اطلعنا على تقارير دعم إيران للجيش السوداني    ماذا تعلمت من السنين التي مضت؟    إنهيارالقطاع المصرفي خسائر تقدر ب (150) مليار دولار    أحمد داش: ««محمد رمضان تلقائي وكلامه في المشاهد واقعي»    إصابة 6 في إنقلاب ملاكي على طريق أسوان الصحراوي الغربي    تسابيح!    مفاجآت ترامب لا تنتهي، رحب به نزلاء مطعم فكافأهم بهذه الطريقة – فيديو    راشد عبد الرحيم: دين الأشاوس    مدير شرطة ولاية شمال كردفان يقدم المعايدة لمنسوبي القسم الشمالي بالابيض ويقف علي الانجاز الجنائي الكبير    وصفة آمنة لمرحلة ما بعد الصيام    إيلون ماسك: نتوقع تفوق الذكاء الاصطناعي على أذكى إنسان العام المقبل    الطيب عبد الماجد يكتب: عيد سعيد ..    ما بين أهلا ووداعا رمضان    تداعيات كارثية.. حرب السودان تعيق صادرات نفط دولة الجنوب    بعد نجاحه.. هل يصبح مسلسل "الحشاشين" فيلمًا سينمائيًّا؟    السلطات في السودان تعلن القبض على متهم الكويت    «أطباء بلا حدود» تعلن نفاد اللقاحات من جنوب دارفور    دراسة: القهوة تقلل من عودة سرطان الأمعاء    الجيش السوداني يعلن ضبط شبكة خطيرة    







شكرا على الإبلاغ!
سيتم حجب هذه الصورة تلقائيا عندما يتم الإبلاغ عنها من طرف عدة أشخاص.



نفح الطيب من غصن دارفور الرطيب
نشر في شبكة الشروق يوم 09 - 10 - 2016

سكتت طبول الحرب في قرى وسهول وهضاب ووديان جبل مرة الممتدة كموشح أخضر تتنأثر فيه حبيبات الرمل الصفراء ومرتفعات الجبال السمراء، في مشهد يحكي روعة الطبيعة وقدرة الخلاق.
وارتفعت راية النصر الذي قادته القوات المسلحة في قولو وسرونق، لتفتح القرى أبوابها للعائدين والنازحين.
على ريح هزيمة قاسية تجرعتها فلول المتمردين المتنأثرة في مرتفعات الجبل الحصينة، بعد أن كان ظن قائد المتمردين عبدالواحد محمد نور (أن الجيش الصيني لن يستطيع اختراق حصون قواته في جبل مرة).
هل حان زمان الوصل في جبل مرة؟
قد تأتي الإجابة لاحقاً، فالأسطر السابقة تعكس ملامح الصورة الذهنية عن جبل مرة التي رسخت في الذاكرة منذ زمن يعود إلى أيام كنا طلاباً في المرحلة الثانوية أواخر سبعينيات القرن الماضي.
في ذاك الزمان كانت وزارة التربية تهتم بتشجيع ودعم الطلاب على زيارة أقاليم السودان المختلفة أثناء العطلات الصيفية.
ورتبت الأحوال في مدرستنا على زيارة جبل مرة خلال العطلة الصيفية، لكن إضراب عمال سكك حديد السودان الشهير حال دون تنفيذ الفكرة، وبقي الأمل يراود النفس منذ الحين.
وأحيا هاتف الأستاذ يوسف عبدالمنان في صباح باكر ذلك الأمل، حين نقل إلي مبادرة اتحاد الصحافيين السودانيين، لزيارة جبل مرة بعد تحريره من التمرد في رحلة تمتد لأربعة أيام تبدأ بالجنينة، وتمر بزالنجي وتستقر قليلاً في جبل مرة، ثم تختتم الرحلة في نيالا في طريق العودة للخرطوم.
في الوهلة الأولى لم أتصور أن الحلم يمكن أن يصبح حقيقة، إلا بعد أن أكد لي صاحب الفكرة والمبادرة والتنفيذ نقيب الصحفيين الأستاذ الصادق الرزيقي.
أن الزيارة ستكون الأولى لأول وفد صحافي يزور المناطق المحررة في جبل مرة ل: يحتفى بانتصار القوات المسلحة أولاً. ويقف على أحوال العائدين في القرى، ثانياً.
ثم ينقل صحافة العاصمة خارج العاصمة لكي تعيش حياة الناس تكتب وتسمع وتشاهد ثالثاً.
إذا قدر لك أن ترافق الرزيقي في رحلة لدارفور فلا تتردد، فهو خير دليل يقودك بلهفة عاشق بين: المعالم، الأحياء، الطرق، الأسواق، الخيران، المدارس، والناس الذين بدا لي أن الرزيقي يعرفهم فرداً فرداً.
إن التجوال مع الصادق الرزيقي في دارفور تجربة ممتعة في تلقي المشاعر الصادقة من الصنف الفاخر الصادر من القلب مباشرة، وهي حميمية تزيد من حبك للمكان، رغم أنها قد ترهقك من كثرة السلام وقوة المودة في تبادله.
لقد كانت خيوط دارفور السرية حاضرة في لا وعي الصادق الرزيقي، وهو يصوغ لي فكرة أن نكتب عن رحلتنا لجبل مرة، نكتب على غرار (حكايات من كانتبري).
قلت له: إن أولئك بقيادة شبيلنغ كانوا لوردات على قمة الحياة البريطانية، فيما نحن صحافيون في غالب الأحيان نكتب (كلام خارم بارم).
رد ساخراً: بأي حال لن نصبح لوردات، فقط نريد أن نستفيد من نهجهم في الكتابة.
قلت: سقتك ديمة الود غيث الرحمة والعرفان يا الرزيقي فلماذا لا نجتهد في جمع ما يكتبه الزملاء من تحقيقات متقنة في كتاب نسميه (نفح الطيب من غصن دارفور الرطيب).
الوضع الراهن
الفكرة طيبة جداً وتستحق المغامرة، على الرغم من أن تعقيدات الوضع الراهن المتزايد في دارفور، فإن حلقاته باتت تفكك يوماً بعد آخر."
الزائر لمدن وقرى دارفور قد يتملكه الشك من أن هذه البقاع النضرة ذات الرمال الناعمة والأشجار الخضراء قد شهدت أوعاشت شيئاً من أهوال الحرب في دارفور أو تداعياتها التي سارت بذكرها الركبان
"
خاصة أننا إذا فسرنا التاريخ بالمنحنى الصاعد حتى الذروة أو تابعناه بالمنحنى الهابط إلى السفح.
فلا يسعنا إلا أن نرصد ظاهرة واضحة للكل تتمثل في أن النتائج الإنسانية وتداعياتها المستمرة من الأهوال التي عاشتها دارفور تمثل تجربة كابوسية كاملة يتعين عليها أن تتوقف.
ومن المفارقات أن الزائر لمدن وقرى دارفور قد يتملكه الشك من أن هذه البقاع النضرة ذات الرمال الناعمة والأشجار الخضراء قد شهدت أوعاشت شيئاً من أهوال الحرب في دارفور أو تداعياتها التي سارت بذكرها الركبان.
ويطرح هذا الشك بدوره سؤالاً، فحواه إلى أي مدى نحتاج إلى أن نتعامل مع قضايانا بمسؤولية؟ ويعيد السؤال نفسه في سؤال آخر، هل نحن بحاجة إلى أن نعيد النظر في مستوى وعينا؟
والإجابة عن هذين السؤالين تطرح سؤالاً ثالثاً: كيف نتعامل مع ممارسات جماعية أو فردية نعرف أنها ممارسات خاطئة؟
مناسبة هذه الأسئلة إفادات صريحة تسمعها بوضوح من مسؤولين دستوريين، أمنيين، تنفيذيين، ومواطنين تفيد أن الظروف الحادثة فى المسار الإعلامي المتعلق بتغطية أحداث دارفور، تتطلب إيجاد مقاربة جديدة تضمن لهذا الإعلام الانخراط الهادئ والسلس في مسار الأحداث مع الحفاظ على سمة الالتزام والتقيد بمتطلبات المسؤولية.
وحتى لا نلقي الأسئلة على عواهنها، يتعين علينا أن ندرك أن طبيعة المكان في دارفور لا تسمح بإعادة قراءة الأحداث التي ظلت مثل شبكة كلمات متقاطعة ناقصة الأحرف تصعب قراءتها إلا باجتهاد شديد.
صحيح أن التاريخ السياسي ينشئ الدول، لكنه لا يصنع الشعوب.
ولذا خُدع الكثيرون بالكينونة السياسية التي اكتسبتها دارفور فاعتبروها وفقاً لهذا، كائناً ذا خصائص حضارية متسقة له شخصية قومية وإقليمية.
وقادت العوامل السياسية الوطنية منها إبان الاستعمار والعنصرية والإقليمية منها في عهود ما بعد الاستقلال، إلى الفوارق المحلية وتضخيم الأثر التاريخي للاستقلال السياسي لدارفور.
بغرض تشكيل قومية أرادها الوطنيون مرتبطة بالتراب السوداني على اختلاف ألوانه.
وأرادها العنصريون الإقليميون مشدودة للوطن الأصغر حسب ما عرضه التاريخ، ولكن لا هؤلاء ولا أولئك أصابوا كبد الحقيقة رغم صدق المشاعر عند الجميع.
عصفور صغير
تقلع بك الطائرة من مطار الخرطوم في رحلة تستغرق نحو ساعة ونصف الساعة حتى تهبط في مطار الشهيد صبيرة بالجنينة.
والجنينة حاضرة ولاية غرب دارفور هي المدينة الحديقة، وجاء اسمها من تصغير جنة.
وتقع الجنينة على تل يرتفع 800 متر عن سطح البحر، وتبعد عن الخرطوم بنحو 1200 كلم، وتفصلها 27 كلم عن حدود السودان مع تشاد.
الجنينة مدينة تغري بالتأمل وكتابة الشعر، لكن ذلك العصفور الصغير الذي نقر على نافذتي في الصالون الواسع الأنيق الملحق بمقر إقامة الأستاذ فضل المولى الهجا فضل المولى، والي ولاية غرب دارفور.
نبهني إلى أن ذلك الفتى القادم من ربى سنار إلى هضاب غرب دارفور، يقرر أن سياسة حكومته هي حفظ الأمن والاستقرار، وبسط العدالة والعمل على تنمية وتطوير الولاية، انطلاقاً من الاهتمام بالتعليم والتنمية البشرية واستغلال موارد الولاية، وتسخيرها لخدمة المجتمع في توفير الخدمات والرياضة، والاهتمام بالعلاقات المتميزة مع الجارة تشاد.
ويحمل الهجا خريج دار العلوم في مصر، في ذهنه أولويات مختلفة، تصب جميعها، رغم شح الإمكانات في بذل المزيد من الجهد من أجل الارتقاء بالخدمات بالولاية.
وتعتمد خطة حكومة الوالي المكتوبة بلغة (درعمية) رشيقة على الحرب على الظلم والقبلية والتكتلات التي تعيق التقدم، وفرض هيبة الدولة ومحاربة الفساد والظواهر الإجرامية، وبسط العدالة وسيادة حكم القانون.
وتحرص خطة الولاية أيضاً على العمل بالشورى، واتباع المنهج الديني القويم، واتخاذ الشورى منهجاً في إدارة شأن الولاية، والعمل بالتنسيق التام مع مكونات المجتمع كافة، خاصة الأجهزة الرسمية.
وتبرز الاهتمام الخاص بحاضرة الولاية الجنينة، وجعلها من أجمل مدن البلاد.
منطقة حرة
هناك المزيد من الفرص لتحسين الأوضاع الاقتصادية في ولاية غرب دارفور من خلال استثمار المقومات الطبيعية التي تزخر بها الولاية من إنتاج زراعي بشقيه النباتي والحيواني تدعمه ثروة حيوانية كبيرة تشمل الأبقار والضأن والماعز والجمال والحمير تسهم بنحو 11% من الدخل القومي."
مقومات طبيعية كبيرة تزخر بها ولاية غرب دارفور من إنتاج زراعي بشقيه النباتي والحيواني تدعمه ثروة حيوانية كبيرة تشمل الأبقار والضأن والماعز والجمال والحمير تسهم بنحو 11% من الدخل القومي
"
منذ قديم الأزل تدفقت حركة التجارة وتبادل السلع والمنافع وسارت القوافل عبر دارفور متنقلة من أواسط آسيا مروراً بالجزيرة العربية متوغلة في أفريقيا حتى ساحل المحيط الأطلسي.
في خطوة تؤشر لزيادة حركة التبادل التجاري والسلع والبضائع بين السودان وغرب أفريقيا، لاحظ الدكتور ياسر أحمد محمد نور مدير الأمن في ولاية غرب دارفور أن حركة التجارة البينية بين السودان وغرب أفريقيا عبر الجنينة التي تفصلها 27 كلم عن حدود السودان مع تشاد.
لاحظ أن قائمة السلع المصدرة أوالمهربة من البلاد تشمل عدة سلع حيوية شملت (الباسطة) من أمدرمان، في حين أن قائمة السلع المستوردة إلى البلاد تحتوي على الخمور الرديئة والعطور الرخيصة والمخدرات وحبوب الهلوسة، بينها حبة تجعل من يبلعها في حالة بكاء دائم. ولذا أطلق عليها الاسم الشعبي (الدقا منو).
لكي يتمكن الاقتصاد الدارفوري من النمو، لا بد من إقامة منطقة حرة في الجنينة، تكتسب عبرها التبادلات التجارية بين الإقليم وغرب أفريقيا برمتها الشرعية المطلوبة، ولعل ذلك يفتح أمام الاقتصاد الوطني أبواب الأسواق الخارجية.
وستتيح هذه المنطقة الحرة مساحة مهمة للمنتجات الوطنية في أن تتحرك بين الجنينة والأسواق الأفريقية المجاورة.
وإلى حين قيام المنطقة الحرة، فإن السلطة الولائية في غرب دارفور تحتاج إلى تخويل يتيح لها تطبيق نظام التصدير المتبادل بين المنطقتين مثل الموجود في معظم الدول الأوروبية، حيث يتم تنزيل البضائع قبل رحيلها ليتم الكشف على محتوياتها، ثم بعد ذلك يتم تحميلها مرة أخرى لتكمل مسارها.
إن حركة السلع الوطنية المتنقلة العابرة من منطقة الجنينة إلى غرب أفريقيا، التي تأتي من أمدرمان تتمثل في الزيوت والصابون والحلويات ومنتجات الألبان، و(باسطة الطيب سيد مكي).
ونظراً لضيق السوق المحلية وضعف حركة التصدير، فقد تجاوزت هذه السلع الحدود الوطنية، وأصبحت بدلاً من أن تصدر، تهرب إلى الأسواق الخارجية وخصوصاً إلى دول غرب أفريقيا.
يضاف إلى كل هذا، وهذه ملاحظة شخصية مصدرها زيارات ميدانية لتلك الأنحاء، أن حركة هذه البضائع أصبحت تأتي أيضاً من مدن بعيدة جداً مثل بانكوك وهونج كونج.
حيث تحمل لوحات حاويات تلك البضائع عبارة (المحطة النهائية (الجنينة)، لأنها تشحن بالبحر من تلك الأنحاء حتى ميناء بورتسودان، ومنها براً إلى الجنينة، لتنطلق بعدها إلى مدن مختلفة في غرب أفريقيا.
ولعل قيام المنطقة الحرة في الجنينة، يسهم في تقنين هذه التجارة، وينعش الحركة الاقتصادية، وفوق كل ذلك يرسي دعائم الاستقرار والأمن.
والشاهد أن منطقة الجنينة الحرة ستكون بوابتنا التجارية إلى غرب أفريقيا، وفي ذهن الدكتور ياسر أحمد مدير الأمن في ولاية غرب دارفور أفكاراً طيبة فحواها أن الاهتمام بتوفير نموذج التصنيع الموجه نحو الخارج، سيدفع الصناعة الوطنية إلى تحقيق فائدتين:
أولاً إلى زيادة مقدرتها التنافسية في السوق العالمية والاستفادة من وفورات الحجم الكبير في تحسين الكفاءة الاقتصادية للصناعات التصديرية.
ثانياً تحسين التوازن الخارجي بالحصول على موارد جديدة من العملة الصعبة تستخدم حصيلتها في تمويل الواردات.
قصر السلطان بحر الدين
لا تكتمل زيارة مدينة الجنينة، إلا بزيارة قصر السلطان بحر الدين المقام على ربوة عالية تحيط بها غابة من الأشجار تلف مباني القصر بالخضرة من كل الجوانب.
القصر الآن في طريقه إلى يصبح متحفاً يكمل مقومات السياحة في الجنينة المدينة التي تزخر بكافة المقومات السياحية.
ذلك مبنى القصر، أما المعنى فقد ذكره الشيخ محمد المبارك عبد الله في كتابه (ذكريات ومذكرات)، عن زيارة له إلى الجنينة في خمسينيات القرن الماضي.
يقول الشيخ في مذكراته (ولن أنس مائدة السلطان بحر الدين وما كانت تزخر به من الخرفان والحملان، ولا منظر بعض الضيوف وهو يخلع ذراع الخروف أو وركه من جسده، ويمسك طرفاً منها بيمينه والآخر بشماله، ويأخذ ينهش و(يكدها) حتى يعرقها).
(ولا ما غمرني به السلطان والأخوان من آل التني وآل الشفيع وآل شمو من الهدايا والتحف التي اشتهر بها غرب السودان حتى ذكروني بقول العربي القائل:
ونكرم جارنا مادام فينا ونتبعه الكرامة حيث مالا).
ستائر الغموض
عندما تصل إلى حاضرة ولاية وسط دارفور بعد ساعتين وبضع دقائق، قادماً من الجنينة عبر طريق معبّد كالحرير، لا تأسرك مدينة زالنجي بسحرها وجمالها، إذ للموقع سحر آخر.
فحين تشاهد مقرن الواديين أزوم وأريبو، ستتذكر شاعرنا الفحل عالم عباس حين وقف على وادي أزوم قبل زهاء نصف قرن من الزمان وترى بأم عينيك (شاطئاً رسا عليه زورق الغيوم).
وسترحل مع عالم عباس في شاعريته الفذة مردداً في النفس وصفه:
عليك من ستائر الغموض يرتمي وشاح
وفيك عند منحناك ذلك المحفوف بالأسرار
عند همسة الرياح كأنما الصباح
شروقه أزوم نهاره أزوم غروبه أزوم
أواه ها أنا أعود مثلما بدأت
مكبلاً بالصمت والرهبة والوجوم
ماذا ترى أقول يا أزوم؟
عبقرية المكان
ماذا ترى أقول عن وسط دارفور الولاية التي تبتسم في وجوه الزائرين؟."
أشهر الظواهر الطبيعية في ولاية وسط دارفور أن المناطق الوسطى من جبل مرة تعتبر من أخصب المناطق بالسودان، ويسود فيها الغطاء النباتي الكثيف والغابات الغنية بأشجار السرو والقمبيل والمهوقني
"
لست مبالغاً حين أقول إن هذه الولاية تتميز بالأراضي الرملية في شمالها، فيما تنتشر الأراضي الطينية والجبلية في الأجزاء الجنوبية والشرقية والوسطى منها.
أما الشكل العام لجغرافية الولاية فتشكلها مجموعة من الجبال والتلال الرملية والأراضي الزراعية.
وتنتشر فيها الوديان مثال وادي كجا، وزوم وباري وتلولو. وتدخل في نطاق السافانا الغنية التي تتميز بغطائها النباتي الجيد للرعي.
ومن أشهر الظواهر الطبيعية أن المناطق الوسطى من جبل مرة تعتبر من أخصب المناطق بالسودان، ويسود فيها الغطاء النباتي الكثيف والغابات الغنية بأشجار السرو والقمبيل والمهوقني.
ما تزال منطقة جبل مرة حاضرة في أذهان أهل السودان بتاريخها وجمالها، وما فتئت حدائقها الغناء تترآى أمام أعيننا بما كانت تمثله للبلاد من أنواع النباتات التي ينفرد بها السودان دولياً.
إضافة إلى مجموعات كبيرة من الحيوانات النادرة والأليفة التي تعيش في مناخ معتدل وبيئة نقية، وتلك هي عبقرية المكان.
وحسب الجغرافيا، فإن جبل مرة مجموعة من قمم بركانية أوجدها المسيف، ويرتفع إلى ثلاثة آلاف متر فوق سطح البحر.
ويمتد مئات الكيلو مترات من مدينة كاس جنوباً إلى ضواحي الفاشر شمالاً. وتبلغ مساحته 12.8 ألف كلم.
ويعد أعلى قمة في السودان، حيث يبلغ أقصى ارتفاع له 10 آلاف قدم فوق مستوى سطح البحر.
ويتكون من سلسلة من المرتفعات بطول 240 كلم وعرض 80 كلم، تتخللها الشلالات والبحيرات البركانية.
يتمتع جبل مرة بطقس معتدل يغلب عليه طابع مناخ البحر الأبيض المتوسط، حيث تهطل الأمطار في كل فصول السنة تقريباً.
مما يتيح الفرصة لنمو الكثير من الأشجار مثل الموالح والتفاح والأشجار الغابية المتشابكة كما أن هذه الأمطار الغزيرة توفر الري المستمر للأراضي الزراعية ما يجعل تربتها صالحة لزراعة الذرة والدخن.
عبقرية الزمان
أعطني رجالاً تشامخ الجبال، أعطني رجالاً يشدّون انسدال السهول، رجالاً تضيء أغراضُهم عقولهم، رجالاً في عهد جديد لعهود جديدة وسأديرُ العالم.
تذكرت هذه المقاطع الشعرية المترجمة بتصرف عن الشاعر الأمازيغي فوس، حين اقتربت من الشرتاي جعفر عبدالحكم إسحق، والي غرب دارفور.
فهو رجل وقور وهادئ مرتبط بتراث الفور الذين نصبوه في مقام (الشرتاي)، بعد أن حفظ القرآن الكريم، ومر بعدة تجارب واختبارات، أثبت خلالها قدرة ومعرفة في إدارة شؤون القبيلة، أهلته لمقام (الشرتاي)، بعد أن قاد القبيلة فى سن صغيرة عن دراية وحكمة، وكان سكرتيراً لوفد القبيلة في وفود الصلح منذ ثمانينيات القرن الماضي.
بالمناسبة تراث الفور يحتوي على معايير صارمة جداً في اختيار الشرتاي، إذ لا يمنح اللقب إلا لمن يستحقه، ولا مجال للمحاباة البتة.
وإضافة إلى هذا، فالشرتاي جعفر رجل له مكانة إقليمياً وقومياً ودولياً، وهي صفات أهلته أن يتصدى للعمل العام منذ بدأ حياته العملية معلماً في العام 1979، إلى أن أصبح الآن سياسياً يشار إليه بالبنان.
وعلى المستوى الشخصي يبدو الشرتاي جعفر رجلاً مقبولاً لدى الجميع، لا يعرف التشرذم والانكفاء على الذات منفتح على كل القبائل.
كما عرف بالجهاد والمجاهدة، ليعيش من حوله وتحت مسؤوليته في سلام ووئام، وهنا تبدو رمزية عبقرية الزمان.
شفنا جبل مرة
بعد أن سكتت طبول الحرب في قرى وسهول وهضاب ووديان وسط جبل مرة، وارتفعت راية النصر الذي قادته القوات المسلحة في قولو وسرونق، لتفتح القرى أبوابها للعائدين والنازحين، جاءت فكرة زيارة وفد اتحاد الصحفيين لجبل مرة.
"
سكتت طبول الحرب في قرى وسهول وهضاب ووديان وسط جبل مرة، وارتفعت راية النصر الذي قادته القوات المسلحة في قولو وسرونق، لتفتح القرى أبوابها للعائدين والنازحين
"
والسفر إلى جبل مرة من مدينة زالنجي متعة مشبوبة بالمشقة، فأنت تسير في بقايا طريق زالنجي كأس نيالا الذي شيده حاكم دارفور الأسبق السياسي الشهير إبراهيم دريج، في عهد الرئيس الراحل جعفر محمد نميري.
ذهب حكم نميري وتوفاه الله، وبلغ دريج من العمر عتيا، وما زال الطريق يندب حظه وآماله في انتظار الإصلاح والصيانة.
انطلق بنا سائق السيارة يشق طريق الجبل الصاعد شقاً مذهلاً معتمداً على ربه أولاً وعلى نفسه ثانياً، وظل سائقنا الماهر جداً هيثم يصعد بنا إلى أعلى.
ذلك أن الطريق الملتوي يصعد بك تارة في درب مليء بالحجارة مختلفة الألوان والأحجام والأشكال.
ثم ينحدر بك في سهل رملي يجعل السيارة تسير في بطء قاتل، كأنها تعلن ضجرها من وعورة الطريق، ثم يرتفع الطريق مرة ثالثة (زي البرق شايل المطر في سمانا لاح).
ومع صعوبة الطريق ومشقة السير فيه، فإن للرحلة متعة كبرى، لأنك تسير وسط جبال متعددة مترامية الأطراف تتخللها الشلالات والبحيرات البركانية وجداول الماء العذب الجارية على حبات الحصى متساوية الأحجام نظيفة تلمع كأنها أحجار كريمة بين مجموعة من الأشجار النادرة، والتي تكون عادة أكبر حجماً من مثيلاتها في أي مكان نسبة للخصوبة العالية.
وأروع ما تراه عيناك عندما تكون في القمة، وتنظر إلى أسفل فترى السحاب يحوم فوق قمة أو سهل أسفل منك.
الطريق الذي سرنا فيه من نيرتتي إلى قولو وسورنق طريق ترابي لا يتعدى طوله 67 كلم، لكن وعورة هذا الطريق تجعل سيارة الدفع الرباعي القوية تقطعه في ست ساعات.
فهل نعجز نحن جميعاً أهل السودان عن رصف هذا الطريق، وفي تعبيده لنا جميعاً منافع بالجملة.
المسافة الفاصلة
في المسافة الذهنية الفاصلة بين عبقريتي المكان والزمان، نحاول أن نسرد خواطر الرحلة إلى جبل مرة متنقلين من عبقرية المكان التي تقتضي التأمل بطريقة شاعرية رومانسية، إلى عبقرية الزمان التي تستلزم التعامل بمرونة وواقعية الشرتاي جعفر عبد الحكم.
وضربة البداية في هذه الواقعية، نقدمها دعوة مفتوحة لخبراء وعلماء الإدارة والحكم المحلي، ومن لف لفهم، وكذلك ما يسمى بالتخطيط الاستراتيجي، لدراسة تجربة انتقال حكومة ولاية وسط دارفور من زالنجي إلى عاصمة محلية وسط دارفور قولو.
وأصل التجربة أن الشرتاي جعفر صعد بحكومته إلى قولو بعد استعادتها من قبضة التمرد.
ورغم أنها خطوة محفوفة بالمخاطر، فإن الحكومة مكثت فيها أسبوعين، باشرت خلالها الإشراف على عمليات العودة الطوعية والوقوف على حجم الخسائر وحصرها والعمل على معالجة الآثار كافة التي خلّفتها الحرب.
ونفذت الحكومة الخطة باتقان كامل أعاد نحو 70 ألف أسرة إلى المنطقة.
وعودة إلى عبقرية المكان، فإن وفد اتحاد الصحفيين حين وصل إلى قولو، وجد مدينة ترقد على أنقاض الحرب، حيث اُتلفت المؤسسات الخدمية، وتعرضت السوق للنهب، ولحق الدمار بمنازل المواطنين التي أصبحت أطلالاً لا تلوح كباقي الوشم في باطن اليد.
وحدث كل هذا في مدينة تلفها الجبال من أنحائها كافة، وتغطيها أنواع مختلفة من الأشجار الدائمة الخضرة.
وقد تأخذك عبقرية المكان في سرونق إلى أشعار لوركا التي تقول
الفجر يلمع فوق أشجار البرتقال
ونحل من ذهب يبحث عن العسل
ترى أين يكون العسل؟
إنه في الزهرة الزرقاء فى إكليل الجبل
لكن واقعية الشرتاي جعفر تخرج بنا من رومانسية لوركا وتعيدنا إلى تأكيد رغبة المكونات السياسية بولايته في تحقيق السلام والاستقرار في ربوع الولاية، ودعمهم لعمليات العودة الطوعية للمواطنين لقراهم في محيط جبل مرة، مثمناً دور القوات المسلحة والقوات النظامية الأخرى في تنظيف جبل مرة من التمرد.
متطلبات الاستقرار
حتى لا يصبح جبل مرة حسناء دارفور الضائعة، فإن للشرتاي جعفر عبد الحكم والي وسط دارفور، التزام واضح في الفكرة والتنفيذ، بإكمال كافة متطلبات الاستقرار بمناطق جبل مرة خلال الفترة القادمة حتى تتكامل كل عناصر الاستقرار بالمنطقة، بعد أن أصبحت جميع مناطق الجبل آمنة وتغيرت مظاهر الحرب إلى السلام.
ودعم التزامه خلال لقاء جماهيري بمنطقة قولو رئاسة محلية وسط جبل مرة بمناسبة زيارة وفد اتحاد الصحفيين السودانيين للمنطقة، بتأكيد أن رئاسة الجمهورية مهتمة بإعمار مناطق جبل مرة من خلال المتابعة والدعم.
وجدّد عزمه الأكيد على تعبيد الطريق الاستراتيجي الذي وجهت مؤسسة الرئاسة بتشييده، ليربط مناطق غرب جبل مرة بشرقه، لأن هذا الطريق سيسرع من حركة التنمية، وسيدعم اقتصاد المواطنين من خلال نقل منتجاتهم إلى أسواق السودان كافة.
وخلص إلى أن زيارة وفد الصحفيين إلى مناطق الجبل تهدف لدعم الاستقرار والوقوف على قضايا المواطنين عن قرب، مبدياً سعادته وتجاوبه مع التفاعل الكبير الذي أبدته قطاعات الشعب السوداني مع قضية الاستقرار والتنمية في جبل مرة.
وقائمة متطلبات الاستقرار في جبل مرة، في القطاع الذي يتبع لولاية وسط دارفور تبدو واضحة جداً ومرتبة جيداً في ذهن الوالي الشرتاي جعفر عبد الحكم.
ففي الجانب المتعلق بتحويل المعسكرات إلى مجمعات سكنية، فإن خطة تحويل معسكرات النزوح إلى مجمعات سكنية ستنفذ بشكل تدريجي حتى إعلان ولاية وسط دارفور خالية من معسكرات النازحين.
ويتزامن تأكيد الشرتاي جعفر أن الحياة تسير بصورة طبيعية الآن، مع توفير احتياجات 25 ألف أسرة عادت لمناطقها بوسط دارفور.
وشملت الاحتياجات مواد إيواء وغذاء ومعينات زراعية لتحفيزهم على الاستقرار.
وفي إطار توجيهات رئيس الجمهورية بتأمين وتوطين عودة النازحين، أعلنت الولاية عن تخطيط خمسة آلاف قطعة أرض بمناطق العودة الطوعية، منها ألفا قطعة بزالنجي كمرحلة أولى.
وبحثت مع قيادات النازحين التخطيط للنازحين داخل المدينة. وستكون هناك خطة سكنية داخل المدينة للنازحين والمواطنين سوياً، ولكن ستكون للنازح امتيازات، والهدف من وجود نازحين ومواطنين هو أن تكون المدينة حديثة.
جهود التنمية
وفي سياق جهود التنمية المكملة لمتطلبات الاستقرار، طرحت الولاية أيلولة مشروع جبل مرة الزراعي للمركز، ووافق السيد رئيس الجمهورية على أن يتبع المشروع لوزارة الزراعة الاتحادية.
وبالفعل شرعت الولاية في تسليم المشاتل لوزارة الزراعة الاتحادية، وهناك شراكة مع شركة "زادنا" لتوفير مليون شتلة.
وفي صعيد متصل ستستفيد الولاية من مواعين مشروع جبل مرة.
أما مطار زالنجي، فستهبط فيه وتقلع منه الطائرات خلال ستة أشهر من الآن، ومساحة المطار 32 ألف متر، وهو أطول مطار على مستوى السودان وصمم لهبوط أنواع الطائرات كافة على مدرجه من طائرات شحن وركاب وهو مطار سيكون للصادر.
تحظى مدينة زالنجي حالياً بخدمات الكهرباء لمدة 18 ساعة في اليوم، بسبب عوامل فنية.
وفي خطة الولاية أن الحل الجذري يتمثل في توصيل الكهرباء من الخط القادم من الفولة.
وتعمل الولاية على توفير الطاقة الشمسية للريف، خاصة بعد النجاح في إضاءة شوارع زالنجي بالطاقة الشمسية. ويزف الشرتاي جعفر لأهل زالنجي نبأ أنهم سيصومون رمضان المقبل والكهرباء على مدار اليوم.
غيث الرحمة
سقت ديمة الود غيث الرحمة والعرفان دارفور، فقد أتيحت لنا في ربوعها جولة في بقاع تنأثرت على بساطها الأخضر أنواع الورود والزهور بألوانها البيضاء، الزرقاء، والحمراء في منظر يرهف الذوق ويسافر بالأحلام.
لكن واقعية الشرتاي جعفر عبدالحكم تخرجني من رومانسيتي، بتأكيد شخصي فحواه أن قضية الحركات المسلحة في دارفور بلغت نهايتها، لأن الفكرة لم تعد مستساغة للمواطن، لأنه كره الحرب التي طال أمدها.
روائح البرتقال
بدأت الرحلة إلى نيالا من نيرتتي عند الغروب، بعد أن صلينا المغرب والعشاء جمعاً وقصراً.
لن تسمح وعورة طريق زالنجي كأس نيالا بالاستمتاع بالمسافة عبر الأجزاء الجنوبية من جبل مرة.
ولن تسمح سخونة أول المساء لهواء الليل الدارفوري البارد بالتسلل طوال الرحلة.
ولن تتيح العتمة أن تسمع ألقاً من النظرات اللامعة أو ترى شيئاً من روائح البرتقال.
يتيح بقية ضوء الشمس الشارب من لون الشفق عند المغارب النظر في البقاع التي يمر بها الطريق، لكن المشهد يحتاج إلى شعرٌ أندلسي رقيق أنيق، مُخَضَّل بالورد مخلَّط برائحة المسك مُخَضبٌ بالألوان.
وريثما يخلع اليوم ثوبه الأبيض، تزدحم أنحاء الطريق بمشاهد تبعث النشاط، وتجدِّد الأشواق للأحباب، وتفتح الأبواب للخيال، وتنهال بأجمل صور الجمال، لكن الرنين المستمر لهاتفي رفيقي الرحلة يوسف عبد المنان ومحمد الفاتح، يفسد الاستمتاع بما تبقى من زمان الوصل في جبل مرة أو نفح الطيب من غصن دارفور الرطيب.
لقد كانت كل هذه الخيوط السرية حاضرة في لا وعي يوسف عبد المنان، وهو يصوغ ذلك الشطر البسيط عن كل التفاصيل المملة في مفاوضات أديس أبابا الأخيرة.
فحوار دارفور عنده مونولوج وليس ديالوج، وحديث للذات أكثر منه للآخر، ولو شفت مرة جبل مرة، يعاودك حنين طول السنين.
ولن يلومك أحد إذا مزقت ثيابك ورميت نفسك في أقرب شجرة تجعل الغصن يثمر والقد يميل والوجدان يسيل روحاً وريحاناً وشذى.
الأسواق والناس
كانت مدينة نيالا حاضرة ولاية جنوب دارفور على موعد مع المطر حين دخلناها ليلاً، فسماؤها ملبدة بالغيوم ويشوبها هدوء جميل وحركة الناس والأسواق تضج بالحركة ومشتعلة بزبائنها من الرجال والنساء.
ويعني أن أهالي نيالا تجاوزوا المعاناة القاسية، خلال أيام حظر التجوال التي فرضتها التفلتات الأمنية.
وهنا تكمن المفارقة الأولى، لأن زائر المدينة الذي يدخلها بعد العاشرة ليلاً قد يتملكه الشك من أن هذه المدينة ذات الرمال الناعمة والأشجار الضخمة الخضراء قد شهدت أو عاشت شيئاً من أهوال دارفور أو تداعياتها التي سارت بذكرها الركبان.
ونيالا (بكسر النون) لفظ بلغة قبيلة الداجو يعني في رواية أرض المقيل، وفي رواية ثانية مكان الأنس.
وسواء أن صحت الرواية الأولى أو الثانية، فإن موقع المدينة كان مسرحاً على الهواء الطلق لألعاب موسمية كبيرة في إطار النشاط الفولكلوري الذي تشتهر به المنطقة منذ وقت طويل.
ويحلو لسكان المدينة أن يطلقوا عليها اسم نيالا البحير.
برزت نيالا في القرن الخامس عشر كمقر لحكم مملكة الداجو، لكن يرجع تاريخها كمدينة إلى عام 1929 م، عندما اختيرت إبان الحكم الثنائي لتكون مركزاً إدارياً لمجلس ريفي غرب البقارة.
ووفقاً لبعض الروايات فإن قائد القوات البريطانية آنذاك التقى بالسلطان سليمان آدم ليستشيره حول أفضل الأماكن في دارفور من حيث توافر مصادر المياه وتضاريس الأرض لإقامة مقر الإدارة البريطانية في دارفور.
فأشار إليه السلطان بنيالا كمكان تتوافر فيه تلك المقومات، وعمل الإنجليز بتلك النصيحة فأصبحت نيالا عاصمة إقليمية.
الخبر الأكيد
نعلم أن المهندس آدم الفكي تعود جذوره إلى النهود ونشأ في الأبيض، ولم ير دارفور طوال حياته، إلا بعد أن عُين والياً لولاية جنوب دارفور.
لكن هذه المفارقة، وهي الثانية في هذا السياق، قد ساعدته في ترتيب هذه الولاية الزاخرة بإمكانيات اقتصادية ومقومات بشرية كانت في حاجة إلى إعادة ترتيب وإدارة.
وحين ضمنا مجلس الوالي في صباح مشرق تتخلله حبيبات من زخات المطر التي تهطل بنعومة ورقة في نيالا، طلبت من الوالي المتخصص في الجيولوجيا أن يغوص بنا في طبقات المشاكل في ولايته.
أجاب الوالي بابتسامة من نسي تخصصه، أن محصلة إجراءات بسط هيبة الدولة مكنت حتى الآن من إلقاء القبض على 80% من المتفلتين، ورفع حظر التجوال حتى الثانية عشرة مساءً.
وكان الخبر الأكيد عنده أن الولاية باتت تمتلك قوة نظامية ضاربة تستطيع الوصول إلى موقع الأحداث في زمن قياسي، ولم يعد الوصول إلى الجاني داخل نيالا يستغرق أكثر من ساعتين.
وسارت إجراءات بسط هيبة الدولة في طريق آخر تمخض عن عدة قرارات يعددها المهندس آدم الفكي في النقاط التالية:
* إيقاف دفع الحكومة للدية في النزاعات القبلية، لأنها كانت من أسباب إثارة المشاكل.
* عدم تحمل الحكومة تكاليف مؤتمرات الصلح وأن تقع مسؤولية هذا الأمر على القبائل المتصارعة خاصة المخطئة، وأسهم هذا القرار في خفض معدلات الاحتكاكات القبلية.
* الرفض التام لوفود القبائل المطالبة بتعيين أبنائها في المناصب الدستورية، وذلك أن الحكومة مكونة من المؤتمر الوطني والأحزاب التي شاركت في الانتخابات وأنها تنفذ برنامج رئيس الجمهورية، وأن الأحزاب هي التي تعين وليس القبائل.
وحصاد القول عند الوالي في خبره الأكيد أن غياب هيبة الدولة خلال المرحلة الماضية يعود بشكل مباشر إلى أن الديات كان لها أثر كبير على القوات التي تعمل ضد المتفلتين.
لأنها إذا تعاملت مع متفلت واشتبك معها وأردته قتيلاً يأتي المحامون ويرفعون قضية ليتم إيقاف العسكري، ثم المطالبة بالدية التي تصل إلى اثنين مليار جنيه، وهذا الأمر جعل القوات تمارس مهامها بحرية.
أما الأمر الثاني فقد كان منع القبائل من التدخل في عمل الحكومة.
وهنا يستند المهندس الفكي إلى تجربته الشخصية في تعيين 21 معتمداً لا يعرف قبائلهم ولم يسأل عنها ولن يفعل. ويختم (ماعندي بيهم شغلة).
وينتهي إلى أنه يرغب في قيادة المجتمع إلى تجاوز القبلية لرتق النسيج الاجتماعي وهذا لا يتم عبر المصالحات بين القبائل وحدها.
بل عبر برنامج عام يشارك فيه الجميع بما فيها الأحزاب ومنظمات المجتمع المدني في ورش ومؤتمرات وعمل علمي ممنهج للوصول إلى وثيقة يوقع عليها الجميع.
معسكرات النازحين
الزائر لمدينة نيالا بعد غيبة خمس سنوات مثلي، يلفت نظره أن روحاً جديدة باتت تسري في جسد المسائل المتعلقة بالنزوح والنازحين والمعسكرات، وقد تسفر هذه الروح عن صورة فنانة.
تأتي هذه المسائل في ذهن المهندس آدم الفكي من جهة أن تطبيق محور انتقال الولاية من الحرب إلى السلام تحيط به الكثير من التحديات منها أن البعض لا تزال أشواقه تتعلق بعودة حركات التمرد لتحتل المدن.
ويرى أن هؤلاء يعتقدون أن عدم الاستقرار الأمني يقود إلى تجدد الحرب، إضافة إلى أن هناك تجار حرب يرجون استمرارها، وكذلك القوات الكثيرة التي كانت تقاتل جزء منهم لا يريدون الاستقرار، وربما المجتمع الدولي.
ويبدو الوالي منتبهاً إلى أن هناك مجموعة من المطبات تواجه عملية السلام، لكن سلاحه للنجاح هو مواطن الولاية الذي تجاوز حاجز الخوف من المتفلتين.
أما معسكرات النازحين، فإن الولاية ترغب في أن تضع خطط حل لهذه المعسكرات.
وعملياً جلست الولاية مع قادة معسكرات النزوح، وعرضت عليهم خيارين، يتمثل الأول في تلبية رغبة من يريد البقاء في نيالا، وذلك بتمليكه أرضاً في الأحياء حتى لو استدعى الأمر أن نخطط أحياءً جديدة.
وهنا يستدل الوالي بتجربة أمبدة في غرب أمدرمان التي كانت معسكراً، وتحولت إلى أكبر أحياء العاصمة.
ويتمثل الخيار الثاني في العودة الطوعية، مع التزام الولاية بتوفير الخدمات والمعينات المطلوبة في مناطقه الأصلية.
ويشغل أمر النازحين بال الوالي، ويفرد له مساحة مقدرة، لأن لهم حقوقاً، خاصة عندما نعلم أن المعسكرات في جنوب دارفور يقطن فيها 485 ألف نسمة ما يوازي سكان الولاية الشمالية تقريباً.
والشاهد عند الوالي أن جيلاً جديداً من داخل المعسكرات، هو من بدأ يفكر في الحل.
كانت هنالك جفوة كاملة بين النازحين وبين الحكومة.
وقد تمكنت حكومة الولاية عبر الحوار والتواصل من خلق رابط لتبديد هذه الجفوة.
مظاهر الحياة
يعترف المهندس آدم الفكي والي جنوب دارفور، أن الأوضاع الخدمية بالولاية دون المستوى المطلوب.
وعندما بدأ في إجراء دراسات تشخص الواقع بالولاية، ظهرت مشاكل على الأصعدة كافة.
ويضرب مثلاً بالخدمات الصحية التي تشهد ضعفاً واضحاً، لأن كل الولاية بها 30 طبيباً عمومياً، ونحو 20 اختصاصياً وكل مستشفيات الولاية التي يبلغ عدد سكانها أربعة ملايين نسمة سعتها 500 سرير فقط. ويوجد مستشفى مرجعي واحد بنيالا.
وفيما يتعلق بالطاقة الكهربائية بخلاف نيالا لا توجد محلية يستمر فيها التيار طوال ساعات اليوم، كما أن الوصول إلى الولاية بخلاف طريق الفاشر غير المكتمل لا يوجد والسكة الحديد لم يتم ترفيعها حتى الآن.
وعلى صعيد التعليم تبلغ نسبة الإقبال على التعليم 32% فقط والطلاب الذين يدرسون في المرحلة الثانوية لا يتجاوزون 10% من النسبة المحددة.
أما الفاقد التربوي فعدده كبير، كما توجد أكثر من ألف مدرسة قشية منها 288 داخل نيالا.
وهذه المشاكل المتعلقة بمظاهر الحياة في الولاية، يسعى المهندس الفكي إلى إعداد خطط على أن جنوب دارفور خرجت من الحرب، ولابد من وضع خارطة واضحة المعالم لكل المحاور للانتقال من الحرب إلى السلام.
استشراف المستقبل
يرنو المهندس آدم الفكي للمستقبل بنظرة متفائلة جداً، لكنها تتميز بالمرونة والواقعية، فقد نجح بعد تولي منصب الوالي أن يبتعد بالحكومة التي يقودها عن متاهة التصنيف الجهوي أو العرقي.
ويتحدث بلغة واثقة ويتحدى أية جهة كانت أن تتهم الحكومة بالميل نحو جهة دون أخرى.
وفي المشاريع يؤكد سعي حكومته، لكي تنتظم التنمية معظم أنحاء الولاية بوضوح وعدالة وشفافية مطلقة.
ولا تشكل تكلفة التنمية هاجساً لدى الوالي، فهو على قناعة بسيطة فحواها أن المجتمع زاد الحكومة لتحقيق ما نصبو إليه.
أما الإمكانيات المادية التي تمكّن من تحقيق خطط التنمية، فإن جنوب دارفور ولاية غنية، فهي تجارية وزراعية.
والدليل عند الوالي أن نيالا تستهلك يومياً أربعة آلاف جوال دقيق، ويذبح فيها ألفا رأس من الماشية يومياً، وهذا يوضح ثراء الولاية التي تعاني فقط من مشكلة إدارة الموارد.
إضافة إلى أن منهج الوالي يقوم على وضع الخطة أولاً، ومن ثم البحث عن الموارد، لأنها يمكن ألا تأتي أولاً.
ولم يسع المجال في مجلسنا مع الوالي في منزله الواسع الأنيق، للخوض في تفاصيل مشاريع التنمية في جنوب دارفور.
لكن المهندس الفكي ينبهنا إلى أن الإطار للتنمية يعتمد على التالي: إن جنوب دارفور هي ثاني ولاية بعد الخرطوم، يبلغ عدد سكانها نحو خمسة ملايين نسمة، تمتاز بنحو 15 مليون فدان من الأراضي الخصبة الصالحة للزراعة، 25 مليون رأس من الثروة الحيوانية، نيالا بها أكثر من 20 بنكاً داخلياً، تجاور ثلاث دول إفريقيا الوسطى وجنوب السودان وتشاد، ينتهي خط السكك الحديدية عندها، هي الرابط بين الولايات الخمس، وتساعد التركيبة السكانية في أن تكون مدينة مركزية في غرب السودان.
وحصاد القول عند المهندس آدم الفكي والي جنوب دارفور أن كل هذه العناصر تملأ نفسه بالثقة، وهي زاده في خطط التنمية التي تجعله يرنو إلى مستقبل مشرق زاهر.
زمن الرحيل
تمتاز اللغة العربية بأنها مفعمة بالمفردات والتعابير التي تصف حالة الشوق والحنين والصبا والُبعاد والشجن والهجران والفراق والوصل واللقاء.
ولكن هذه اللغة تمنعت حين أقلعت الطائرة من مطار نيالا في طريقها للخرطوم بعد رحلة في ربوع ولايات غرب ووسط وجنوب دارفور امتدت لأربع ليال وخمسة أيام حسوماً.
وتقلع الطائرة من المدينة، وهي تحلق منخفضة في أجوائها، كنت مندهشاً من سحر المنظر وروعته وقلت في نفسي منظر عناق الرمل والأشجار على ضفتي وادي برلي (لا يصلح له إلا شاعر).
ظلت صورة الوادي المشهور الساكن بلون الذهب والشمس مشرقة وأراض خضراء والطيور تطير وتهبط على تلك الأرض في هدوء وثبات وشفافية بلورية، في مخيلتي إلى حين اقتراب الطائرة من مطار الخرطوم، وفي النفس قلق غريزي من تغيير المكان والحلول في آخر وما تدخره الأيام من مصادفات قد تكون غير سارة.
هذا البريد الالكتروني محمى من المتطفلين , يجب عليك تفعيل الجافا سكر يبت لرؤيته


انقر هنا لقراءة الخبر من مصدره.